ما هي أولى ذكرياتك؟ وهل حدثت حقا؟

ذكريات طفولة أطفال طفل ألعاب (بيكسابي)
يروي الناس أن أولى ذكريات الطفولة تكون خلال النصف الأول من العام الثالث (بيكسابي)

لوسي جاستيس ومارتين كونواي وشادية أخطر*

يمكنني تذكر طفولتي؛ فأنا أستذكر حين كنت في غرفة فسيحة في عيادة أحد الأطباء. لقد تم تسليمي إلى ممرضة، كان هناك ميزان معدني بارد لقياس وزني. كنت دوما على وعي أن هذه الذكرى غير عادية، لأنها من مرحلة باكرة جدا في حياتي، لكنني اعتقدت أنني ربما لدي ذاكرة جيدة حقا، أو أنه ربما كان الآخرون كذلك يمكنهم تذكر أوقات طفولتهم الباكرة.

ما هو أول حدث يمكنك تذكره؟ كم باعتقادك عمرك حينها؟ كيف يمكنك اختبار ذاكرتك؟ هل هو زاه أم شاحب في خيالك؟ إيجابي أم سلبي؟ هل تستعيد تلك الذكرى الآن كما حدثت في الأصل، من خلال عينيك، أو بكلمات أخرى، هل تشاهد نفسك "تتصرف" في الحدث نفسه عند استعادة تلك الذكرى؟

في دراسة لنا أجريناها مؤخرا، طلبنا من أكثر من 6 آلاف شخص فعل ذات الأمر: أن يخبرونا ما هي أولى ذكرياتهم الذاتية؟ كم كان عمرهم حينها؟ وأنْ يقدروا مقدار العاطفية والحيوية فيها، وكذلك أن يرْووا من أي منظور "رأوا" تلك الذكرى؟

وجدنا أنه في المتوسط يروي الناس أن أولى ذكرياتهم تكون خلال النصف الأول من العام الثالث من حياتهم (3.24 عاما على وجه الدقة). يتطابق هذا بشكل جيد مع دراسات أخرى تتبعت عمر الذكريات المبكرة.

ماذا يعني ذلك بالنسبة لذكرياتي عن وقت كنت رضيعا؟ ربما فقط كان لدي ذاكرة جيدة حقا ويمكنني تذكر تلك الشهور الباكرة من حياتي. في الواقع، وجدنا في دراستنا أن حوالي 40% من المشاركين يخبروننا عن تذكرهم أحداثا من عمر عامين أو أقل، و14% من الناس يستعيدون ذكريات من عمر عام وأقل. ومع ذلك، تشير أبحاث علم النفس إلى أن الذكريات التي تحدث قبل عمر ثلاثة أعوام غير عادية إلى حد كبير، وفي الواقع بعيدة الاحتمال جدا.

‪جميع ذكرياتنا تحوي درجة ما من الخيال‬ جميع ذكرياتنا تحوي درجة ما من الخيال (بيكسابي)
‪جميع ذكرياتنا تحوي درجة ما من الخيال‬ جميع ذكرياتنا تحوي درجة ما من الخيال (بيكسابي)

أصل الذاكرة
يشير الباحثون الذي تتبعوا تطور الذاكرة إلى أن العمليات العصبية التي تتطلبها ذكريات السيرة الذاتية لا تنضج ويكتمل نموها بشكل كامل إلا بين عمر الثالثة والرابعة. وأشارت أبحاث أخرى إلى أن الذكريات ترتبط بتطور اللغة، إذ تسمح اللغة للأطفال بمشاركة ومناقشة الماضي مع الآخرين، بما يمكنهم من تنظيم الذكريات في إطار سيرة ذاتية شخصية.

إذن، كيف يمكنني تذكر وقت كنت رضيعا؟ ولماذا كان هناك 2487 شخصا في دراستنا يتذكرون أحداثا حددوا تاريخها بسن عامين أو أقل؟

أحد التفسيرات لذلك أن الناس ببساطة يعطون تقديرات غير صحيحة عن عمرهم أثناء تلك الذكرى. ففي نهاية المطاف، ما لم يكن هناك دليل تأكيدي، فإن التخمين والحدس هما كل ما نملك حين نحاول تحديد تاريخ الذكريات خلال حياتنا، بما في ذلك الذاكرة المبكرة جدا في مراحلها الأولى.

لكن إن كان التأريخ الخطأ هو السبب وراء وجود تلك الذكريات، فإن من المتوقع إذن أن تكون هذه الذكريات ناتجة عن أحداث شبيهة بتلك التي تكون في ذكريات عمر الثالثة وما بعدها. لكن لم يكن الحال هكذا، فقد وجدنا أن تلك الذكريات المبكرة جدا كانت عن أحداث وأشياء من فترة الطفولة المبكرة (عربة الأطفال وسريرهم وتعلم المشي) بينما كانت الذكريات الأكبر سنا عن أشياء نمطية ومعتادة في الطفولة (الدمى، المدرسة، الإجازات). كان معنى هذا أن هاتين المجموعتين من الذكريات مختلفتان نوعيا، وكذلك يعني استبعاد تفسير الخطأ في تأريخ الذكرى.

إذا أخبرتنا الأبحاث أن هذه الذكريات المبكرة جدا غير مرجحة إلى حد بعيد، وكذلك إذا كان هناك تفسير الخطأ في التأريخ، فلماذا إذن هناك بعض الناس، وأنا منهم، لدينا هذه الذكريات؟

‪الذكريات ليست تسجيلات للأحداث بل تمثيلات سيكولوجية عن النفس بالماضي‬ الذكريات ليست تسجيلات للأحداث بل تمثيلات سيكولوجية عن النفس بالماضي (بيكسابي)
‪الذكريات ليست تسجيلات للأحداث بل تمثيلات سيكولوجية عن النفس بالماضي‬ الذكريات ليست تسجيلات للأحداث بل تمثيلات سيكولوجية عن النفس بالماضي (بيكسابي)

محض خيال؟
استنتجنا أن هذه الذكريات من المرجح أن تكون خيالية، بما يعني أنها في الواقع لم تحدث على الإطلاق. ربما، عوضا عن استعادة حدث وقع لنا بالفعل، نستعيد صورا ذهنية من الصور والأفلام المنزلية والقصص العائلية المشتركة أو الأحداث والأنشطة التي تحدث بشكل متكرر في الطفولة المبكرة.

نقترح الآن أن هذه الحقائق إذن ترتبط ببعض الصور البصرية المبعثرة، وأنها تتجمع معا لتشكل نواة هذه الذكريات الخيالية الباكرة. وعبر الوقت، نبدأ في تذوق هذا المزيج من الصور الذهنية والحقائق كإحدى ذكرياتنا.

ورغم أن 40% من المشاركين في دراستنا استعادوا هذه الذكريات الخيالية، فإن هذا ليس بالأمر المدهش نهائيا. فالنظريات المعاصرة عن الذاكرة تسلط الضوء على الطبيعة البنائية للذاكرة: فالذكريات ليست "تسجيلات" للأحداث، وإنما تمثيلات سيكولوجية عن النفس في الماضي.

بكلمات أخرى، فإن جميع ذكرياتنا تحوي درجة ما من الخيال. في الواقع، هذه إشارة إلى وجود نظام ذاكرة صحي يعمل. ولكن ربما، لأسباب غير معروفة حتى اللحظة، لدينا حاجة نفسية إلى إعادة سرد ذكريات من أوقات لسنا قادرين على تذكرها. وحتى الآن، تظل هذه "القصص" لغزا.
______________
*لوسي جاستيس، محاضرة بعلم النفس، جامعة نوتنغهام ترينت.
مارتين كونواي، أستاذ علم النفس المعرفي، سيتي، جامعة لندن.
شادية أخطر، باحثة ما بعد الدكتوراه، جامعة برادفورد.
هذه المقالة نشرت بموقع ذا كونفرزيشين.

المصدر : مواقع إلكترونية