ماضي إسبانيا بمكيالين.. يهودي ومسلم
المحفوظ فضيلي
بعد أكثر من خمسة قرون على طردهم من إسبانيا إلى جانب مئات الآلاف من الموريسكيين (المسلمين)، بدأ يهود السفارديم استعادة الصلات بماضيهم في تلك الأرض بعد أن فتح لهم المشرع الإسباني الباب على مصراعيه بقانون جديد يمنح الجنسية الإسبانية لأحفادهم.
وبعد تلك القرون الطويلة من الغياب، أقام ملك إسبانيا فيليب السادس أمس الاثنين حفلا بالقصر الملكي احتفاء ببدء سريان القانون التي يعيد لأحفاد اليهود السفارديم الذين طرودا من إسبانيا عام 1492 بعد سقوطها في أيدي الملكة إيزابيلا الكاثوليكية والملك فرناندو، حيث قال في كلمة بالمناسبة "كتبنا صفحة من التاريخ بهذا القانون.. لقد اشتقنا إليكم".
ويعد القانون الجديد تتويجا لمسيرة طويلة من الإجراءات على درب مراجعة إسبانيا أخطاءها في حق اليهود الذي طردتهم من أراضيها، حيث فتحت المجال نحو طريق العودة أمام أحفادهم شريطة تخليهم عن أي جنسية ثانية، بعد أن كان حكام مدريد اعتذروا قبل نحو ربع قرن عما اقترفه أسلافهم في حق اليهود.
وتصف الحكومة الإسبانية الخطوة الجديدة بأنها تصحيح "للخطأ التاريخي" الذي ارتكبته الملكة إيزابيلا الأولى، والتي خيّرت غير المسيحيين في إسبانيا بين اعتناق ملتها أو مغادرة أراضيها، قبل أن تتفاقم محنتهم في ظل حكم الملك فيليب الثالث الذي اتخذ عام 1609 قرارا حاسما بطردهم.
مراجعة الماضي
لكن السؤال الذي يُطرح هو كيف تنظر إسبانيا إلى ماضيها، ووفق أي اعتبارات تعيد النظر في تاريخها وفي علاقاتها بشكل خاص بالمسلمين الذين عمروا أرض الأندلس نحو ثمانية قرون، وشيدوا هناك تاريخا لا تزال معالمه شاهدة على نهضة حضارية وفكرية امتد إشعاعها إلى باقي أنحاء أوروبا؟
فقبل ست سنوات مرت الذكرى المئوية الرابعة لقرار الملك فيليب الثالث طرد الموريسكيين، لكن تلك الذكرى مرت دون صدى كبير في صفوف أحفاد الطاردين، وإن كانت ذاكرة أحفاد المطرودين لا تزال تعج بآثار وآلام الإبعاد والتنكيل.
وفي خضم تلك الذكرى، رفع الكاتب الإسباني خوان غويتسولو صوته ضد صمت بلاده الرسمي، وانتقد تعاملها مع تلك الصفحة المظلمة من تاريخها، قائلا إن "إسبانيا الرسمية والأكاديمية تلتزم صمتا حذرا يعكس مدى انزعاجها من الذكرى". وفي المنحى نفسه، قال المؤرخ رودريغو دي ساياس إن "إسبانيا الرسمية لا ترغب في رؤية ماضيها".
في مقابل المسار الرامي لإعادة الاعتبار للسفارديم، تشهد الساحة السياسية الإسبانية بين الفينة والأخرى تحركات محدودة لإعادة الاعتبار للموريسكيين إقرارا بما ذاقوه أيضا من تنكيل وتصفية وطرد، وعرفانا بإسهاماتهم في بناء وتعمير إسبانيا طيلة قرون طويلة، لكن تلك الخطوات لم تتبلور في قوانين وقرارات نافذة.
خوان غويتسولو انتقد صمت بلاده الرسمي لدى مرور الذكرى المئوية الرابعة لطرد الموريسكيين، وقال إن ذلك الصمت يعكس مدى انزعاج إسبانيا من الذكرى |
انحياز مدريد
ومنذ أن بدأ الحديث قبل نحو سنتين عن التوجه الإسباني لإعادة تجنيس أحفاد اليهود، تعالت أصوات منتقدة في صفوف الموريسكيين، الذين طرودا في ظروف تجمع الكثير من المصادر والوثائق على أن هذا الطرد كان بمثابة "تصفية عرقية ودينية حقيقية".
ووصفت شخصيات كثيرة من الموريسكيين، الذين استقر أغلبهم في بلدان شمال أفريقيا وخاصة في المغرب، ذلك التوجه بأنه كيل بمكيالين، وانحياز لليهود على حساب المسلمين الذين كان عدد المطرودين منهم يفوق بكثير عدد اليهود ممن فروا من محاكم التفتيش ومن الرهبان الذين سموا أنفسهم "كلاب الرب"، وكانت مهمتهم التفتيش عن عقائد غير المسيحيين في إسبانيا.
ويبدو أن مأساة الموريسكيين ستظل مطروحة على بساط التاريخ، وفي محافل السياسة والثقافة، وفي حراك المجتمعات، حيث لا تزال فعاليات كثيرة -خاصة في المغرب- تنتظم في إطار جمعيات مدنية ومنتديات فكرية وثقافية تدعو الحكومة الإسبانية للاعتراف رسميا بمأساتهم وتطالبها أيضا بتعويضات معنوية ومادية عما لحق بهم جراء طردهم من ديارهم في إسبانيا.