العلاقات العربية الروسية وامتحان ربيع الثورات الصعب

Russian Foreign Minister Sergei Lavrov (R) and his counterpart from Saudi Arabia Adel al-Jubeir attend a news conference after the talks in Moscow, Russia, April 26, 2017. REUTERS/Sergei Karpukhin

ارتباك وتقلب في المواقف
بداية المعارضة الجدية
محددات الموقف الروسي
فوبيا الثورات الملونة 

تعرضت العلاقات العربية الروسية لاختبار صعب منذ تفجُّر موجة الثورات الشعبية ضد الحكام المستبدين في عدد من البلدان العربية. ورغم البراعة الروسية في محاولة الفصل بين الملفات في العلاقات مع العواصم العربية المؤثرة؛ فإنه يصعب التكهن بمستقبل هذه العلاقات بسبب الدور الروسي الذي أظهر عداء واضحا للربيع العربي منذ بداياته.

ومما زاد الأمرَ تعقيدا تدخلُ موسكو -أكثر من اللازم- في الصراع السوري، وصعوبة المحافظة على علاقات قوية مع الأطراف العربية وتركيا وإيران وإسرائيل، في ظل تضارب مصالح وأهداف هذه البلدان.

منحت أحداث الربيع العربي منذ انطلاقتها فرصة لصانع القرار الروسي، وفي ذات الوقت فرضت تحديات بشأن طريقة التعامل مع الأحداث العاصفة في منطقة تحظى بأهمية إستراتيجية كبيرة لموسكو. وتكمن الفرصة في إمكانية تطوير العلاقات العربية الروسية وفق أسس جديدة باستثمار الانفتاح الروسي على الشرق الأوسط منذ صعود فلاديمير بوتين، وزيادة دور روسيا العالمي بسبب تراجع الدور الأميركي.

ارتباك وتقلب في المواقف
فاجأ تسارعُ الأحداث في الشرق الأوسط -منذ شتاء 2010- النخبَ السياسية الروسية وأربكها، فتضاربت مواقفها وتقلبت بسرعة. في تونس تعاملت موسكو بعدم اكتراث في البداية ثم انتقلت إلى دعم نتائج الثورة بعد فرار الرئيس زين العابدين بن علي.

منحت أحداث الربيع العربي منذ انطلاقتها فرصة لصانع القرار الروسي، وفي ذات الوقت فرضت تحديات بشأن طريقة التعامل مع الأحداث العاصفة في منطقة تحظى بأهمية إستراتيجية كبيرة لموسكو. وتكمن الفرصة في إمكانية تطوير العلاقات العربية الروسية وفق أسس جديدة باستثمار الانفتاح الروسي على الشرق الأوسط

ورغم التصريحات الروسية بفتح صفحة جديدة في العلاقات مع تونس بعد الثورة، فإن التعاون بين البلدين راوح مكانه، وربما اقتصرت المقاربة الروسية على ضمان أمن السياح الروس في بلد يستقبل سنويا قرابة نصف مليون سائح روسي.

ومع أن نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك لم يسعَ إلى بناء علاقات إستراتيجية مع موسكو -سيرا على خطا سلفه أنور السادات منذ بداية السبعينات من القرن الماضي- فإن الجانب الروسي تأخر كثيرا في توضيح موقفه، وحتى الساعات الأخيرة كانت المواقف الروسية تدعو إلى ضبط النفس، وحاولت موسكو المحافظة على بقاء مبارك أملا في أن يساهم ذلك في تغير جذري يؤدي لعلاقات مميزة مع روسيا.

تردد الكرملين في دعم الثورة المصرية، وحتى بعدما انقلب موقفه إثر الإطاحة بمبارك فإن موسكو لم تبادر لترجمة ذلك إلى أفعال محددة. وبعد صعود الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم بدا واضحا العداء المتأصل في موسكو لأي حكم إسلامي.

وتعامل فلاديمير بوتين ببرود مع دعوات الرئيس محمد مرسي الصريحة لبناء علاقات إستراتيجية مع روسيا أثناء قمة جمعتهما في سوتشي. وفي المقابل دعم بوتين عبد الفتاح السيسي في انقلابه، واستقبله إثره وهو ما زال وزيرا للدفاع، وكذلك بعدما أصبح رئيسا وفق الانتخابات التي نظمها لاحقا.

وبعيدا عن الحميمية في تصريحات الجانبين الروسي والمصري؛ فإن العلاقات في أعوام حكم السيسي تعرضت لاختبارات قاسية بسبب حادثة إسقاط طائرة السياح الروس فوق سيناء. ورغم التصريحات الرنانة، فلم تشهد العلاقات تطورا لافتا كما توقع الخبراء المحسوبون على الكرملين أو نظام الانقلاب.

بداية المعارضة الجدية
منذ البداية شككت روسيا في أهداف ثورة 17 فبراير في ليبيا ضد نظام حليفها العقيد معمر القذافي. ورفضت موسكو الاعتراف بالمجلس الانتقالي، وحافظت على علاقاتها مع القذافي حتى آخر لحظة، وعارضت أي قرار دولي يدينه، إلى أن اضطرت لعدم تعطيل صدور قرار مجلس الأمن 1973، والاكتفاء بالامتناع عن التصويت على هذا القرار الذي يفرض حظرا للطيران على ليبيا وعقوبات على نظام القذافي.

وسارع بوتين -الذي كان رئيسا للوزراء حينها- إلى تحميل الرئيس دميتري مدفيدف مسؤولية اتخاذ قرار خاطئ، ووصف في 21 مارس/آذار 2011 الهجمات الغربية بأنها "حروب صليبية"، وحذر من محاولة تغيير الأنظمة من الخارج بقوة السلاح. وواصلت روسيا محاولاتها لفتح حوار بين القذافي والثائرين عليه من دون نتيجة.

وبعد القضاء على القذافي، ورغم الانتقادات الحادة لطريقة قتله وللتعامل الغربي؛ اعترفت موسكو بالمجلس الانتقالي، ولكنها لم تعمل على بناء علاقات جدية مع الحكومات التالية لنظام لقذافي.

ومن اللافت أن موسكو -التي حذرت من فوضى السلاح، واشتعال حرب أهلية في ليبيا- دعمت لاحقا الجنرال السابق خليفة حفتر بالسلاح واستقبلته في موسكو، ويدور حديث عن وجود قوات خاصة روسية في ليبيا، وتقديم تدريبات وشحنات أسلحة لقوات حفتر، مما يساهم في إطالة معاناة الليبيين.

نقطة الانعطاف الرئيسة في الموقف الروسي بدأت عندما حط الربيع العربي رحاله في سوريا، واتجهت موسكو إلى التشدد في مواقفها انطلاقا من تعلمها -حسب قياداتها- عِبَر "الدرس الليبي"، وتبنت النخب الروسية الموقف الرسمي السوري من المظاهرات ضد حكم بشار الأسد، وواصلت دعمه سياسيا واقتصاديا.

ووصل الأمر إلى التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا خريف 2015 لإنقاذ حكم الأسد من السقوط، بعد تقدم الثوار في دمشق وشمال غرب البلاد. وعطل الفيتو الروسي ثماني مرات إصدارَ قرارات من مجلس الأمن لإدانة النظام السوري بسبب جرائمه ضد شعبه.

محددات الموقف الروسي
عزت موسكو موقفها من الربيع العربي بضرورة احترام سيادة الدول، والتشديد على عدم جواز التدخل في شؤونها الداخلية، وانتقلت لاحقا إلى رفض مبدأ تغيير الأنظمة بالقوة من الخارج.

نقطة الانعطاف الرئيسة في الموقف الروسي بدأت عندما حط الربيع العربي رحاله في سوريا، واتجهت موسكو إلى التشدد في مواقفها انطلاقا من تعلمها -حسب قياداتها- عِبَر "الدرس الليبي"، وتبنت النخب الروسية الموقف الرسمي السوري من المظاهرات ضد حكم بشار الأسد، وواصلت دعمه سياسيا واقتصاديا

وصورت النخب الروسية الاحتجاجات الشعبية على أنها مؤامرة غربية لخلق الفوضى في البلدان العربية، وسعت قدر الإمكان إلى تغييب الجانب السلمي الشعبي، والزعم بأن ما تشهده البلدان العربية -وخاصة ليبيا وسوريا- هو مجرد صراع عسكري لإزاحة أنظمة لا تروق للغرب، وبدعم من بلدان تسعى إلى محاربة إيران وبناء "نظام سني".

وذهب ساسة وإعلاميون روس إلى أن الهدف هو محاصرة روسيا وإزاحة حلفائها في الشرق الأوسط، وتجريد موسكو من آخر قواعدها في المتوسط. وخرجت نظريات توضح أن الصراع يتمحور أصلا حول مرور خطوط الطاقة من العراق وقطر وإيران إلى أوروبا عبر المتوسط.

ويمكن تقسيم المحددات الروسية المعلنة للموقف من الربيع العربي إلى ثلاثة؛ الأول ينطلق من مقاربات أمنية، وخشية من الفوضى وانتشار الإرهاب إلى آسيا الوسطى وحتى إلى روسيا ذاتها، بسبب تنامي التنظيمات المتطرفة في سوريا وليبيا والعراق. وأما المحدد الثاني فيكمن في رغبة روسيا في تأكيد مكانتها كقوى عالمية عظمى، وشريك لا يمكن الاستغناء عنه في حل القضايا العالمية.

وهنا تترسخ قناعة لدى معظم النخب الروسية بأن الفرصة سنحت لموسكو بسبب سياسة الانكفاء الأميركي في عهد أوباما، وقناعة هذه النخب بأن أي إدارة في واشنطن ستتعامل بحذر مع فكرة دخول حرب جديدة في سوريا، بعد الخيبات في العراق، ولعامل مهم آخر هو الخشية من تداعيات وصول قيادات جديدة في المنطقة أو اندلاع فوضى خطيرة على أمن إسرائيل.

وفي مقاربتها الثالثة، تخشى موسكو من ضياع مصالحها الاقتصادية في الشرق الأوسط، وضياع استثمارات رجال أعمالها بالعراق وليبيا وسوريا في مجال النفط والغاز وغيرهما. كما ترى موسكو أنها تستطيع الترويج لأسلحتها وتجريبها وإبراز مدى قوتها من أجل إنعاش قطاع الصناعات الدفاعية.

فوبيا الثورات الملونة
وبعيدا عن هذه المحددات تكشف تصريحات المسؤولين الروس الأخيرة عن جزء مهم من أسباب عداء موسكو للربيع العربي، وتأييد الثورات المضادة، ودعم الحكام الدكتاتوريين.

وفي محاضرة ألقاها في مارس/آذار الماضي بموسكو، قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إن التدخل الروسي في سوريا مكّن من كسر ما وصفها بسلسلة الثورات الملونة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولفت إلى أن العمليات الروسية في سوريا أدت إلى حل قضية جيوسياسية، فضلا عن وضع حد للثورات التي اجتاحت المنطقة.

وسعى شويغو إلى تفنيد وجود أي أساس لحراك سلمي أثناء الربيع العربي بقوله إن "التحليل العسكري للتطورات التي شهدها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يؤكد عكس ذلك، حيث إن استخدام القوة العسكرية كان جزءا من تلك الثورات الملونة".

روسيا ما زالت تنظر إلى الربيع العربي على أنه استمرار للثورات الملونة التي اندلعت مطلع الألفية في جوارها الإقليمي، ومحاولات الغرب فرض قيم الديمقراطية الغربية. وازدادت عدائية الكرملين للربيع العربي خشية من انتقاله إلى شوارع المدن الروسية بسبب تشابه الظروف الاقتصادية

وتستخدم موسكو ماكينتها الإعلامية والدبلوماسية لترويج أن الربيع العربي هو استمرار لسلسلة الثورات الملونة "المدعومة غربيا" لخلق الفوضى، والتي بدأت بثورة الورود في جورجيا 2002، والثورة البرتقالية في أوكرانيا 2004، وثورة السوسن في قرغيزستان 2005. وأخيرا شدد الرئيس بوتين على أن سلطات بلاده ستعمل على منع بروز "ثورات ملونة"، في روسيا وآسيا الوسطى.

وفي لقاء تلفزيوني في 12 أبريل/نيسان الجاري؛ قال بوتين "نعلم أن هناك نظريات مختلفة تطبق في مناطق مختلفة من العالم، وتؤدي إلى زعزعة الاستقرار بشكل كبير فيها..، يجب عدم السماح بوقوع شيء مماثل، وسنبذل جهودا للقيام بما يلزم في روسيا، ودعم شركائنا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي بكافة السبل".

مما سبق يتضح أن روسيا ما زالت تنظر إلى الربيع العربي على أنه استمرار للثورات الملونة، ومحاولات الغرب فرض قيم الديمقراطية الغربية. وازدادت عدائية الكرملين للربيع العربي خشية من انتقاله إلى شوارع المدن الروسية بسبب تشابه الظروف الاقتصادية.

ولذلك يجب الانتباه إلى أن الموقف الروسي تطور باتجاه التشدد تزامنا مع بروز المظاهرات في المدن الروسية، احتجاجا على تزوير نتائج الانتخابات البرلمانية عام 2011، والتحضير لعودة بوتين إلى الحكم في 2012 ضمن لعبة الكراسي مع مدفيدف للتحايل على الدستور الروسي.

من الصعب على روسيا الاستمرار في بناء علاقات مع بلدان عربية أخرى وخاصة من دول الخليج في ظل الخلافات الجوهرية معها بشأن مصير الأسد، والموقف من إيران وحزب الله.

والمؤكد أن الأطراف العربية الرافضة لسياسة الكرملين ستواصل التنسيق مع روسيا في محاربة الإرهاب، وربما في مجال تثبيت أوضاع الأسواق النفطية نظرا لتلاقي المصالح في هذين الجانبين، لكن مؤكد أيضا أن بناء علاقات إستراتيجية يحتم على روسيا تفهم مصالح البلدان العربية المنخرطة في الأزمة السورية، وكذلك تحديد موقف واضح من العلاقة مع إيران.

واضح أن العلاقات العربية الروسية تتعرض لامتحان صعب يهدد بخسارة الكرملين لكل جهوده السابقة من أجل الانفتاح على العالم العربي في حال الإصرار على دعم الأسد، وتجاهل مطالبات البلدان الخليجية بتنحيته.

ومن المؤكد أن الوقت لا يلعب في مصلحة موسكو إذا رغبت في بناء علاقات إستراتيجية مع العالم العربي، وتثبيت دورها كقوة عظمى فاعلة في الشرق الأوسط والعالم، فالفرصة السانحة لتطوير العلاقات قد تتحول إلى قطيعة إذا استمرت المقاربات الروسية الخاطئة للربيع العربي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.