عن الثورة والثورة المضادة

ميدان التحرير كان مسرحا لفعاليات ثورية كثيرة
الجزيرة

مع نهاية العام 2010 اندلعت الثورات في العالم العربي بدءا من تونس ثم مصر واليمن وليبيا وسوريا لاحقا، وقد بدأ الحديث عن ثورات مضادة بعد أن ظهر أن الثورات لا توصل أحزابا وقوى تمثل مصالح الطبقات التي انتفضت إلى موقع السلطة، وأن القوى التي تصل هي من الطينة ذاتها للنظم التي ثارت عليها.

فقد قامت قيادة الجيش في كل من تونس ومصر بالالتفاف على الثورة، عبر الإيحاء بأنها من سيحقق مطالب هذه الطبقات، لكنها عملت من خلال سيطرتها على صيرورة المرحلة الانتقالية، على إعادة إنتاج النظام ذاته، بعد إبعاد رموز "العهد القديم" وتوسيع القاعدة السياسية للسلطة، وربما فتح أفق تحالف بين فئات رأسمالية كان يبدو أنها تتطاحن، أو أن جناحا فيها (رجال الأعمال الجدد) كان يعمل على تدمير كل الأجنحة الأخرى (الرأسماليات التجارية والعقارية والبنكية، وحتى المافياوية، رغم أن هذه التي كانت حاكمة هي رأسمالية مافياوية).

وإذا كان ما حدث هو ثورة شعبية، حيث انتفضت الطبقات المفقرة من أجل التغيير، فهل أن عملية الالتفاف التي تجري يمكن أن نطلق عليها مصطلح "ثورة مضادة"؟

إذا كانت الثورة هي التمرد الشعبي على السلطة المستبدة، فإن الثورة المضادة كما جرى تحديدها وممارستها، هي التمرد (الذي يُدعم بفئات شعبية، أو عبر انقلاب عسكري) على سلطة شعبية. فالثورة هي "التمرد على السلطة" بالتحديد، إنها تخص الحراك ضد السلطة، أو التمرد على السلطة، بهدف تغييرها.

إذا كانت الثورة هي التمرد الشعبي على السلطة المستبدة، فإن الثورة المضادة كما جرى تحديدها وممارستها، هي التمرد (الذي يُدعم بفئات شعبية، أو عبر انقلاب عسكري) على سلطة شعبية

هذا هو التعبير الحقيقي لكلمة ثورة، والذي لا يجوز تجاوزه حين البحث في الواقع، والنظر إلى الثورات وآليات مواجهتها. وإذا كان "النظر العام" لا يظهر الخلل في الحديث عن ثورة مضادة في سياق آخر، فإن التدقيق يقود إلى خلل كبير في فهم آليات الصراع، وتحديد تعبيراته.

وبهذا لا يكون صحيحا الحديث عن ثورة مضادة في وضع مازالت السلطة هي سلطة رأس المال، بمعنى أن الشعب هو الذي يخوض ثورة ضد سلطة رأس المال. حيث ما دامت السلطة هي سلطة رأس المال فإن الأمر يتعلق بثورة ضدها، وأن دفاعها عن سلطتها -بغض النظر كيف يمكن أن يكون ذلك- لا يمكن أن نطلق عليه تعبير ثورة مضادة. وبالتالي يكون تأسيس ثنائية ثورة/ ثورة مضادة أمرا مضللا ومشوشا.

هنا ليس من ثنائية، بل هناك ثورة من قبل شعب ضد طبقة مسيطرة. الشعب يثور من أجل التغيير وإسقاط الطبقة المسيطرة، بينما ستعمل الطبقة المسيطرة على الالتفاف على الثورة حين يتوضّح لها أن سلطتها عاجزة عن سحقها، وبهذا تمارس تكتيكات مختلفة للحفاظ على سلطتها. وهذا ما لا يمكن أن نسميه ثورة مضادة، بل هو فعل "طبيعي" من قبل الطبقة المسيطرة للحفاظ على سلطتها.

وهنا يجب الانتباه إلى الطبقي وليس إلى السياسي (السلطة) فقط، وأن السلطة هي واجهة سلطة الطبقة، وأن هذه الطبقة يمكن أن تناور في تبديل شكل السلطة من أجل الحفاظ على سيطرتها.

بالتالي نحن في إطار صراع طبقي، بين طبقات شعبية وسلطة تعبّر عن رأسمالية (مافياوية، تابعة، ريعية). ولقد فرضت الثورة بعد أن توسعت وأصبحت تهدد سلطة الطبقة المسيطرة، على الطبقة المسيطرة العمل على "تنفيس" الثورة عبر "حركة ما". كانت تلك الحركة في تونس ومصر عن طريق تحرّك الجيش، الذي صيغ كجيش "وطني" وداعم لمطالب الشعب، لإبعاد الرئيس وحاشيته، والظهور بمظهر المحقق لأهداف الثورة، الشيء الذي قاد لتحكمه في صياغة مرحلة انتقالية، والإشراف عليها بهدف إعادة إنتاج السلطة الطبقية ذاتها في شكل جديد، يعتمد على استقطاب بعض أحزاب المعارضة للتأكيد على أن نظاما جديدا يتشكل.

بمعنى أن المسألة تتعلق بتغيير الشكل الذي تحكم من خلاله الطبقة المسيطرة، عبر إدماج أحزاب جديدة دون المسّ بالطبيعة الطبقية ذاتها، هذه الأحزاب التي كانت السلطة السابقة في صراع معها نتيجة اختلافات في المصالح الطبقية بين شرائح الطبقة الرأسمالية ذاتها، كما كان وضع الإخوان المسلمين وبعض الفئات الليبرالية.

لا يمكن اعتبار دفاع الطبقة المسيطرة عن وضعها المسيطر ثورة مضادة، ولا اعتبار أن تكتيكها في اللعب على الثورة هو ثورة مضادة. لم تنتصر الثورة لكي تواجَه بثورة مضادة، فهي لازالت في خطوتها الأولى

إذن، لا يمكن اعتبار دفاع الطبقة المسيطرة عن وضعها المسيطر ثورة مضادة، ولا اعتبار أن تكتيكها في اللعب على الثورة هو ثورة مضادة. لم تنتصر الثورة لكي تواجَه بثورة مضادة، فهي لازالت في خطوتها الأولى، حيث استطاعت ضعضعة السلطة القديمة ببناها ومؤسساتها فقط، وما زال الطريق طويلا لكي تنتصر الثورة.

وهنا يجب عدم الخلط بين صراع طبقات شعبية ضد طبقة رأسمالية مسيطرة، هذه الثنائية القائمة الآن، وبين عدم تسمية كل ما يجري بالثورة، وبالتالي التعبير عن هذا الصراع الطبقي بمصطلح الثورة مقابل الثورة المضادة. هذا هو التشويش الذي يؤسس لتصورات مرتبكة ومربكة، ولسياسات خاطئة. لأن ثنائية ثورة/ ثورة مضادة تغطي على طبيعة الصراع الفعلي، الذي هو صراع طبقي، وتؤسس لفهم "سياسي" للصراع، هو ما يُدخل في تكتيكات خاطئة.

إن استخدام هذا المصطلح يؤدي إلى خلط كبير في وضع الطبقات والأحزاب والسلطة. فالسلطة هي أداة الطبقة المسيطرة، التي هي الرأسمالية المافياوية، ومن يثور ضدها هي الطبقات الشعبية، أي العمال والفلاحين الفقراء والمتوسطون، والبرجوازية الصغيرة المدينية. فهنا السلطة وهنا الثورة.

لكن هناك أحزاب تمثّل الرأسمالية رغم أنها خارج السلطة، وربما تعبّر عن شرائح مهمشة في الطبقة الرأسمالية نتيجة ميل فئة فيها للاستحواذ على الثروة. هذه الشرائح وأحزابها تلتحق بالثورة لكي تستفيد في تحسين وضعها عبر ركوب موجة الثورة، ويمكن أن تحقق ذلك أو يمكن أن تفشل. ما يسمح لها أن تلعب دورا محوريا هو غياب التعبير السياسي عن الطبقات الشعبية، وبالتالي الفراغ القيادي في الثورة، لهذا يمكن أن تقطف ثمارها.

بالتالي ليس من الممكن أن نسمي هؤلاء ثورة مضادة، فهم ضمن الفئات التي شاركت في الثورة لتحقيق مصالحها، هذه المصالح المضادة للثورة لأنها تكرّس النمط الاقتصادي المسيطر بعد أن تعدّل في طبيعة الشريحة المهيمنة بين شرائح الرأسمالية، إذا نجحت في تحقيق سيطرتها.

وهذه المسألة الأخيرة لم تتحقق إلى الآن، حيث لعب الإخوان المسلمون هذا الدور، وحاولوا تعديل العلاقة بين شرائح الرأسمالية لكنهم طردوا بثورة شعبية في مصر، وما زالوا يحاولون في تونس. وهذا يعني أن الطبقة المسيطرة لازالت مسيطرة بكل آلياتها وتكوينها، وأن الثورة لم تستطع تحقيق أي تغيير جوهري في هذا المجال، رغم أنها أضعفت بنية السلطة ككل.

إن استخدام مصطلح الثورة المضادة يؤدي إلى الخلط بين مسألتين، ويضيع المسافة بينهما، الأولى هي سياسة الطبقة المسيطرة لإنهاء الثورة، وما يمكن أن تقوم به لإجهاضها، سواء عبر تقديم تنازلات أو دمج طرف من "المعارضة" في السلطة رغم أن هذا الطرف هو ممثل لشريحة رأسمالية كذلك. والثانية بعض الأحزاب التي تركب الثورة من أجل أن تستحوذ على السلطة.

إن قوى مثل الإخوان والليبراليين هي قوى مضادة للثورة لكنها تريد ركوبها من أجل تحقيق مصالحها على حساب الثورة، إنها قوى تعمل على تحسين مواقع الشرائح الرأسمالية التي تعبّر عنها من خلال استيلائها على السلطة، أو مشاركتها فيها

ونتيجة هذا الخلط باتت تعتبر قيادة الجيش من ضمن صفوف الثورة، ولهذا يشار إلى أنها ثورة مضادة، ويجري إهمال وضع الإخوان المسلمين والليبراليين، الأمر الذي يجعل مصطلح الثورة المضادة يتعلق بسياسات الطبقة المسيطرة بالأساس، وهذا خطأ حقيقي، فهي الطبقة التي نهضت الثورة من أجل إسقاطها أصلا.

بالتالي يمكن القول إن تلك القوى، من الإخوان والليبراليين، هي قوى مضادة للثورة لكنها تريد ركوبها من أجل تحقيق مصالحها على حساب الثورة، إنها قوى تعمل على تحسين مواقع الشرائح الرأسمالية التي تعبّر عنها من خلال استيلائها على السلطة، أو مشاركتها فيها. بمعنى أن هناك قوى مضادة للثورة تعمل على الاستفادة من الثورة لتحقيق مصالحها، هكذا بالضبط، من ثم هذه ليست ثورة مضادة.

الصراع إذن، هو بين طبقات. وتفرض قوة ثورة الشعب على الطبقة الحاكمة إجراء تغييرات شكلية من أجل امتصاص الأزمة. وهو ما يمكن أن يوقف الثورة، أو يبطئ حراكها، كما تعتقد، رغم أن الطبقة المسيطرة تريد إنهاءها، وهذا لا يعني انتصار "الثورة المضادة"، بل يعني مقدرة الطبقة المسيطرة على تأخير انهيارها وتغيير الطابع الطبقي للسلطة بانتصار الثورة.

وما ساعد على ذلك هو غياب "التعبير السياسي" للطبقات الشعبية، وللعمال والفلاحين الفقراء خصوصا الذين كان دورهم يتحدد في توضيح الأهداف والمطالب، ورسم السياسات، وتحديد التكتيك الذي يوصل إلى إسقاط الطبقة المسيطرة والاستيلاء على السلطة.

هذا الغياب جعل الطبقة المسيطرة قادرة على "المناورة"، وتأخير سقوطها، من خلال الإيهام بأن الجيش ينحاز إلى الشعب، والعمل على استقطاب الأحزاب التي كانت همشتها في السابق رغم أنها لا تختلف عنها طبقيا. وكل ذلك لا يوضع، ولا يمكن أن يوضع، تحت مصطلح "الثورة المضادة". فالصراع هنا لم يحسم أصلا لمصلحة طبقة جديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.