كافكا اليهودي مات وإصبعه على خارطة فلسطين

كفكان
 
بين السوداوية المطلقة والانتماء المطلق للجذور اليهودية نبحث عن قلم كافكا الكاتب التشيكي الذي ولد في الثالث من يوليو/ تموز عام 1883 وتوفي في نفس اليوم من عام 1924 فنجده وهو الذي قلما يرصد سوى في دهاليز الظلام السرمدي لرواياته التي تجسد عدم مصالحة مع الذات ومع المجتمع الذي أنجبه.
 
نكتشف كافكا الكاتب المبدع لروايات مثل "المحكمة" و"المسخ" و"في مستعمرة العقاب" و"القلعة " و"القضية" و"بنات آوى والعربي"، في تصويره وتجسيده لجزئيات معانيه يخدم قضيته بما يشبه الهلوسة والحلم, لذلك لا نستغرب إذا ما رأينا كاتبا كبيرا مثل الفرنسي جان جينيه يقول عنه "لا شيء يمكن فعله مع كافكا هذا. فكلما اختبرته، واقتربت منه أراني أبتعد عنه أكثر" وإن كان لهذه المقولة عدة أوجه من التفسير.
 
استطاع كافكا إقناع القارئ بأنه نجح في سد فجوة المزق الأبدي بين وجوده ومغزى وجوده وبين كتاباته وتعرية واقعه وفضحه ابتداء من انتقاده لإقطاعية والده وغطرسته وانتهاء بما يلمسه قارئه من نفور من برج عائلة والدته العاجي وحقده على مدرسته الابتدائية التي قتلت فيه روح الإبداع .. كل ذلك تعرية دون محاولة من الكاتب لتغيير الواقع.
 
إلا أنه من ناحية أخرى ربما فشل في رتق الخرق وتوضيح السبب الخفي لفشله كعاشق واستغلاله للعواطف في مجال إخصاب أنوثة كتاباته وسر انتصار القلم في كل قصة حب يعيشها ليعود بكتاب جديد بدل امرأة تسكب دموعها على عطشه.
 
ولعل كافكا الغامض بكل تشاؤمه ونهاياته القاتمة المختومة في كتاباته بالقتل والإعدام والتلاشي لأبطال رواياته يكاد يعتبر كائنا تدميريا لكل ملاحق الحياة وداعية إلى الهدم لكل مفردات الوجود ومعاني الاستمرارية الكونية المعرفية، إلا أن ما نلاحظه هو اختلال هذه النظرة الفلسفية المغلفة بالأدب والرؤية التي عرف بها الكاتب التشيكي المولد واليهودي الأصل والألماني الثقافة.
 
الوعي باليهودية
وهذا الاختلال في الرؤية الأدبية يبدو واضحا في انتقاله من اللاوعي في الكتابة عن الإحباط والتمرد واليأس إلى الوعي التام حينما يكتب عن اليهود معتبرا إياهم شعب الله المختار لدرجة اعتزازه بكونه متصوفا يهوديا. يقول كافكا في حالة وعي تام متحدثا عن الوطن الغائب المؤمل وهو على فراش الموت "حتى لو لم أذهب إلى فلسطين فإنني أود أن أموت وأصبعي موضوع على الخريطة".
 
وبرغم أنه كان ينظر إلى بعض المعتقدات اليهودية باستهجان واستغراب وأن الشعب اليهودي قد حلت عليه لعنة الرب فإن ذلك لم يثنه عن استمراره في الوعي وتسخير قلمه في خدمة قضيته وفي رسم صورة للآخر ولليهودي كما هو الحال في روايته "بنات آوى والعربي" التي يختفي فيها كافكا في ثوب أوروبي, لا أعتقد أن القارئ يستعصي عليه أن يكشفه في وعد بلفور أو في شخصية بلير أو بوش.

 
لقد كان الكاتب مشغوفا بالكفاح وهنا نتفهم ونحترم إصرار كافكا على وعيه بموقفه وخروجه من عباءته كجزء من كفاحه من أجل الكفاح ولعل ضياعه بين الانتماءات اليهودية والتشيكية والألمانية أثر كبيرا في نفسيته وفي انشغال كتاباته باليأس والحرمان والحزن والعذاب وعلى سلوكه حيث أمضى معظم حياته في عزلة تامة كموظف بسيط في شركة للتأمينات التحق بها رغم حصوله على الدكتوراه في القانون.
 
في روايته "بنات آوى والعربي" يسرد القصة رجل قدم من أرض الشمال مع قافلة يقودها عربي مع عرب آخرين إلى الصحراء, حيث يقول هذا الرجل السارد الذي يرى الناقد واكيم أنزولد أنه كافكا يقف وسط رواياته  يقول "نصبنا خيامنا في الواحة ونام الرفاق ومر رجل عربي سمق القوام أبيض كان انتهى من رعاية الجمال وذهب إلى مخدعه".
 
ويستمر السرد بهذه الطريقة إلى أن يسمع الرجل الشمالي عواء بني آوى الضائعين الذين ما يلبثون أن يحيطوا به طالبين دفءه ورعايته وأن يأخذ لهم الثأر من العرب الذين يصفونهم بالوساخة والتخلف والعنجهية ويحتجون في سرد الرواية بأنهم كانوا ينتظرونه كمخلص لهم.
 
تتوالى أحداث السرد والصراع في وطأة الليل ولا يعدم الرجل القادم من الشمال عذرا يسوقه بعد أن أحاطه بنو آوى بالتمجيد محاولين كسبه بكل أساليب التملق الحضاري والثقافي والديني مكرسين كذلك نشيد البغض والكراهية وكل هدفهم هو مساعدتهم في إفناء العرب كي يستنشقوا الهواء بلا رائحة عربي.
 
وعندما يصحو العربي ويمسك سوطه ليضرب به بني آوى يمسك الرجل القادم من الشمال ذراعه لتنتهي القصة وسط جعجعة.
 
إن فهم الكاتب الكبير فرانز كافكا مستعص جدا ومحاولة الموافقة بين الوعي واللاوعي عنده تكاد تكون ضربا من الجنون، وليس غريبا ذلك التيهان مع كاتب يكتب غير ما يتكلم ويتكلم بغير ما يفكر ويفكر في غير ما يجدر به أن يفكر فيه ليعمق أعماق حلكته, كما يقول هو نفسه, فهل كان كافكا صادقا حينما كان فأسا يكسر بحر الجليد داخلنا.

_____________
الجزيرة نت
المصدر : الجزيرة