لقاء بانون ولوبان.. تحالف الشعبويين عبر الأطلسي

Marine Le Pen, National Front (FN) political party leader, and Former White House Chief Strategist Steve Bannon attend a news conference, during the party's convention in Lille, France, March 10, 2018. REUTERS/Pascal Rossignol

في عام 1965؛ نشر هنري كيسنجر كتابا بعنوان، "الشراكة المكروبة"، تناول فيه بالفحص والدرس التوترات التي أثرت على التحالف عبر الأطلسي خلال الحرب الباردة.

وقد زعم كيسنجر أن النظام الدولي المستقر يستلزم قيادة الولايات المتحدة -وهي النموذج القوي للديمقراطية في العالَم- التي تدعمها روابط قوية مع أوروبا. ولعله ما كان ليتخيل أبدا أن تلعب الولايات المتحدة -بعد أقل من ستين عاما- الدور المعاكس تماما، مع ظهور نسخة جديدة أكثر قتامة من التحالف عبر الأطلسي.

لنتأمل هنا المؤتمر الذي عقده حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في فرنسا مارس/آذار الماضي. فبعد إعادة انتخابها زعيمة للحزب؛ أعلنت مارين لوبان أن اسم الحزب من المقرر أن يصبح "التجمع الوطني". وكان ضيف الشرف على هذا الحدث المهم هو ستيف بانون، كبير الخبراء الإستراتيجيين سابقا في إدارة دونالد ترمب.

من السهل أن ندرج المؤتمر -الذي استضافته مدينة "ليل" في فرنسا- تحت فئة "الملهاة" أو "المهزلة"؛ فكل من لوبان وبانون منبوذ سياسيا. فقد خسرت مارين لوبان الانتخابات الرئاسية الفرنسية لصالح إيمانويل ماكرون العام الماضي بأغلبية ساحقة. أما عن بانون، فقد طرده ترمب بفظاظة في أغسطس/آب 2017

ذات يوم، كتب كارل ماركس: "كل الحقائق والشخصيات التاريخية العالمية تظهر -إن جاز التعبير- مرتين: المرة الأولى كمأساة، والثانية كملهاة".

ومن السهل أن ندرج المؤتمر -الذي استضافته مدينة "ليل" في فرنسا- تحت فئة "الملهاة" أو "المهزلة"؛ فكل من لوبان وبانون منبوذ سياسيا. فقد خسرت مارين لوبان الانتخابات الرئاسية الفرنسية لصالح إيمانويل ماكرون العام الماضي بأغلبية ساحقة.

وعلاوة على ذلك، تواجه لوبان الآن تحديا داخل حزبها من ابنة شقيقها الأكثر شبابا وإثارة للإعجاب من الناحية الفكرية ماريون مارشال لوبان، التي تحدثت قبل مايك بنس نائب رئيس الولايات المتحدة، خلال اجتماع لجنة العمل السياسي المحافظ في فبراير/شباط الماضي بواشنطن العاصمة.

أما عن بانون، فقد طرده ترمب بفظاظة في أغسطس/آب 2017. وما زاد من قسوة الأمر أن ترمب أصدر بيانا أعلن فيه أن بانون "لم يُسهم بأي قدر يُذكَر" في تمكينه من الفوز في الانتخابات الرئاسية، وأنه لم يخسر وظيفته فحسب، بل فَقَد "عقله أيضا" عندما فُصِل.

كان حضور بانون ذلك الحدث في مدينة "ليل" متناقضا؛ إذ كان فصله من وظيفته راجعا جزئيا إلى تطرفه، في حين تحاول لوبان حاليا توسيع القاعدة الداعمة لحزبها عبر تخفيف صورته الحادة.

ولكن من ناحية أخرى؛ كانت مشاركة بانون في مؤتمر حزب لوبان منطقية تماما، لأنها عكست التطور الجاري الذي يشهده التحالف الشعبوي عبر الأطلسي، والذي يمثل شكلا كئيبا قاتما من "جغرافية القيم" التي استند إليها تحالف الحرب الباردة.

ورغم النكسات السياسية التي حلت به؛ يؤكد بانون أن "مد التاريخ" يتحرك بشكل لا يقاوم نحو الشعبويين. فمن منظوره؛ أصبح سير أوروبا على خطى أميركا مسألة وقت فقط، وذلك منذ نجح ترمب في كسب رئاسة الولايات المتحدة، وهو التطور الذي أدى إلى زعزعة استقرار النظام العالمي الذي يريد بشدة بانون وأمثاله إحراقه.

من الخطورة بمكان استبعاد رؤية بانون باعتبارها مجرد ثرثرة؛ فربما انتصر ماكرون في فرنسا، لكن النصر الانتخابي الذي حققه ترمب لم يكن من قبيل المصادفة.

ولم يكن من قبيل المصادفة أيضا ذلك الأداء القوي الذي أظهرته الأحزاب الشعبوية في انتخابات الشهر الماضي بإيطاليا، حيث نجح حزب الاتحاد المناهض للهجرة وحزب "حركة النجوم الخمس" المناهض للمؤسسة في حصولهما معا على نحو 50% من الأصوات.

وحتى ألمانيا وقعت إلى حد ما ضحية لقوى شعبوية. صحيح أنه تشكلت أخيرا حكومة ائتلافية كبرة جديدة، تضم حزب المستشارة أنجيلا ميركل الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وشقيقه البفاري حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، والحزب الديمقراطيالاجتماعي.

لوقف المد الشعبوي؛ يتعين على النخب السياسية على ضفتيْ الأطلسي -التي لا تزال تؤمن بالديمقراطية الليبرالية- أن تُدرك أنها هي المسؤولة عن صعود الشعبوية، بسبب فشلها في الاستجابة بالشكل الملائم لمخاوف الناخبين. ويتعين عليها أن تعمل -بلا كلل أو ملل- على إيجاد حلول حقيقية لمشاكلهم

لكن الأمر استغرق أكثر من خمسة أشهر للتوصل إلى اتفاق بين هذه الأحزاب، والآن أصبح حزب المعارضة الأكبر هو البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف.

وفي الدولة التي بدت وكأنها محصنة ضد الشعبوية بسبب تاريخها النازي؛ فإن هذا يشكل تطورا مزعجا بشكل خاص. فالديمقراطية أكثر هشاشة مما قد يبدو، ولا يجوز لنا أبدا أن نتعامل معها باعتبارها أمرا مفروغا منه.

كيف يمكننا إذن وقف المد الشعبوي؟ بادئ ذي بدء، يتعين على النخب السياسية على ضفتيْ الأطلسي -التي لا تزال تؤمن بالديمقراطية الليبرالية– أن تُدرك أنها هي المسؤولة عن صعود الشعبوية، بسبب فشلها في الاستجابة بالشكل الملائم لمخاوف الناخبين.

ويتعين عليها أن تعمل -بلا كلل أو ملل- على إيجاد حلول حقيقية للمشاكل (من التفاوت بين الناس إلى الهجرة)، التي غذت الدعم الذي حظيت به القوى الشعبوية. ويجب ألا تكتفي هذه الحلول بمعالجة التحديات الفنية فحسب، بل يتعين عليها أن تتعامل أيضا مع مشاعر المواطنين -التي استغلها الشعبويون ببراعة- وإحساسهم بالحرمان من حقوقهم الشخصية وفقدان الهوية.

بطبيعة الحال؛ يتعين على الديمقراطيين في الولايات المتحدة أيضا أن يعملوا على إيجاد مرشح مقنع لخوض السباق ضد ترمب في الانتخابات الرئاسية عام 2020. كما يتعين على فرنسا وألمانيا المضي قُدُماً على مسار تحقيق المزيد من التكامل الأوروبي، وهنا تتحمل فرنسا مسؤولية خاصة تحت زعامة ماكرون.

على النقيض تماما مما قال بانون في "ليل"؛ فإن ماكرون -وليس لوبان وحزبها في ثوبه الجديد- هو الذي يحمل المفتاح الموصل إلى مستقبل الديمقراطية بفرنسا.

وإذا فشل تطويع النظام -بحيث يعمل لصالح المزيد من الناخبين- فربما تنتهي الحال بفرنسا إلى مسار أشبه بما حدث في الولايات المتحدة، وهو ما يشكل سابقة بالغة الخطورة لبقية أوروبا. وفي مثل هذا السيناريو؛ يُصبِح التحالف عبر الأطلسي -وكذلك النظام العالمي الذي يستند إليه- في ورطة عميقة حقا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.