المسيحيون والمقدسات المسيحية في القدس

غلاف كتاب المسيحيون في القدس1

عرض/ محمود الفطافطة
يتتبّع كتاب "على درب الآلام.. المسيحيّون والمقدّسات المسيحيّة في القدس" تاريخ الوجود المسيحي بالقدس وحاضره، ويسلّط الضوء على القدس ومكانتها لدى المسيحيين الذين ينظرون إليها على أنّها المركز المسيحي الأوّل والأهمّ في العالم. ويؤكد الكتاب أن الاعتداءات الإسرائيلية تهدد الوجود المسيحيّ في القدس بصورة غير مسبوقة منذ احتلال فلسطين عام 1948، وينعكس ذلك عبر التناقصص  المستمر لأعداد المسيحيين في مدينتهم.

ويستعرض الكتاب تاريخ الوجود المسيحي في القدس وواقعه ليس لمجرد الاستعراض، بل لتأكيد غنى هذا المكوّن كجزءٍ أساسي من النّسيج المقدسي والفلسطيني عموما، وهو في الوقت ذاته تظهيرٌ لجرائم الاحتلال بحقّ المقدسيين المسيحيّين والتي تهدف إلى اجتثاثهم من أرضهم وتهجيرهم منها.


- العنوان: على درب الآلام.. المسيحيّون والمقدّسات المسيحيّة في القدس- المؤلفة: محمود حبلي - الناشر: مؤسسة القدس الدولية-بيروت- عدد الصفحات: 114 صفحة- تاريخ النشر: 2016 (ط 1)
– العنوان: على درب الآلام.. المسيحيّون والمقدّسات المسيحيّة في القدس- المؤلفة: محمود حبلي – الناشر: مؤسسة القدس الدولية-بيروت- عدد الصفحات: 114 صفحة- تاريخ النشر: 2016 (ط 1)

وتم هذا التهجير سواء بالتضييق عليهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية أو في استهداف حقهم في حرية العبادة ومنعهم من الوصول إلى كنائسهم؛ بالتوازي مع الاعتداء على المقدسات المسيحية والإساءة إلى السيد المسيح وأمّه مريم ضمن سياقات ترعاها دولة الاحتلال، حتى إن تظاهرت بأنّها تحاول منعها.

يتكون الكتاب من جملة عناوين، بالإضافة إلى مقدمة وتقديم وخاتمة وقائمة مراجع. جاء في المقدمة التي خطها رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس المطران عطا الله حنّا، أن القدس تُعتبر في التاريخ المسيحي أمّ الكنائس؛ لأنها أول كنيسة شُيّدت في العالم، ومنها انطلقت البشارة المسيحية إلى مشارق الأرض ومغاربها. ويقول: "إن نسبة المسيحيين في فلسطين اليوم لا تتعدى الـ1%، وهذه انتكاسة بالمقاييس كافة، ليس فقط للمسيحيين وحدهم وإنما لأبناء شعبنا الفلسطيني كافة".

قلة لا أقلية
ويضيف: "المسيحيون الفلسطينيون، وإن كانوا قلة في عددهم إلا أنهم يرفضون أن يُنظر إليهم كأقلية أو جالية أو جماعة منعزلة عن المحيط العربي والفلسطيني.. نحن جنبا إلى جنب مع إخوتنا المسلمين؛ ننتمي إلى هذه الأمة العربية الواحدة".

ويشدد حنّا على أن مسيحيي فلسطين لا يطلبون ولن يطلبوا من الغرب أية حماية؛ لأن هؤلاء "ليس هدفهم الحفاظ على الحضور المسيحي في مشرقنا العربي، وإنما هم يسعون للحفاظ على مصالحهم. من يحمينا هو تاريخنا وجذورنا وتراثنا، من يحمينا هو تكريس ثقافة الحوار والتلاقي والتفاهم والأخوة والوحدة بين مكونات أمتنا العربية كافة.

أما التقديم، فتضمن كلمة الأمين العام لمؤسسة القدس الدولية ياسين حمود، حيث أكد فيها أن المؤسسة أدركت منذ بداية تأسيسها المخاطر المحدقة بالوجود المسيحي الأصيل في القدس، فكرّست من جهدها وبرامجها ما يسهم في ردّ الهجمة الإسرائيلية عن المسيحيين المقدسيين ومقدّساتهم.

ويوضح: أن الجهود المبذولة لمواجهة هذه الهجمة غير كافية، وغيابها أو ضعفها يعني فقدان المزيد من الأملاك المسيحيّة لمصلحة الاحتلال، واستمرار هجرة المسيحيين من القدس تحت وطأة التضييق، والاستهداف الممنهج لوجودهم من قبل الاحتلال.

ويشير إلى أن هذا الكتاب هو صرخة تطلقها المؤسسة لإنقاذ القدس وأهلها ومقدّساتها، لا سيما المسيحيين ومقدساتهم، "فعسى أن تجد هذه الصرخة من يسمعها ويلبّي نداء الدّفاع عن المدينة المقدّسة".

ويذكر الكتاب أن حضور القدس في الديانة المسيحية يُعتبر محوريا، فهي قبلة المسيحيين الأولى والوحيدة، والمركز المسيحي الأول والأهم في العالم، وأن مدينة القدس تكتسب هذه الأهمية بسبب المعتقد المسيحي القائل بـ"موت المسيح في القدس وقيامته في اليوم الثالث من القبر، حيث القيامة في المسيحية هي الحدث المركزي والأساسي، وهي قلب الإيمان المسيحي ومن دون القيامة لا وجود للمسيحية ولا معنى للعقيدة".

ومن هذا المنطلق، يعتبر المسيحيون أن مدينة القدس هي مركز الدنيا أو نصفها، لأن هذه المدينة باعتقادهم شهدت قيامة المسيح، ومنها انتشرت الديانة المسيحية إلى العالم، فبالقيامة كانت القدس -بناءً على الاعتقاد المسيحي- وما زالت تشكل مركزية إيمان المسيحيين وتعبدهم.

ويشير الكاتب إلى أن القدس اكتسبت عظمتها في المسيحية رسميا بعد إعلان الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية ديانة رسمية للدولة، حيث أمر بتشييد عدد من المعالم المسيحية في القدس، كبناءء كنيسة القيامة والمهد وغيرها من الكنائس والأديرة.

وأدى هذا الأمر إلى أن أصبحت القدس -على مر العصور- مركزاً لجذب مسيحيي العالم كافة، فأسسوا الرهبنات والأديرة والكنائس التي يزيد عددها في القدس وحدها على مئة دير وكنيسة ومؤسسة، وبناء عليه، تملك الكنيسة اليوم داخل أسوار المدينة ما يساوي %45  من المساحة الكلية.

ويتطرق المؤلف إلى المسيحية في القدس في العصر الإسلامي، مركزا على مسألتين، أولاهما: المسيحية إبّان الفتح العمري والعهدة العمرية التي اعتُبرت واحدة من أهم الوثائق في تاريخ القدسس وفلسطين، وثانيتهما: النشاط الفكري المسيحي، حيث حافظت الأديرة في فلسطين والقدس على نشاطهاا الفكري، وغدت مراكزَ للثقافة المسيحية، وأهمها دير مار سابا شرق بيت لحم، ودير القديسة كاتريناا في سيناء، وكان الدير الأخير خاضعا إداريا لبطريركية القدس.

وقد كان اللاهوتي يوحنا الدمشقي -الذي كان يكتب باللغة اليونانية- يذكر الإسلام بأنه ينبوع المعرفة، في حين نجد ثيودورس أبا قرة يغلب على نشاطه الفكري الحوار مع الإسلام والمسلمين.

التعداد والطوائف
يُلاحظ من الإحصائية الرسمية أن نسبة المسيحيين بلغت -بحسب دفتر النفوس العثماني عام 1849-  %32.04 من مجموع السكان، وفي عام 1888 تقلصت النسبة إلى 29,23%، وهذا يعود إلى انتشار الأمراض، وخاصة مرضيْ الكوليرا والطاعون. وقد كان عدد الذكور أعلى مقارنة بعدد الإناث، وذلك لأن المسيحيين لم يكونوا مطلوبين للخدمة العسكرية، على أن يدفعوا ضريبة البدل العسكري.

وفي عهد الاحتلال الإسرائيلي، فقد ترك هذا الاحتلال آثاره السلبية في حركة المواطنين الفلسطينيين وتهجيرهم خارج الوطن، فمع نكبة سنة 1948 عانى تجربة اللجوء ما قرابة خمسين ألفا منن المسيحيين الذين كانوا أكثر من ثلث السكان المسيحيين في فلسطين عام النكبة.

وبخصوص الحضور المسيحي في فلسطين في الوقت الحاضر، فإن نسبتهم -بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني- شكلت في نهاية عام 2015 أقل من 1%. ومن الأسباب المباشرة لانخفاض نسبة المسيحيين في فلسطين كما يجملها الكتاب: انخفاض معدل المواليد بين المسيحيين بسبب ارتفاع مستواهم الاقتصادي والاجتماعي، وفشل مشاريع التنمية والنهضة في معظم دول المنطقة، وشعور المسيحيين وفئات اجتماعية أخرى بعدم الجدوى من البقاء بسبب تدني الأوضاع الاقتصادية والسياسية فيها.

وفيما يتعلق بالطوائف المسيحية في القدس، فإن الكاتب يشير إلى أن الحضور المسيحي العربي في القدس يعكسه وجود كنائس مختلفة لكل منها خصوصيتها، وأغلبها بالإجمال يرتبط بالجذور الآرامية والبيزنطية منذ البدايات الأولى، وفي الواقع، فإن المسيحيين الأوائل في فلسطين كانوا مزيجا من العرب والسريان والآراميين وغيرهم، بمن فيهم يهود متنصرون تكلموا الآرامية واليونانية.

المقدسات والتفريط
أما المقدسات والمعالم المسيحية في القدس، فيوضح الكتاب أن الإمبراطورة هيلانة لما نجحت في العثور على المغارة التي ألقيت فيها الصلبان، وكذلك الجلجلة ومكان القبر المقدس، تولت بنفسها مراقبة البناء وفقا لرغبة ابنها الإمبراطور قسطنطين.

وهكذا قامت خلال مدة وجيزة كنيسة القيامة فوق الموقع الذي يعتقد المسيحيون أن المسيح صُلب فيه، وكنيسة المهد في بيت لحم فوق المغارة التي ولد فيها السيد المسيح، وكنيسة ثالثة على جبل صهيون دعيت باسم "الرسل القديسين"، بالإضافة إلى كنائس كثيرة أخرى في أنحاء متفرقة من فلسطين.

ويُورد المؤلف أسماء أبرز المباني الأثرية والتاريخية المسيحية في المدينة المقدسة، وهي: كنيسة القيامة وهي أقدس كنيسة في العالم المسيحي، ودير أبينا إبراهيم ويقع داخل أسوار البلدة القديمة، ودير العذراء، وكنيسة القديس توما، ودير مار مرقص، ودير مار يعقوب، وكنيسة الجثمانية (كنيسة كل الأمم)، وكنيسة مريم المجدلية (الكنيسة الروسية)، وكنيسة الصعود، وكنيسة نياحة العذراء، وكنيسة القديس بطرس (كنيسة صياح الديك).

وينتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن التفريط بأملاك وأوقاف الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، حيث تعتبر البطريركية الأرثوذكسية أكبر الكنائس رعية وأوقافا وأملاكا، إذ تمتلك ربع البلدة القديمة التي تبلغ مساحتها كيلومترا مربعا واحدا، كما تمتلك أراضي شاسعة وأديرة ومقابر خارج البلدة القديمة، إلا أن هذه الأوقاف بيع قسم كبير منها، أو جرى تأجيره لمدد طويلة معظمها يصل إلى 99 سنة.

فمثلا باعت الكنيسة أراضي جبل أبو غنيم في القدس، والتي تحولت إلى مستوطنة من كبريات مستوطنات الطوق الخارجي حول القدس بهدف فصل القدس عن بيت لحم، وباعت أو أجّرت لأجل طويل أكبر مأوى لحجّاج القدس من موسكو، وعليه يقوم اليوم معتقل المسكوبية، وأراضي جبل أبي طور، وساحة عمر بن الخطاب في البلدة القديمة في القدس، والتي تقع على مدخل كنيسة القيامة.

ولم يمضِ وقت طويل على كشف هذا التفريط حتى انكشفت وثائق تفيد بتسريب أملاك للكنيسة الأرثوذكسية إلى الاحتلال في ما عُرف بصفقة "باب الخليل"، حيث كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية في 2005 النقاب عن صفقة سرية بين الكنيسة ومجموعتين يهوديتين استيطانيتين.

وقد تخلّت الكنيسة بموجب هذه الصفقة عن الأراضي التي يقوم عليها فندقا إمبريال والبتراء و27 محلاّ تجاريّا تملكها البطريركية الأرثوذكسية في ساحة عمر بن الخطاب بمنطقة باب الخليل في البلدة القديمة بالقدس، وقد أظهرت الصحيفة أن بطريرك الكنيسة إرينيوس الأول أجَّر أراضي تابعة للكنيسة في القدس لجهات يهودية لمدة 198 سنة.

وينبه الكتاب إلى أن المخطط الإسرائيلي من وراء كل ذلك هو محاولة لاجتثاث الوجود المسيحي في القدس وإلغاء شطرٍ غنيّ من تاريخ المدينة وحضارتها وهويتها، وهذا ما يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى تحقيقه بانتهاج كل السبل الإجرامية.

ويؤكد المؤلف أن الحفاظ على الأملاك المسيحية في القدس وفلسطين يتطلب جهودا مشتركة بين الحكومة الأردنية والطوائف المسيحية في الأردن وفلسطين والسلطة الفلسطينية، حتى لا يخلو الجوو لرجال الدين المسيحي من غير العرب لبيع أو تأجير أملاك الوقف لليهود، وهذا يتطلب تفعيل المجلس المختلط وزيادة عدد العلمانيين فيه ومشاركة العرب في أخوية القبر المقدس.

ويؤكد الكتاب على ضرورة العمل الجاد والمتواصل للتصدي لسياسات الاحتلال عبر وسائل، من ضمنها: تثبيت الوجود المسيحي في القدس، وإعطاء المقدسيين الوسائل اللازمة للانتصار على هذه السياسات الإسرائيلية.

وينبه إلى أن كشف مخططات الاحتلال واعتداءاته على المسيحيين ومقدساتهم في القدس أمام المرجعيات الكَنسيّة والمسيحية في مختلف أنحاء العالم، من شأنه أن يسهم في تفعيل دورهم لإنقاذ هوية القدس ووجهها الحضاري عموما، وإنقاذ الوجود المسيحي من التلاشي من القدس على وقع جرائم الاحتلال التي لا تتوقف.

ويوضح أخيرا أن أيّ إستراتيجية تحمل لواء الدفاع عن القدس يجب أن تلحظ المخاطر الجسيمة التي تتهدد المسيحيين والمقدسات والمعالم المسيحية في المدينة، ويجب أن تُبنى على أُسس تثبيت هذا الوجود، وعدم السماح للاحتلال بممارسة صنوف التضييق المختلفة لاقتلاع المسيحيين وطردهم.

المصدر : الجزيرة