اختلاق "ملوك أورشليم" ولغز "ملكي صادق" في القدس

تصميم يصلح صورة رئيسية لمقال يفند فيه الكاتب اداءعائات إسرائيلية بشأن أحداث وشخصيات تاريخية مثيرة للجدل، في محاولة من المحاتل لتعزيز وجوده بروايات تاريخية يفندها الكا
دخلت في التاريخ الرسمي لمملكة إسرائيل القديمة الكثير من الشخصيات الدينية المثيرة للجدل، لكن أكثرها إثارة للخيال في المؤلفات والدراسات التاريخية والدينية اليهودية-المسيحية كانت ولا تزال شخصية "ملكي صادق".

لقد جرى اختلاق ملك لأورشليم في عصر إبراهيم حين جرى تصويره على أنه كان "ملك القدس"، ومما يثير الدهشة أن مئات المؤلفات كتبت حول هذه الشخصية بفضل جملة واحدة فقط وردت في سفر التكوين ( 18:14-20)؟ فهمت جملة "ملكي صادق מַלְכִּי־צֶדֶק ملك شاليم" على أنها تعني "ملكي صادق ملك أورشليم"، وأنه كاهنها الأعظم الذي يأخذ الضرائب الدينية.

الخطأ الفظيع الذي ارتكبه كثرة من المؤرخين والباحثين الذين روجوا لهذه المزاعم يكمن في اختلاق مدينة "يهودية" في عصر إبراهيم، لقد حولوا كلمة "شليم" إلى "أورشليم"، ولم تكن هناك أورشليم في عصر إبراهيم قط، وهذا غير مقبول بأي مقياس تاريخي.

لا إشارة للقدس
إن أقدم ذكر لأورشليم في النقوش الآشورية "شلمانصر الثالث، سنحاريب.. إلخ" لا يشير بأي صورة من الصور إلى أنها القدس، هاكم اسم أورشليم في نقش سنحاريب COL III الذي يتحدث عن الملك الكاهن حزقيا واليهود (705-681 ق.م)، في هذا النقش يذكر سنحاريب أورشليم بهذا الاسم (Jerusalem) ويسجل اسم الكاهن الملك حزقيا بهذه الصورة "حزقيا" (Hezekiah).

14.( I spoke their pardon. Padi, their king)

تحدثت بالعفو عنهم, عبدي ملكهم

15.( I brought out of Jerusalem)

أخرجته من أورشليم

16.  (Set him on the royal throne over them and

أجلسته على العرش الملكي عليهم

17.( imposed upon him my kingly tribute)

وفرضت عليه جزيتي الملكية

18.( As for Hezekiah, the Jew)

مثلما فعلت مع حزيقيا 

تحدثت نقوش الآشوريين عن أورشليم بالتلازم مع أسماء القبائل التي اصطدموا بها، ومنها حمير، وقبائل مأرب وخولان، وهي لا تقول بأي صورة من الصور إن "أورشليم هي القدس" هذا أمر مثير بالفعل، لأن الخداع التاريخي الذي بلغ ذروته مع "تلفيق" شخصية ملك صادق في فلسطين كان مصمما لأغراض لا صلة لها بعلم الآثار أو الدراسات التاريخية.

تحدثت نقوش الآشوريين عن أورشليم بالتلازم مع أسماء القبائل التي اصطدموا بها، ومنها حمير، وقبائل مأرب وخولان، وهي لا تقول بأي صورة من الصور إن أورشليم هي القدس، هذا أمر مثير بالفعل

وفي المسيحية الرسولية جرى تصوير خروج ملكي صادق لاستقبال إبراهيم تعبيرا عن سمو ورفعة الكهنوت الأعظم الذي يتواضع وهو الكبير، لاستقبال الابن الصغير "إبراهيم".

لقد ساهمت المسيحية الرسولية المتأخرة في تثبيت هذه الصورة القابلة للنقد لشخصية ملكي صادق: الصغير يبارك من الكبير (عبرانيين: 7:7) وأن إبراهيم دفع له العشور، وبالتالي يكون كهنوت ملكي صادق أعظم من كهنوت هرون.

وبطبيعة الحال فقد نظرت المسيحية الرسولية إلى هذا الجانب من القصة على النحو التالي: إنه كهنوت يقدم خبزا وخمرا وليس ذبائح حيوانية، فالذبائح الحيوانية أو الدموية كانت طقس الكهنوت الهاروني وكانت ترمز إلى ذبيحة المسيح، وقد أبطلها بذبيحته حين قدم جسده ودمه من خبز وخمر حسب تقدمة ملكي صادق، وأنه كهنوت لم يجر ترتيبه عن طريق الوراثة، كان المسيح من سبط يهوذا، وليس من سبط لاوي الذي ظهر فيه الكهنوت.

وهذا الجانب الحيوي من وظيفة الكاهن لم يكن يجري وفقا للوراثة، بل للتسلسل الديني كما هو الحال في المسيحية الرسولية، في الواقع لا توجد أي إشارات أخرى في النص التوراتي أو الأناجيل يمكن أن تساهم في تطوير أي تصور واقعي عن شخصية تاريخية حقيقية تدعى ملكي صادق.

أسجل هنا بضع ملاحظات عامة لتفكيك اللغز:

أولا: الاسم يجب أن يرسم كما في النص العبري في صورة ملك- يصدق (מַלְכִּי־צֶדֶק م/ل/ك/ي/ ص/د/ق) وليس ملكي صادق، وهذا الرسم له ما يماثله في النقوش اليمنية، مثلا: ملك-يكرب أو معد-يكرب، وهي صيغة لها سياق في التقاليد اليمنية في نطق ورسم الأسماء.

بكلام آخر، إن الياء في اسم "ملكي" تعود للصفة صدق: ملك-يصدق، وهذه الياء هي أداة التعريف اليمنية القديمة التي نجدها في الكثير من الأسماء: يعرم-العرم، يكرب-الكرب، يصدق-الصادق، الصدّيق إلخ، وفي النطق العبري- السبئي: يهصدق.

ثانيا: وفي هذه الحالة ليس ملكي صادق اسما لشخص، بل هو لقبه الديني: الملك الصدّيق (بما أن الياء في يصدق هي أداة تعريف)، وفي التراث الديني لليمنيين ولعموم العرب والمسلمين يوصف النبي يوسف بـ"يوسف الصدّيق"، لأنه كان يجبي الضرائب الدينية (يشرف على خزائن مصريم).

ولقب الصدّيق ينصرف إلى وظيفة الكاهن الذي يجمع الضرائب أو يفرض العشور، والعشور في التوراة هي الضريبة الدينية 10% من كل شيء، ولنلاحظ أن إبراهيم أعطى العشور لملك يصدق أي للملك الصديق، لأنه الكاهن الذي يتولى جمع وتنظيم الضرائب الدينية في مكان بعينه يدعى "شليم- سليم".

ثالثا: إن النقوش اليمنية تسجل لقب الصديق-صدق هذا كلقب ديني منذ 850 ق.م، وآخر الكهنة الذين حملوا هذا اللقب هو يصدق إيل الذي يضعه علماء الآثار بعد معد إيل نحو 190ق.م.

في عصر إبراهيم لم تكن هناك أورشليم في الأصل ليكون لها ملك-كاهن، ولم تكن تدعى باسم القدس أو العكس، وفي هذا العصر (1900 ق.م حسب التاريخ الرسمي) كانت الأرض الموعودة مجرد عهد إلهي، ولم تكن لإبراهيم ذرية، فمن أين جاءت أورشليم؟

كما ورد اللقب في نقش 77  Av. Aqmar 1 Ir الذي يشير إلى الاسم بوصفه "لقب الكاهن"، وفي نقوش جامه (جام 649) ورد اسم صدق ككاهن في نقش معروف يقول حرفيا: بمدد عونه، سبوا وناصروا أميرهم شمر يهرعش ملك سبأ وذي ريدان فساروا نحو السهرة وخيوان وضدحان وتناغم ونبعة فقتلوا في هذه الغزوة خمسة من شجعانهم بالسيف، وأخذوا أسيرا واحدا وقتلوا صدق.

وفي النص السبئي بالحرف العربي: س/ب/أ/ة-(ن- خ/م/س/ة/ أ/س/د/-م- ب/ض/ع/-م- و/أ/ح/د/ أ/خ/ذ/-م-م/هـ/ر/ج/ة/ ص/د/ق. 

لا أورشليم ولا قدس
ويفهم من هذا النص أن حملة شمر يهرعش انتهت بمصرع كاهن منطقة عرف بلقبه الديني صدق-يصدق، أي أنه يحمل رتبة الصدّيق-جامع الضرائب الدينية، وهذه التسمية، واستنادا إلى تاريخ النقش تؤكد حقيقة أن قبائل بكيل (الشمالية) قد خضعت في عصر الملك يهصدق لحكم الجنوبيين.

وفي وقت تال من تاريخ اليمن القديم سوف تظهر النقوش التي تسجل صيغة أخرى لاسم مملكة سبأ في عصر الملك -الكاهن صد- يهصدق بعد إخضاع حضرموت وبدو الساحل والأعراب ويصبح اسمها "مملكة حمير وريدان وحضرموت ويمنت".

كانت أسرة يهصدق الأول أول أسرة حميرية جديدة واجهت حروب القبائل بشراسة، وتمكنت من الحفاظ على هيمنة الجنوب. وفي هذا الإطار، استخدم الشماليون والجنوبيون صيغا متنوعة من الاسم يصدق-صدق- يهصدق لقبا دينيا، بما أن الملك هو الكاهن.

 أخيرا: في عصر إبراهيم لم تكن هناك أورشليم في الأصل ليكون لها ملك-كاهن؟ ولم تكن تدعى باسم "القدس" أو العكس، وفي هذا العصر (1900 ق.م حسب التاريخ الرسمي) كانت الأرض الموعودة مجرد عهد إلهي، ولم تكن لإبراهيم ذرية، فمن أين جاءت أورشليم؟ إذا ما وضعنا هذا اللقب الديني بوصفه رتبة كهنوتية تتصل بتنظيم الضرائب الدينية في اليمن القديم فإن نقوش سنحاريب وشلمانصر وسواهما سوف تغدو معولا جبارا لهدم أسوار هذا الخداع.

المصدر : الجزيرة