حقوق الإنسان: مفاهيم خاطئة

عبد الحسين شعبان -الحقوق ليست اختيارا، بل واجب. وعلى مؤسسات الدولة جميعها الالتزام باحترامها واعتبار أن الأمن ممكن مع احترام الحقوق.

عبد الحسين شعبان*

تسود بعض المفاهيم الخاطئة إزاء حركة حقوق الإنسان والمدافعين والناشطين في هذا المجال، ويتمازج في أحيان كثيرة الموقف المبدئي الحقوقي بالموقف السياسي، سواء كان مؤيدا أو معارضا، فكلاهما يريد من الحقوقي أن يقف إلى جانبه وينحاز إلى صفه، وإلا فإنه سيكون منحازا إلى خصمه أو عدوه.

في حين أن على الحقوقي، وهكذا يفترض، أن يضع مسافة واضحة ومحددة بين الاثنين، فهو ليس ضد حكومة أو جماعة سياسية بعينها وسيكون ضدها إذا ما انتهكت حقوق الإنسان، بغض النظر عن طبيعة معارضتها، مثلما هو مع الضحية دائما، وبغض النظر عن أفكارها ومعتقداتها، فهو يقف معها عندما تنتهك حقوقها، حتى وإن كان ضد توجهاتها.

وبمناسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في 10 ديسمبر/كانون الأول 1948 ويحييه العالم كل عام، سنناقش مجموعة من الآراء والأفكار المتعارضة وذات الصلة بهذا الصعيد.

ولأن الوعي الحقوقي ما زال ضعيفا والتراكم بطيئا وسطوة الأيديولوجيات والتراث السلبي للصراعات قويا، تولدت طائفة من المفاهيم الخاطئة إزاء حقوق الإنسان وحركتها المهنية، منها:

  • أن حركة حقوق الإنسان والناشطين في هذا المجال يعملون للدفاع عن المجرمين وأحيانا "الإرهابيين"، بل والقتلة المرتكبين. وهو فهم خاطئ وسطحي، ذلك أن الحركة والناشطين في هذا الحقل يهمهم حماية حقوق "المتهم" بغض النظر عن أفعاله التي يحدد القضاء وليس غيره نوع العقاب الذي يستحقه. ومهمة المدافعين عن حقوق الإنسان هي الدفاع عن حقوق المتهم، ولا سيما عدم تعرضه للتعذيب أو إلى أي من أشكال المعاملات الحاطة بالكرامة مثلما يقفون بقوة إلى جانب حقه في محاكمة عادلة ونزيهة وعلنية.

ولهذا يتبادر إلى أذهان بعض السياسيين أو ممن لا يعيرون اهتماما بالقواعد القانونية، والمعايير الحقوقية الدولية إلى أن الناشطين الحقوقيين يدافعون عن المذنب أو المرتكب للإثم أو المجرم، الذي هو بنظرهم يستحق العقاب والحرمان من حقوقه أو حتى التعرّض للتعذيب أو للأذى النفسي والإذلال وغير ذلك.

بعض السياسيين لا يفكرون بحقوق الغير. إنهم يفكرون بحقوقهم، كمجموعة دينية وإثنية، فئة، طائفة، حزب، جماعة، منظمة، ولا يضعون في اعتبارهم أن هناك حقوقاً للآخرين
  • بعض السياسيين لا يفكرون بحقوق الغير. إنهم يفكرون بحقوقهم، كمجموعة دينية وإثنية، فئة، طائفة، حزب، جماعة، منظمة، ولا يضعون في اعتبارهم أن هناك حقوقا للآخرين، وعندما يتصدى مناضلو حقوق الإنسان لحقوق الغير يتبادر إلى الذهن أن في ذلك إضعافا لحقوق تلك المجاميع، أو أن هؤلاء ضدهم.
  • هناك اعتقاد سائد لدى الكثير من الأوساط السياسية الحكومية وغير الحكومية، أن حقوق الإنسان فكرة مثالية وغير واقعية، وأنها لا تنسجم مع أوضاعهم وحياتهم، وبالتالي فإن الحديث عنها إنما هو ممالأة للغرب وقد يكون تواطؤا معه، وعلى كل حال هي تمثل أفكارا مريبة، وأحيانا ينصرف الذهن إلى اقتصارها على جوانب خاصة ليست مطروحة على الصعيد العربي، مثل الزواج المثلي وغيره من القضايا التي لا تشغل اهتمامات الشارع العربي.

وينسى هؤلاء أن هناك رافدا عربيا وإسلاميا لفكرة حقوق الإنسان، وعلينا أن نفتخر به مثلما هناك روافد صينية وهندية وامتدادات من الحضارتين الإغريقية والرومانية، وصولا إلى الماغناكارتا  "العهد العظيم" والدستور الأميركي في العصر الحديث والثورة الفرنسية، حتى إن ثورة أكتوبر "الاشتراكية" في روسيا كان لها رافدها في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي ميدان حق تقرير المصير.

وإذا كان العالم كله يتبارى في إثبات رافده وتراثه المتساوق مع القيم الإنسانية الدولية ومع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، فلماذا نتبرأ نحن منها؟ ولدينا رافدنا القوي والمؤثر، والذي نعده أهم إسهام لنا في ميدان حقوق الإنسان، وهو "حلف الفضول" الذي سبق الإسلام، وهو أول رابطة لحقوق الإنسان في العالم، وذلك حين اجتمع فضلاء مكة في بيت عبد الله بن جدعان، واتفقوا على ألا يدعوا مظلوما من أهلها أو من سائر الناس ممن دخلها، إلا ونصروه على ظالمه وأعادوا الحق إليه.
وفي تراثنا الغني هناك الكثير من النصوص والممارسات ذات الطابع الإنساني التي تشكل مرجعية فكرية، سواء ما جاء به القرآن الكريم أو السنة النبوية المعطرة أو فترة الخلفاء الراشدين أو في الفقه العربي الإسلامي، خصوصا على أيدي فقهاء متنورين أضفوا عليه مسحة إنسانية للسلام والتسامح والتنوع والتعددية.

  • الاعتقاد الذي يكاد يكون راسخا في تعارض حقوق الإنسان مع منظومة الأمن، وبالتالي تقديم الأخيرة على الأولى، وقد يبرر انتهاك الأخيرة للأولى بزعم الحفاظ على الأمن، في حين يعد الأمن والحقوق وجهين لعملة واحدة، وهما متلازمان ومترابطان على نحو عضوي لا انفصال بينهما، وأي إخلال بمعادلة احترام حقوق الإنسان ستؤدي إلى إخلال الأمن، وعلى مؤسسات الأمن وأجهزة الدولة والمجتمع المدني التيقن من أن الأمن سينعدم إن آجلا أم عاجلا عندما تنتهك الحقوق، مثلما لا يمكن التمتع بالحقوق في ظل غياب الأمن، والحق في الأمن هو مبدأ أساسي في منظومة حقوق الإنسان.
  • يميل الاعتقاد لدى أوساط غير قليلة إلى أن منظمات حقوق الإنسان تنشغل بضحايا الانتهاكات والتجاوزات على حقوق الإنسان، وتهمل في الوقت نفسه ضحايا الجريمة، ولا سيما الجريمة المنظمة مثل الاتجار بالبشر وجرائم التجارة بالسلاح وغسل الأموال والمخدرات وغير ذلك. ولهذه الأسباب فإن العلاقة بين أجهزة الأمن والشرطة حتى في البلدان المتقدمة تكون شائكة مع منظمات حقوق الإنسان، وفي حين تعد الأولى مرجعيتها القانون الوطني، فإن مرجعية الثانية في الغالب هي القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ولذلك ترى اختلافاً في زاوية النظر بين أجهزة الأمن ومنظمات حقوق الإنسان، وإذا كان ذلك يتم بالحوار والتفاهم في البلدان المتقدمة، فإنه يتسبب في التعارض والتناقض أحيانا في بلدان العالم الثالث.

• الانطباع الخاطئ عن علاقات منظمات حقوق الإنسان بالمعارضات السياسية، وهو أمر شديد الحساسية حيث يؤدي إلى توتر العلاقة بين أجهزة الأمن ومنظمات حقوق الإنسان، خصوصا عندما تنتقد منظمات حقوق الإنسان أجهزة الأمن والشرطة، فينصرف الذهن إلى اعتبارها جزءا من المعارضة، وللأسف تسعى بعض المعارضات لاحتواء أو تأسيس منظمات حقوقية تكون واجهة لها، وبذلك تضر بالحركة الحقوقية وتضعف من صدقيتها، خصوصا عندما تدفعها للتسيس وتعطي مبررا للأجهزة الأمنية لاستهدافها أو إضعاف حجتها، مما يعود بالضرر أيضا على الحركة السياسية.

الشرطة بحاجة لتدريب وتأهيل على احترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما يؤدي إلى إقامة علاقة سليمة مع المواطن أساسها الاحترام المتبادل، وليس العداء والتنافر

وبقدر ما ترتفع درجة المطالبة بضمان مسؤولية الأجهزة التنفيذية في عدم اللجوء إلى انتهاكات أو ممارسات سلبية، فإنها بحاجة إلى تدريب وتأهيل على احترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما يؤدي إلى إقامة علاقة سليمة أساسها الاحترام المتبادل، وليس العداء والتنافر إذا افترضنا أن الهدف هو ضمان الأمن وحماية الحقوق.

  • غالبا يجهل المواطن الصلة بين أجهزة إنفاذ القانون ومعايير حقوق الإنسان، إذ لا بد من توفر أدوات لضمان الامتثال الأسلم للقوانين والسياسات والتعليمات وكذلك لحماية النفس واتباع الأساليب المسموح بها من استخدام القوة المقننة، وذلك ضمن قواعد سلوك وآليات لسماع الشكاوى والإجراءات التأديبية والجنائية لتصحيح الخطأ، وهذه العوامل جميعها تساعد على تعزيز الاحترام للمعايير الحقوقية الإنسانية، خصوصا إذا توفّرت آليات المساءلة السليمة.
  • ينصرف الذهن إلى الجانب السلبي من علاقة منظمات المجتمع المدني مع وزارات الداخلية والأمن والشرطة، نتيجة تراكمات تاريخية مرتبطة بالقمع والتجاوزات، لكن حدة هذه السلبية تكاد تكون انكسرت نسبيا وتحولت بعض منظمات المجتمع المدني بحكم تغييرات في بعض جوانب السلوك، إلى الإيجابية والنقد والمشاركة، بل إن بعضها تعاون مع أجهزة ومؤسسات فيما يتعلق بانتهاكات دولية لحقوق مواطني البلد، سواء في الخارج حيث تعيش جاليات عربية وإسلامية، أو في الداخل عند خروقات قامت بها جهات خارجية، مثلما حصل عند اقتراف أجهزة الموساد "الإسرائيلية" لأمن دولة الإمارات العربية المتحدة باغتيال محمود المبحوح في دبي بتاريخ 19 يناير/كانون الثاني 2010.

وبشكل عام ينقسم خطاب منظمات حقوق الإنسان كجزء من المجتمع المدني إلى ثلاثة اتجاهات، الأول "تعارضي" وبذلك تكون أقرب إلى جماعة المعارضة، أما الثاني فهو "تساومي" وهي أقرب إلى منظمات شبه حكومية، وتحرص على عدم إزعاج الدولة، أما الثالث فهو "الاتجاه التوافقي"، أي عبر التواصل والتفاهم والمشاركة، بحيث يتحول خطابها من الاحتجاج إلى الاقتراح، وهو اتجاه ولد بعد معاناة وبعد تفاهمات مع حكومات ودول وبفعل التطور الدولي في هذا الميدان، وجاء وسط ضغوط من المجتمع المدني العالمي.

ولعل الاتجاه الأخير يمكن أن يكون أكثر فاعلية، في حين أن الاتجاه الأول يمكن أن يؤثر تأثيرا محدودا وجانبيا ويقترب أحيانا من التسيس، في حين أن هذا الاتجاه الثاني أقرب إلى المهنية.

من الاعتقادات الرائجة أن مطالب جماعات حقوق الإنسان تتم عبر التصادم مع الحكومات والاحتجاج ضدها والعداء لها لانتزاع الحقوق منها، في حين أن الاتجاه الفعّال يميل إلى التعاون مع الحكومات لإنجاز وتأمين احترام حقوق الإنسان. ومن خلال القوانين والتشريعات وعبر أجهزتها التنفيذية يمكن تأمين الاحترام للحقوق.

ذلك أن الحقوق ليست اختيارا، بل هي واجب، وعلى مؤسسات الدولة جميعها الالتزام باحترامها واعتبار أن الأمن ممكن مع احترام الحقوق.

—————
* باحث ومفكر عربي

المصدر : الجزيرة