دون تسويق للتشاؤم

عشرات المتظاهرون يقفون في انتظار وصول وزراء حكومة التوافق للتعبير عن احتجاجهم على تقاعس الحكومة عن حل أزمات غزة
الجزيرة

معضلة التباين البرامجي
صب الزيت على النار
سطوة منطق الكوتا
إعادة بناء العقد التاريخي

ما زالت حالة المراوحة في المكان هي العنوان السائد في الحالة الفلسطينية فيما يتعلق بتفعيل حكومة التوافق الوطني، والعمل على حل الاستعصاءات التي ما زالت تعترض طريقها.

ورغم أن زيارة رئيس وزراء حكومة التوافق رامي الحمد الله لقطاع غزة الشهر الماضي، طبل وزمر لها الكثيرون، فلم ينتج عنها سوى إثارات وإشارات توحي بمناخ إيجابي عام، لكنها لم تكن لتعطي نتائج ملموسة ومحسوسة وقاطعة على صعيد الملفات المطروحة والساخنة.

ومن هذه الملفات ما يتعلق بموضوع موظفي القطاع المفصولين أو المقطوعة رواتبهم وإعادة توحيد الأجهزة والمؤسسات بين الضفة الغربية والقطاع، ومنها أيضا ملف إعادة إعمار ما دمرته جولات الحرب الدموية "الإسرائيلية" التي شنت على القطاع، ومسألة المعابر ومنها على وجه الخصوص معبر رفح، وغير ذلك من العناوين التي ما زالت تعرقل الإقلاع الجدي لحكومة التوافق الوطني.

معضلة التباين البرامجي

معضلة التباين البرامجي بين طرفي المعادلة الفلسطينية (فتح وحماس) وحتى مع القطب الثالث (الفصائل اليسارية والقومية) مسألة لا يمكن إغفالها، لكن في المقابل يمكن حلها وتجاوزها بإحداث مقاربات ممكنة سياسية وطنية تحفظ وتصون مسار العمل الموحد

وحتى لا نتهم بتسويق التشاؤم، وحتى نتكلم بموضوعية بعيدا عن المبالغات وعن تسويق الرغبات، فقد بانت في الفترة الأخيرة المساحة الواسعة من الافتراق في الساحة الفلسطينية بين الطرفين الأساسيين في المعادلة: حركة حماس، وحركة فتح، بالرغم من معسول الكلام الذي أطلقته حناجر الناس، وحناجر المتفائلين، والأمنيات المشروعة التي يريد المواطن الفلسطيني أن يرى تفعيلاتها على الأرض من خلال إغلاق ملف الانقسام وطيه، وإقلاع عمل حكومة التوافق الوطني الفلسطيني التي تم تشكيلها قبل عدة أشهر.

فمعضلة التباين البرامجي بين طرفي المعادلة الفلسطينية (فتح وحماس) وحتى مع القطب الثالث (الفصائل اليسارية والقومية كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) مسألة لا يمكن إغفالها، لكن في المقابل يمكن حلها وتجاوزها بإحداث مقاربات ممكنة سياسية وطنية تحفظ وتصون مسار العمل الموحد، مقاربات لا يعجز عنها العقل السياسي الفلسطيني إذا توفرت النوايا والإرادة الصادقة البعيدة عن العصبيات التنظيمية وعن منطق الاحتواء والاستحواذ لدى مختلف الأطراف.

كما أن الأحداث المتسارعة على الأرض أصبحت بدورها تعمل -وللأسف- على تعميق الهوة بدلا من ردمها أو حتى تضييقها وجسرها، بالرغم من قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي صدرت في ختام اجتماعاته الأخيرة في رام الله في دورته الـ72، وهي قرارات جيدة، لكن اللغط ما زال سائدا بشأن من يقول بإلزامية تلك القرارات لقيادة السلطة والمنظمة، ومن يقول بأن المجلس المركزي ليس سوى هيئة استشارية ترفع توصياتها فقط، ولا تلزم القيادة.

صب الزيت على النار
إن الأحداث أصبحت تعمل على تعميق الهوة في الساحة الفلسطينية كما أسلفنا، فتصريحات الوزير محمود الهباش (التوتيرية) الدائمة الحضور على لسانه في كل مناسبة، والتي قال في إحداها مؤخرا وفي خطبة ليوم الجمعة "إن عاصفة الحزم يجب أن تمتد لغزة ولا حوار مع الانقلابيين" صبت الزيت على النار، وأحدثت ضجة في هذا المسار، بدلا من إطلاق التصريحات العاقلة والمتزنة التي تساهم في بلسمة الجراح، وتساعد على فتح دروب استعادة الوحدة الوطنية وطي ملفات الانقسام المؤلم.

استخدام المفاوضات وسيلة وحيدة دون ظهير إستراتيجي مقاوم سيبقي الفلسطيني كسيحا في المحافل الدولية، ومن هنا تأتي أهمية اتخاذ خيار المزاوجة بين السلطة والمقاومة، وتجاوز منطق العقلية الأحادية في صياغة وصناعة القرار لصالح الشراكة

إن تصريحات الوزير محمود الهباش التصعيدية والتوتيرية المتكررة من حين لآخر، تترافق مع سيادة منطق الرهان المستمر على حشر العملية الكفاحية الوطنية الفلسطينية عبر قناة التفاوض السياسي وحده لا غيره، وعبر قناة التأثير والتدخل الدبلوماسي، مع إغفال كل الأشكال الكفاحية الشعبية الانتفاضية التي يمكن أن تحدِث تعديلا ولو بحدود معينة في مسار العملية السياسية التفاوضية غير المتوازنة أصلا والغارقة في سباتها العميق.

فاستخدام المفاوضات وسيلة وحيدة دون ظهير إستراتيجي مقاوم سيبقي الفلسطيني كسيحا في المحافل الدولية، التي لا مكان فيها لاستجداء الضعفاء الحقوق. ومن هنا تأتي أهمية اتخاذ خيار المزاوجة بين السلطة والمقاومة، وتجاوز منطق العقلية الأحادية في صياغة وصناعة القرار لصالح الشراكة.

 
وهنا نقول إن انضمام فلسطين لمحكمة الجنايات الدولية، خطوة في الاتجاه الصحيح المطلوب، لخوض المعركة مع الاحتلال من أوسع أبوابها، بما في ذلك الميدان السياسي والدبلوماسي على مستوى العالم، والهيئات والمؤسسات الدولية. خطوة تصادمية مع الاحتلال، يفترض أن تتواصل معها الجهود على مختلف المسارات لاستثمار كل الأوراق الفعالة باليد الفلسطينية بدلا من الارتهان لمنطق المفاوضات.
 
سطوة منطق الكوتا
إن الطامة الكبرى هنا هي أن جزءا كبيرا من خلفيات الانقسام في اللوحة السياسية والتنظيمية الفلسطينية، يتمثل في غياب الاقتناع عند البعض بمسألة التشاركية الوطنية في صياغة وصناعة وإدارة القرار الوطني الفلسطيني من مختلف الفصائل ومن بعض المستقلين الموجودين في عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي الهيئة القيادية العليا المسؤولة عن الشعب الفلسطيني بالداخل والشتات.

فهناك ما زالت تعشعش في أذهان البعض عقلية وروحية الاستحواذ، واحتكار سلطة القرار، واستدرار سياسات الماضي التنظيمية داخل أطر ومؤسسات المنظمة والعمل الفلسطيني، وسيادة منطق تقاسم الحصص (الكوتا)، المعمول به منذ قيام ائتلاف منظمة التحرير الفلسطينية في فبراير/شباط 1968، وهو المنطق المتقادم الذي أسس تاريخيا لحالة فلسطينية تتمتع بديمقراطية شكلية، لكنها في جوهرها منافية لذلك، وتقوم على قاعدة "السمك الكبير يبتلع السمك الصغير".

إنجاز الوحدة الوطنية التشاركية الحقة، وطي ملف الانقسام، شرط أساسي لا بد منه لإحداث انتقالات إيجابية جدية وحقيقية بالوضع الفلسطيني، خصوصا في ظل المرحلة الصعبة الحالية التي تمر بها الأراضي الفلسطينية المحتلة والصمت الذي يحيط بملف إعادة إعمار غزة

كما هو ذاته المنطق الذي توافقت عليه مختلف القوى داخل ائتلاف منظمة التحرير بالرغم من ضجيجها الإعلامي واحتجاجاتها اللفظية على التهميش، والاستحواذ على سلطة القرار من قبل حركة فتح، ومنها فصائل اليسار الفلسطيني على وجه التحديد، التي ارتضت تاريخيا بما تم ويتم منحه لها من مقاعد في المؤسسات الوطنية في منظمة التحرير الفلسطينية (اللجنة التنفيذية، والمجلس المركزي، والمجلس الوطني، والبرلمان الموحد للداخل والشتات)، وبالطبع مع "الكوتا" المالية التي يقدمها الصندوق القومي الفلسطيني لمختلف تلك القوى وفق تقسيمة "الكوتا" نفسها المعتمدة منذ سنوات طويلة.

إعادة بناء العقد التاريخي
ومع ذلك وبالرغم من كل المعيقات، فإن المصلحة الوطنية الفلسطينية تتطلب من الجميع دون استثناء، التغلب على المصاعب مهما بدت من أجل إعادة بناء العقد الوطني التاريخي، بإنجاز وحدة الساحة الفلسطينية بالداخل والشتات. والعودة لترجمة نتائج الحوارات الوطنية الفلسطينية التي امتدت فترات طويلة في العاصمة المصرية القاهرة، والعاصمة القطرية الدوحة، بما في ذلك إعادة النظر في تركيبة منظمة التحرير الفلسطينية من أجل استيعاب الجميع ضمن أطر المنظمة، وبالتحديد الفصيلين الأساسيين الموجودين حاليا خارج أطر المنظمة، وهما حركتا حماس والجهاد الإسلامي طبقا لوجودهما ووزنهما على الأرض في الداخل والشتات.

إن الأوضاع التي تشهدها الساحة الفلسطينية من إخفاقات ومن أزمات متداخلة ومتراكمة تجعل الحليم حيران، في هذه الحيرة الفلسطينية والتخبط الواضح للسياسات غير المدروسة على مستوى صناعة القرار في الساحة الفلسطينية عامة، وعند مختلف القوى والفصائل خاصة.

إن إنجاز الوحدة الوطنية التشاركية الحقة، وطي ملف الانقسام، شرط أساسي لا بد منه لإحداث انتقالات إيجابية جدية وحقيقية في الوضع الفلسطيني، خصوصا في ظل المرحلة الصعبة الحالية التي تمر بها الأراضي الفلسطينية المحتلة في القدس ومحيطها، والصمت الذي يلوذ به ملف إعادة إعمار قطاع غزة بعد الحرب العدوانية "الإسرائيلية" الأخيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.