"أدرنالين" لغياث المدهون.. خارج المجاز داخل المجزرة

"ادرنالين" للشاعر الفلسطيني / السويدي غياث المدهون

*عبد القادر فايز

عن عمد مقصود يقسو غياث المدهون على الشعر في ديوانه الجديد الذي يحمل اسم "أردنالين" الصادر عن دار المتوسط في إيطاليا. بعد التفكير مليا يقرر المدهون أن يجر الشعر من يديه إلى حديقة خلفية غير مألوفة وهناك يجرده تدريجيا من المجاز ويرفع عنه دفعة واحدة أقنعة الاستعارات وعباءات الكناية ويقدمه عاريا إلا من المعنى الذي يتبختر مختالا خارج دراما التأويل.

في "أدرنالين" لا لبس يؤرق المخيال ولا طرق التفافية للغة، بل قصيدة تسقط على الواقع فتهشمه وتنسل إلى خلاياه لتعيد ترتيب التفاصيل، وفي لحظة خاطفة لا تبدو عبثية يضخ الشاعر في قلب القصيدة دفقة من الدهشة تبقيها ندية دون السقوط في فخ المباشر الفج أو الانزلاق إلى اليومي العقيم.
في "أدرنالين" يحترف غياث صناعة الدهشة:
حسنًا.
فلنُسمِّ الأشياءَ بمسمّياتِها.
الكُتُبُ مقابرُ للقصائدِ.
البيوتُ خيامٌ إسمنتيةٌ.
الكلابُ ذئابٌ، ارتضتِ الذُّلَّ.
سجّادةُ الصلاةِ تذكّرُنِي ببساطِ الريح.
غرفتي وقعتْ بحبِّ حذائِكِ الأخضر.
أنا أغرقُ فيكِ، كما يغرقُ السوريّونَ في البحارِ.
يا إلهي.
انظري إلى أين أوصلتْنا الحرب.
حتّى في أسوأ كوابيسي، لم يخطر لي
أنَّنِي في يومٍ من الأيّامِ.
سأقولُ في قصيدةٍ:
أغرقُ فيكِ، كما يغرقُ السوريّونَ في البحار.

حين يبدأ المدهون بتفكيك كيمياء الواقع إلى عناصره الأولى لا يجد أداة حقيقية لذلك سوى أن يتعامل مع الشعر كمختص في الفيزياء، أو أن يتعامل مع العلم الساكن والحركي كمختص في فلسفة الكلمات، يحدث ذلك في "أدرنالين "حين يفرق شاعرنا بين النظر إلى الشيء ككل وهو فعل قسري يحكم المعرفة بمعناها التجريبي العلمي وبين التأمل باعتباره أداة للعبث بالتفاصيل في مساحة الخيال والتمني وإعادة تركيبها بنوع من التحدي المعنوي فقط لتغدو المسافة بين التجربة الذاتية كمنتج شعري والتأمل كفعل فردي شبه معدومة.

undefined

فيزياء وشعر
وفي وقت مباغت يسقط المدهون التجربة على التأمل ليصطدم الذاتي القائم على "أنا" بكم هائل من الجمعي الذي يعبد "نحن"، هكذا تصبح الفيزياء مغرية للشعر ويغدو الشعر أحد أهم قوانين الدهشة العلمية لكن بطريقة المدهون المباغتة:
كلُّ قذيفةٍ تسقطُ على دمشقَ، إنَّمَا تُمَزِّق صفحةً من كتاب ديكارت.
الفيزياء.
لعنةُ اللهِ على الفيزياء.
لماذا يغرقُ المهاجرونَ، وبعدَ أنْ يلفظوا أنفاسَهُم الأخيرة يطفونَ فوقَ وجهِ الماءِ؟
لماذا لا يحدثُ العكسُ؟
لماذا لا يطفو الإنسانُ حين يكونُ حيَّا، ويغرقُ حين يموتُ؟

في قصيدة "الحليب الأسود" يكشف المدهون عوراته كافة، في شمال السويد تزوره الحرب وتجلس على حافة سريره وكأنها شهرزاد هذا الزمان القادمة من الشرق ملطخة بالدم والمأساة، تلعب الحرب لعبة الوجود مع غياث حين تعقد مقارنة بين أنا الشاعر وعالمه الداخلي المجنون الخاضع لسرديات الحرب والدم وبين خارجه الهادئ الرتيب، في المقطع أدناه يبدو المدهون كمن يسير على حبل مشدود بين داخله المدمى وخارجه الرتيب:
"في تلك الأيّام، كنتُ أهمسُ في أُذنكِ بما يهمسُ به رجلٌ لامرأةٍ حين يأكلها، وفي نفس الزمكان الذي كنتِ تنامين فيه بهدوءٍ مثل بحيرةٍ في شمال السويد، كانتِ الحربُ تجلسُ على حافة سريري كأنّها زوجتي، وكانت آيات القرآن التي ضربَني معلّم الابتدائية كي أحفظها، هي الشيءُ الوحيدُ الذي يساعدني على النوم، يا الله، لقد أكلَ الذئبُ قطعةً من قلبي، ودمّرتِ البراميلُ دفتري. يا الله، لقد أكلني الذئبُ حقيقةً لا مجازًا، وأغرقَ المتوسّطُ مائي".
"وفي نفس الزمكان الذي أتمتّعُ فيه بالرفاهية في أقصى شمال أوروبا، في بلدٍ يحوي سبعة وتسعين ألفًا وخمسمئة بحيرة من الماء العذب، تخبرني أمّي أنّها عطشانة، فأتذكّر رواية الغريب..".

حضور الأنثى
قبل أن ينهي المدهون تدفق الأدرنالين وفي القصيدة ما قبل الأخيرة تحضر الأنثى، أنثى الشاعر التي تتجول في حقول الحب والحرب، ترى الدمار وتغازل معشوقها بكيمياء العلم.

في هذه القصيدة يعود غياث بالحب إلى جماله الأول إلى حبو البدايات حين كان طافحا بالأدرنالين، حين نحب الحياة بهيئة امرأة أو نحب امرأة وكأنها كل الحياة، وربما هذا ما يفسر أن يختار شاعرنا عنوان القصيدة "وكانت دمشق تبتعد"، كأنها الحياة التي أحبها تتبخر وكأن المرأة التي عشقها تذبل في الغياب.

تلك هي دمشق أجمل النساء في عيون المدهون كانت تبتعد بينما هو ساكن متسمر في مكانه يقلب الدهشة ويغرق في زيت الشمال، شمال الحياة الذي يتعارض بالضرورة مع جنوب الهوية، أن تحب يعني أن تعود وهذا بالضبط ربما ما يميز هذا المدهون، هذا الشاعر حين يكتب:  
"حين غادرتُ دمشقَ، كنتُ أنا ثابتًا في مكاني، وكانت دمشقُ تبتعدُ، هذا تحديدًا الذي حاولَ آينشتاين أنْ يقوله في النظرية النسبية، والذي حاول ويتمان أنْ يقوله في أوراق العشب، والذي حاولتُ أنا أنْ أهمسهُ في أذنكِ حين كنتِ تحاولين أنْ تحبّيني.
كانت دمشق تبتعدُ، وكان قلبي ملفوفًا بعناية في حقيبةِ السفرِ، قلبي الذي تعرفينه جيّدًا، كان يعوي مثل ذئبٍ في صحراء الأردن، وأنا أقصُ الأثر خلف جوعٍ قديمٍ، لأني لم أشبعِ الحبّ مُذْ غادرتْني دمشقُ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله المسْتَعَانُ".

ينهي المدهون ديوانه بعودة خاطفة إلى الفيزياء والشعر والمأساة معا، ويقدم وصفة مكثفة جدا من الألم الواقعي، الألم الحقيقي الذي يشهد على بقائنا أحياء أو ذلك الذي يداهمنا بسرعة الضوء فلا يمتلك وقتا لتغليفنا في شراشف بيضاء أو عزف موسيقى جنائزية، هكذا يهبط فجأة، تماما كأن تغرق في المتوسط وأنت تحلم:

فالأجسامُ التي نراها في المرآة تبدو أقربَ ممّا هي عليه في الواقع
وتلك التي تحملُ أرواحنا أكلها حيوانٌ مفترسٌ، يُسمّى البحر الأبيض المتوسّط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*شاعر وإعلامي فلسطيني

المصدر : الجزيرة