عرفات في ذكرى رحيله السادسة

جيفارا البديري


فراس نموس

ست سنوات مضت على رحيل "الختيار" لكن إرثه لا يزال حيّا، فالرجل الذي بدأ مناضلا وشاخ مفاوضا ومات محاصرا قد ملأ الدنيا وقسم الناس، فهو عند قوم أيقونة النضال ورمز الانتماء لفلسطين، وعند آخرين رجل ساق الثورة إلى غير غاياتها واستبدل بالخنادق الفنادق وأوسع أعداءه تقبيلا.

لم يكن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) سياسيا صرفا، فبحكم بداياته الثورية وعمره الذي قضاه رأسا لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ 1969 ومعايشته أحداثا دموية خاضتها حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، لم يستطع أن يقايض كل شيء بأي شيء، ولم يقبل حلولا يتمناها من جاء بعده، بل استطاع أن يراوغ دون أن يثبت على نفسه أنه تنازل عن حق أصيل من حقوق الشعب الفلسطيني.

رحل أبو عمار وخلف من بعده خلف درجوا على طريق المفاوضات وغذوا فيها السير، واستمدوا شرعية تفاوضهم من تفاوضه، فتحت قيادته بُدّل ميثاق المنظمة عام 1996، وأقرت التعديلات عام 1998، وفيه تخلى الرفاق عن الثورة واتجهوا للنضال السلمي وفقا للشرعية الدولية، وأدمنوا زيارة العواصم الأوروبية حينا في العلن وأحايين في السر. بيد أن المفاوضين الجدد لم يمتلكوا قدرة عرفات على لبس البزة العسكرية من حين لآخر.

لقد كان عرفات قادرا على قول "لا" كما تقول وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، وكان يخشى أن يتهم بالخيانة إذا فرط في حقوق أساسية كالقدس وحق العودة، ولذا فشل اتفاق كامب ديفد عام 2000، ولم يبال عرفات بأن يغضب الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون ويغادر دون أن يوقع، ومع ذلك فهو معبد طريق المفاوضات من مدريد إلى كامب ديفد مرورا بأوسلو.


تشييع إسرائيليين قتلا في عملية أثناء انتفاضة الأقصى (رويترز)
تشييع إسرائيليين قتلا في عملية أثناء انتفاضة الأقصى (رويترز)

مفاوض بأسلحة
استطاع أبو عمار أن يفاوض ويسير في طريق اللقاءات الدبلوماسية مع الإسرائيليين ويقمع الفصائل التي تناوئه وترى في اتفاقيات مدريد وأوسلو ضياعا للقضية الفلسطينية، بل وصل الأمر بسلطته أن ارتكبت مجزرة بحق المصلين في مسجد فلسطين بغزة عام 1994 وذلك في العام نفسه الذي قتل فيه مستوطنٌ يهودي مصلين في الحرم الإبراهيمي.

بيد أنه في الوقت نفسه -ولما لم يصل إلى نتيجة مع الإسرائيليين عبر المفاوضات- خفف من قبضته الأمنية على فصائل المقاومة، وغض الطرف عن عملياتها العسكرية بعد أن قتلت سلطته واعتقلت مقاومين كثرا، وذلك في مسعى للضغط على الإسرائيليين واللعب بكل البطاقات المتاحة، ومنها كتائب شهداء الأقصى.

كان عرفات يدين المقاومة المسلحة أمام الصحافة، لكن يُذكر له أنه أسبغ حمايته على مطلوبين أمنيين بقوا معه في المقاطعة أثناء حصاره ولم يقبل بتسليمهم أو التخلي عنهم كما حدث لاحقا بعد وفاته مع السلطة الحالية، ومنهم العميد فؤاد الشوبكي -المتهم بأنه وراء عملية سفينة الأسلحة كارين أي- والأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات.

وقد تيقن عرفات أن الحلقة ضاقت عليه بعد سفينة الأسلحة -سواء أكان حقيقة وراءها أم كانت من اختلاق إسرائيل- لكنه رغم ذلك بقي يقاوم السقوط.

واضطر عرفات عام 2003 لتعيين الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس رئيسا للوزراء وللتنازل له عن جزء من صلاحياته دون التخلي عن السيطرة الأمنية، لتنتهي هذه التجربة باستقالة عباس ثم تدهور حالة عرفات الصحية إلى أن توفي عام 2004.

وتمكن عرفات بدهائه من الإبقاء على خيار المقاومة، يشجعه كلما فترت المفاوضات أو اضطرته الدبلوماسية لذلك، ويقمعه ويقدم رجاله قرابين إذا اقتضت مصلحته السياسية ذلك، لكنه لم يلغ المقاومة من وسائله المعينة على تحقيق تطلعاته السياسية، فأبقى على سفنه دون إحراق بخلاف الرئيس الحالي محمود عباس الذي صرح مرارا بأن المفاوضات هي الخيار والخيار الوحيد لنيل الحقوق.


عباس يفاوض بلا أسلحة عرفات
عباس يفاوض بلا أسلحة عرفات

الخيار الوحيد
وقد فاوض صاحب الخيار الوحيد وما زال يفاوض، لكن بلا أسلحة عرفات التي برع في استخدامها، فتحولت المفاوضات إلى هدف عوض أن تبقى وسيلة.

وأمام كل تعنت إسرائيلي ودعم أميركي يلجأ عباس إلى جامعة الدول العربية لتؤمن له غطاء تفاوضيا على مقاس المشكلة، ثم يزيد التعنت الإسرائيلي فتجتمع لجنة المتابعة العربية لتوسع من الغطاء التفاوضي، وكل ذلك في سبيل الإبقاء على الخيار الإستراتيجي في المفاوضات.

لقد أخذ عباس عن سلفه عرفات مبدأ ضرب المقاومة، لكنه لم يفلح في الاستفادة منها، وفاقه في التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وأصبح قصارى مقاومته أن يلجأ لتفعيل المصالحة مع حماس -ولو ظاهريا- كلما راوحت المفاوضات مكانها أو بالغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تجاهله وفعل ما يعنّ له.

وبعد 13 عاما على إعلان عرفات من القاهرة أن السلطة الفلسطينية قد تعلن قيام دولة من طرف واحد بعد نهاية المرحلة الانتقالية، لا تزال السلطة تهدد بأنها قد تلجأ للخيارات الأحادية، لكنها تخشى أن تجلب على نفسها نقمة أميركية إذا أقدمت على مثل هذا التصرف، فتحذيرات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ما زالت غضة في آذان المسؤولين الفلسطينيين.

مضى عرفات (1929-2004) ولكن لغز وفاته لم يحل، فهل سُمم حقا كما يقال، وهل تواطأ على تسميمه عباس ومحمد دحلان كما يتهمهما أمين سر اللجنة المركزية العليا لحركة فتح فاروق القدومي؟ ولماذا لم يفتح تحقيق جدي في المسألة، أم أن الرجل أصابه ما كتب على بني آدم فمات ولكننا افترضنا قتله حتى نمنحه لقب الشهادة؟

المصدر : الجزيرة