المارد الأوروبي قزم في سوريا

تحرك دولي لتطبيق الهدنة في سوريا

فقدان البوصلة
منطق الاحتلال
أولويات التدخل 

ما يميز الدور الأوروبي عن أدوار بقية الأطراف الضالعة في الساحة السورية هو هزال السياسات رغم ضخامة الإمكانيات؛ فالاتحاد الأوروبي مكون من 28 دولة يتجاوز عدد ساكنيها 500 مليون نسمة (عام 2010)، وممتد جغرافياً على أربعة ملايين كيلومتر مربع، وصاحب أكبر ميزانية في العالم (18,63 تريليون دولار أميركي 2014 أي ما يعادل ربع المال العالمي)، ويملك صوتين دائمين بمجلس الأمن.

هذا المارد الكبير -ذو الإمكانيات القتالية والدفاعية والدبلوماسية والمالية والإدارية المرعبة- يقف حائراً أمام ما ينبغي عليه فعله في سوريا؛ فلا يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما يقوله لضحايا هولوكوست الغوطة الشرقية، سوى توجيه نداء لفتح ممرات آمنة لإجلاء المصابين والراغبين في الحياة.

أما لسان حال المحاصَرين المنكوبين فيقول: تمخض الجبل فولد فأراً!! إذ نداء فتح ممرات ليس تصريحاً عابراً على لسان ناطق باسم منظمة إنسانية محلية بإحدى دول أميركا اللاتينية، بل هو موقف سابق في حلب متكرر في غوطة دمشق لرئيس دولة عظمى، تمكنت سابقا من السيطرة الكاملة على الأرض السورية أكثر من عقدين.

فقدان البوصلة
وأما في بروكسل عاصمة الاتحاد؛ فإن ميشيل دوتشيرتي يقدم -متحدثاً باسم المفوضية الأوروبية– أرقاماً كبيرة بملايين اليورو، في معرض بيانه لحجم التدخل الأوروبي الكبير، وجاءت هذه المبالغ في صورة استجابة طارئة لتحسين ظروف العيش ودعم اللاجئين وتمكين المرأة.

لكن سؤالاً من ناشطة سورية عن شكل الإجراءات التي قام بها الاتحاد لمقاضاة المسؤولين عن مقتل عشرات المواطنين الأوروبيين في سوريا، بالقصف تارةً وبالاحتجاز والتعذيب تارة، في إشارة للأفرع الأمنية لنظام الأسد؛ استطاع تعرية الموقف الحقيقي المتنكر للدعم السياسي والقانوني المطلوب.

المارد الأوروبي  الكبير -ذو الإمكانيات القتالية والدفاعية والدبلوماسية والمالية والإدارية المرعبة- يقف حائراً أمام ما ينبغي عليه فعله في سوريا؛ فلا يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما يقوله لضحايا هولوكوست الغوطة الشرقية، سوى توجيه نداء لفتح ممرات آمنة لإجلاء المصابين والراغبين في الحياة

وهنا غابت نبرة الحماسة التي أفعِمت بها الكلمات لدى الحديث عن الموازنات والأرقام، وجاءت الإجابة خليطا من تأملات واعتقادات تغلب عليها اللعثمة، مفادها: لا شيء!!

في الواقع لقد كان جواباً موَّفقاً رغم الحرج الذي رافقه، حيث إن الحقيقة التي لم يستطع دوتشيرتي قولها للناشطة هي أن المارد قام بطريقته بمقارعة الاستبداد والانتصار للحريات، فقلص قائمة رجال النظام السوري الممنوعين من الدخول لأوروبا، وخفف العقوبات الاقتصادية، ورفع الحجز عن أرصدة طهران ذات الميزانية الحربية المنهكة.

هذا فضلاً عن إعادة تنشيط العلاقات الدبلوماسية -ولو جزئياً- مع حكومة دمشق كما فعلت برلين مثلاً، وغير ذلك من التقلبات التي تشير -بشكل فاضح- إلى ضياع البوصلة لدى المارد الأوروبي نتيجة ضبابية الرؤية أو انعدامها.

حسناً، دعونا نقل -وبدون مواربة- السر الذي يعرفه الجميع، وهو أن المطلوب لإعادة الاستقرار في سوريا هو مواجهة إرهاب الدولة المتمثل في نظام الأسد. وبينما يمارس الساسة الأوروبيون سياسة الاختباء خلف الإصبع، يكتفون بالقول: ليس على المعارضة السورية أن تنتظر منا خوض "حرب بالوكالة" ضد روسيا.

غنيٌّ عن التذكير بأن المواجهة لا تكون بالحرب فقط، ولكن الجدير بالذكر هو أن مواجهة الاستبداد في سوريا -تحديداً بالنسبة للاتحاد الأوروبي– لن تكون بالوكالة، بل بالأصالة.

ذلك أن البحر الذي يفصله عن جاره السوري في الشرق الأوسط لم يحمه تماماً بل أغرقه بالمهاجرين غير الشرعيين، وملف اللاجئين أثار زوبعة غادرت على إثرها بريطانيا الاتحاد الأوروبي، وتجمدت عضوية المجر، واضطربت حكومة برلين.

كما سيطر الوهن الأمني والاقتصادي على مداخل الاتحاد في إيطاليا واليونان، وأوشكت اتفاقية شنغن أن تتعطل. وأما الحليف التركي في "الناتو" فقد أدار للاتحاد ظهره، ممسكاً بقرار فتح طريق الهجرة السوداء، وملوّحاً به في كل حين.

وفي الوقت الذي تتسع فيه الخريطة السورية للسياسات الخشنة لكل من إيران وروسيا وتركيا وأميركا، وتجد كذلك لنفسها مكاناً كل من السعودية وإسرائيل والإمارات، وغيرها من الدول والجماعات وحتى المافيات؛ يتحول المارد الأوروبي إلى جمعية خيرية.

وفيما سوى المشاركة في التحالف العالمي بقيادة أميركية لضرب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؛ كان حضور المارد الأوروبي مقتصرا -عملياً وبشكل أساسي- على دبلوماسية فاقدة للرؤية الكاملة ومنقادة لإطفاء الحرائق.

بل إن سياساته المالية للتدخل الإنساني جاءت بنتائج معاكسة، وساهمت في تردي الوضع الإنساني عبر وصولها إلى نظام بشار الأسد بشكل تفوح معه رائحة الدم، كما جاء في الصحافة الغربية ذاتها.

منطق الاحتلال
وبالعودة إلى مشهد الهولوكوست الجاري في الغوطة، ونداء الرئيس الفرنسي بفتح ممرات لخروج المحاصرين فيها؛ لا شك أن المراقبين للمشهد من السوريين -وغيرهم ومن الوكالات الأممية وأطراف الصراع على اختلاف أجنداتهم جميعاً- هتفوا بصوت واحد: يا للصدفة! فالصواريخ الروسية والحشود الطائفية المحاصرة للغوطة -منذ خمس سنوات- لديهم نفس الهدف: التهجير.

ومع التسليم بأن المزاج الأوروبي -وفق ما تقتضيه المصلحة والمبدأ والمنطق السليم- يميل لتحقيق انتقال حقيقي للسلطة، بغية الوصول إلى حلّ جذري مستدام يضمن الاستقرار الطويل، لكن التردد يمنعه من صوغ رؤية وإستراتيجية مواجهة، خصوصاً بعد دخول روسيا بكامل ثقلها.

مبادرة سويدية كويتية لإعلان هدنة، وتجاذب دولي واسع لإقرارها، ثم ماذا بعد؟ ماذا لو أقرت الهدنة مع استمرار الحصار القاتل؟ يدور الحديث عن سناريو حلب 2، حيث يفوز المحاصَرون بأرواحهم ويفوز الأسد بأرضهم. وما دام الجميع سيفوز بهذا الشكل؛ فإذن على المارد الأوروبي أن يقول كلمته متوجهاً بها هذه المرة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: يجب وقف المجزرة.. الآن!

وبهذا؛ فإن الموقف الفرنسي إنساني في ظاهره وإجرائي في حقيقته، إذ يهدف لدعم المقاربة الروسية بوضع نهاية سريعة للحرب، هروباً من الأخطار الوجودية المحدقة به، ومساهمةً في إعادة إنتاج الاستبداد، متجاهلاً منظومة حقوق الإنسان الغربية بل وحتى شعارات الثورة الفرنسية ذاتها، التي جسدت ملحمة تاريخية في حتمية انتصار الإرادة الشعبية وصوابية الوقوف بجانبها.

ومن مفارقات الأيام؛ أن جنرالاً فرنسياً يُدعى "أندريا" وقف قبل قرابة تسعين عاماً ليعلن انتصار بلاده على الثوار السوريين في مطلع الثورة السورية الكبرى، فقال: لقد رفرف العلم الفرنسي فوق مدينة السويداء ولكن بعد أن لم يبق فيها أحد!

إنه منطق المحتل الذي لا يرى في تدمير البنيان وتهجير الإنسان جريمة، فرنسياً كان أو روسياً أو أميركياً، حتى إن الصحفي الأميركي تشارلز غلاس قال في وصف العقلية التوحشية لبلاده خلال حربها مع فيتنام: لقد اعتُبر تدميرُ القرى تحريرا لها!

وبهذا المنطق، ما الذي يجعلنا نصف انتصار الأسد في حمص والقصير ويبرود وداريا، وغيرها من الحواضر والمدن التي خلت اليوم تماماً إلا من ركام الخراب ولون الرماد ورائحة الجثث وسكون المقابر؛ بأنه ليس احتلالاً؟

بل بماذا يمكن وصف حلب الفارغة من أهلها سوى بالمحتلَّة أجنبياً، بالسلاح العنقودي الروسي وبالتنسيق مع مجلس الأمن الذي أصدر قراراً بإجلاء من تبقى من الأحياء؟

إنه ذات المنطق الذي استعمله الأسد لتبرير قتل وتهجير السوريين، حيث قال: "وصلنا إلى مجتمع أكثر انسجاماً"! وهو ذات المنطق الذي يجعل نداء الرئيس الفرنسي دعوةَ احتلال قبل أن تكون إعلانا لعجز أوروبي غير مبرر.

مبادرة سويدية كويتية لإعلان هدنة، وتجاذب دولي واسع لإقرارها، ثم ماذا بعد؟ ماذا لو أقرت الهدنة مع استمرار الحصار القاتل؟ يدور الحديث عن سناريو حلب 2، حيث يفوز المحاصَرون بأرواحهم ويفوز الأسد بأرضهم. وما دام الجميع سيفوز بهذا الشكل؛ فإذن على المارد الأوروبي أن يقول كلمته متوجهاً بها هذه المرة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: يجب وقف المجزرة.. الآن! 

لو سألت أي محاصَر في الغوطة أو أي لاجئ سوري في شوارع برلين فسيقول: نريد تحرير أرضنا من النظام. إذن فالمسألة ليست وقف مجزرة الغوطة، بل أن يمسك المارد بزمام المبادرة، وأن يتحلى بالإرادة الحرة والشجاعة، بما يكفي للوصول إلى المحاصَرين دون المرور بموسكو.

أولويات التدخل
وقبل الخوض في ملامح تدخل من شأنه أن يوصف بالإيجابي؛ علينا تسطير الوقائع التالية انطلاقاً من المشهد القائم:

– انشغال مكتب مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني في بروكسل الآن ببحث ملفيْ إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين -اعتماداً على المقاربة الروسية- هو نوع من العبث السياسي وإضاعة الفرص، بل لا بد أولاً من إيجاد طريق للسلام لا يمر من سوتشي وأستانا، بما يضمن رد الاعتبار للضحايا وطمأنة اللاجئين.

– غض الطرف عن جرائم الأسد وروسيا وإيران لن يسهم في ترويض الشعب، بل في تأجيج الحقد والعنف في أوساط مجتمعات الشتات السوري، بما فيها ألمانيا ودول الجوار السوري.

إذا كانت أطراف الصراع مضطرة اليوم لدفع فاتورة باهظة ثمنا لتدخلها، فإن الاتحاد الأوروبي -الغائب حقيقة والحاضر نتيجة- سيجد نفسه مستقبلا مضطراً لدفع فاتورة أكبر من رصيد تماسكه وأمنه واستقراره وسيادته، وهي ثمن ما لم يقم به، وبعبارة أدق ثمن تقاعسه عن القيام بما يلزم

– كما يرى المحاصَرون والمهجّرون أن المشكلة في استمرار وجود النظام، كذلك النظام يرى المشكلة في استمرار وجودهم هم. ومن هنا فإن المقايضة مع النظام بدعم إعادة الإعمار مقابل إعادة اللاجئين هي إستراتيجية محكوم عليها بالفشل الذريع، حيث الصراع أساسا وجودي وعلى مشروعية الوصول للسلطة، لا خلافاً على شكل الخدمات والتنمية. 

– فداحة التعويل على التفاهمات الهشة القائمة في سوريا، فمشهد تساقط طائرات من كل الأطراف في أسبوع واحد يشير بشكل أو بآخر إلى أن الجميع خاسر حتى اللحظة، لكنه يؤكد بوضوح بأن التحالفات سريعة التبدل والتفاهمات غير مستقرة، وهو ما يزيد المشهد اضطرابا، ويجعل الأفق مفتوحا على المزيد من احتمالات الفوضى والهجرة وتنامي العنف.

– كما أن عصر الاكتشاف واختراع الطباعة والتحرر الديني بظهور البروتستانت شكّل ثلاثية التغيير في القرن السابع عشر وأسهم في تفجير الثورة الفرنسية؛ فإن العولمة وتقنيات الاتصال اليوم جعلت الثورات أمراً قدرياً مآله التغيير.

ولن تنحبس الثورات في الربيع العربي، بل ستعمّ حتماً جميع الشعوب المسلوبة الإرادة والخيرات، ولن تنفع المكابرة في صده بالعنف أو بالثورات المضادة.

– ونحن نتكلم عن منطق الأشياء ودروس التاريخ والدور الأوروبي؛ ثمة درس مهم عن الفارق بين منطق الأشياء وطبيعتها. والخلاصة هي أنه إذا كان منطق البطش العسكري قادراً على إقرار أمرٍ واقع في المدى القريب، فإن طبيعة هذا البطش تنذر -على المدى الطويل- بتفجير الواقع نحو المزيد من الاضطراب السياسي، لما في البطش من ظلم وطغيان.

وأما عن التدخل الممكن؛ فمن كانت لديه الإمكانات الواردة في استهلال هذا المقال فإنه لن تعوزه الوسيلة. وأياً تكن إمكانات الاتحاد الأوروبي؛ فليس عليه الاكتفاء بتقديم الدعم اللوجستي لمحادثات جنيف.

بل عليه ممارسة ضغوط حقيقية على وفديْ التفاوض، تقتضي بداهة الإمساك بالخطة "ب"؛ مثل التلويح باللجوء للمحاكم الوطنية، أو تجاوز مجلس الأمن بالرجوع للجمعية العمومية، أو توسيع القائمة السوداء للممنوعين من دخول الاتحاد، أو تجميد العلاقات مع الحليف الإيراني، أو إرسال بعثات مراقبة وحفظ نظام كما ينص على ذلك دستور الاتحاد.

أو الذهاب نحو المزيد من الاعتراف والتمثيل لأجسام المعارضة السياسية، أو رفض سياسات الحصار بكسرها بإنزال جوي للمؤن الأساسية، أو التجريم العلني لاستعمال الكلور والبراميل والأسلحة المحرمة مع إشغال الرأي العام العالمي بهذه الجرائم، أو أي ضغط مجدٍ، تسقط معه إحراجات انتظار المارد بصمت خارج قاعة التفاهمات الروسية الأميركية فوق الأرض "الأوروبية".

إذا كانت أطراف الصراع مضطرة اليوم لدفع فاتورة باهظة ثمنا لتدخلها، فإن الاتحاد الأوروبي -الغائب حقيقة والحاضر نتيجة- سيجد نفسه مستقبلا مضطراً لدفع فاتورة أكبر من رصيد تماسكه وأمنه واستقراره وسيادته، وهي ثمن ما لم يقم به، وبعبارة أدق ثمن تقاعسه عن القيام بما يلزم. ونعم؛ قد يملك راسم السياسات المبررات التي سيختبئ خلفها عند الوقوف أمام النتائج، ولكن من كان حصنه المبررات كان حصاده الفشل!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.