جراح حروب يروي قصة يوم دامٍ بغزة

غزة، رحلة شفاء الجرحى محفوفة بالمخاط
مستشفى غزة الأوروبي استقبل مئات حالات المصابين برصاص جيش الاحتلال (الجزيرة)
حين وقفت أمام طاولة العمليات الجراحية في مستشفى غزة الأوروبي لم أملك ترف التفكير أو الاختيار، كان علي البدء فورا في لملمة الجراح مع الطواقم الفلسطينية العاملة هناك، قبل أن يكون البتر هو خيارنا الوحيد.
 
أنا جراح مختص بجراحة الحروب، اسمي عصام السيد، مصري مقيم في فرنسا، عملت أكثر من 15 عاما في لملمة أجساد من فتكت النزاعات والحروب أجسادهم في باكستان وتشاد واليمن وجنوب السودان والكونغو وجمهورية أفريقيا الوسطى وغيرها، وأنا منذ يوم الأحد 13 مايو/أيار في غزة.

لم أفكر طويلا لأقبل الذهاب إلى غزة، حين تلقيت اتصالا من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ولطالما انتابني فضول لأن أرى هذه البقعة المفصولة عن العالم.

يوم الاثنين 14 مايو/أيار بدأ هادئا، الشوارع تخلو من المارة، مازحني زميلي جراح العظام ريتشارد فيلار: "هل هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة؟" أومأت برأسي وضحكنا، لم نكن نعرف أن هذا هو واقع الأمر.

قبل العاصفة
وصلنا مستشفى غزة الأوروبي في مدينة خان يونس (جنوبي القطاع)، قادنا زملاؤنا الجراحون الفلسطينيون إلى غرف العمليات، كان التعب جليا على ملامحهم فقد عملوا على مدار الساعة لسبعة أسابيع متواصلة وبموارد يستغرب القادم من خارج البلاد كيف استطاعوا إنقاذ كل هذه الأرواح.

في المستشفى، توجد غرفة عمليات بثلاث طاولات في الطابق الأول مخصصة لعمليات غرفة الطوارئ.

وفي الطابق العلوي -حيث قضينا يومنا- خمسة فرق ستعمل طيلة اليوم في غرفة العمليات الرئيسية في المستشفى، تبادلنا أطراف الحديث حتى الساعة 11 صباحا.

وما إن وصلت أول إصابة تم نقلها من الشريط الحدودي الفاصل بين غزة وإسرائيل، حتى هرع الأطباء والممرضون لاستقبالها، الإصابة أصبحت اثنتين، ثم أربع وثماني إصابات، وفي وقت قصير امتلأ المستشفى بالجرحى.

ما يقارب مئتي إصابة، بينهم ثلاثون في حالة الخطر، ويحتاجون تدخلا جراحيا فوريا، توزعت الإصابات بالذخيرة الحية على أجزاء الجسم من الرأس إلى أخمص القدم، ولكن معظمها في الأطراف السفلية، وبصفة عامة في أوقات النزاعات والحروب معظم الإصابات التي تأتينا تكون في الساقين.

يبعد المستشفى ثلاثة كيلومترات عن مكان الأحداث التي وصلت ذروتها في ذلك اليوم، حيث بدأت في الثلاثين من مارس/آذار الماضي على طول الخط الفاصل بين غزة وإسرائيل.

جريح فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي بغزة(رويترز)
جريح فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي بغزة(رويترز)

استمر في الضغط إلى أن تمكن جراح الأوعية الدموية من التعامل معه. هذا المسعف يستحق مدالية بجدارة، لقد أنقذ حياة كان من السهل جدا فقدها بسبب النزيف.

عملت غرف العمليات بكامل طاقتها، التعب الذي بدا في الصباح على الجراحين الفلسطينيين ومساعديهم وطاقم التمريض تلاشى، وبدت غرفة العمليات خلية نحل، كلٌّ يعرف دوره، وكل يعرف ما عليه فعله.

أصرّ الأطباء على متابعة العمل إلى أن انتهوا مع منتصف الليل من التعامل مع كل الحالات الطارئة جدا التي وصلتهم، مكنتهم من ذلك المساعدات التي قدمتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر من أدوية ومستلزمات طبية.

الإصابات الثلاثون التي تعاملنا معها جنبا إلى جنب مع طواقم المستشفى تم إنقاذها، لم يفقد أحدهم حياته، ولا يمكنني التغاضي هنا عن دور من قام بالفرز في غرفة الطوارئ الرئيسية، حيث وصلتنا الإصابات الأكثر خطورة مما أسهم في إنقاذ الأرواح.

الاثنين العصيب
45 دقيقة تفصل المستشفى عن قلب مدينة غزة، حيث عدنا لأخذ قسط من الراحة، في طريق العودة ظلت صور الضحايا وأصوات أنينهم والصراخ الذي كان يصلني من خارج غرفة العمليات ماثلة أمامي، ولا أظن أنني سأقدر على نسيانها في وقت قريب.

في الصباح، شاركنا في المرور اليومي للاطمئنان على أن حالة من أجريت لهم عمليات جراحية، مستقرة، وقد كانت.

انتهى الاثنين العصيب وتنتظر المصابين رحلة شفاء طويلة، في ظل نظام صحي أنهكته الأزمة الإنسانية المستمرة في غزة، وفي ظل شح الموارد.

يمكن أن يتوفر لديك أفضل جرّاحي العالم، ولكن إن افتقدت مثلا المضادات الحيوية، كما هي الحال في غزة، وهذا مثال بسيط؛ فاحتمال حدوث مضاعفات على الجراح المفتوحة تزداد، حينها قد تذهب جهود الأطباء هباء.

يستطيع الجراحون الفلسطينيون، ومن كافة التخصصات أن يكونوا فخورين بما قدموا، وبالمهنية العالية والتفاني في العمل الذي رأيته، ويبقى قلقي على رحلة شفاء الجرحى المحفوفة بالمخاطر.

__________________

*جراح حروب – اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

المصدر : الجزيرة