في لزوم محاسبة المجرم والتفكير في الضحية

Palestinian mourners gather around the bodies of Jihad Esam Shahebar, 10, Fullah Tariq Shahebar, 8, and Wasim Esam Shahebar, 9, during their funeral in Gaza City, Thursday, July 17, 2014. The children were killed by an Israeli missile strike at their house feeding pigeons on their roof in the Sabra neighborhood of Gaza City, the family said. Fierce fighting between Israel and Hamas resumed Thursday, including an airstrike that killed three Palestinian children feeding pigeons on their roof, after a temporary cease-fire that allowed Gazans to stock up on supplies. (AP Photo/Hatem Moussa)
أسوشيتد برس


الآتي ينبغي أن نفكر فيه جيدا، حتى لا تمر الجريمة الإسرائيلية كسابقاتها دون حساب أو ترتيب.

(1)

قبل أي كلام في الموضوع، أرجو أن يتوقف النائحون واللوامون عن التذرع بالثمن الباهظ الذي دفع، والاتكاء عليه لهجاء المقاومة وتبكيتها، والادعاء بأنها لو رضخت من البداية "وسمعت الكلام" وأحنت رأسها للعاصفة، لما جرى ما جرى. فلا أريقت الدماء ولا هدمت البيوت ولما انقطع التيار الكهربائي، ولما تحول قطاع غزة من سجن كبير إلى مقبرة كبرى.

وإذا نحينا جانبا كلام الصهاينة العرب الذين هم ضد المقاومة من الأساس، وافترضنا حسن النية في غيرهم، فينبغي أن ندرك أن معارك التحرير تقاس بنهاياتها وخواتيمها وليس بأطوارها وجولاتها.. حدث ذلك في الحرب العالمية الثانية، ولاحقا في فيتنام والجزائر، حيث لا ينبغي ولا يجوز إحصاء رؤوس الضحايا أثناء العراك لأن ذلك من مداخل الانكسار المؤدي إلى الهزيمة.

وفى أمثالنا الدارجة أنك إذا شغلت نفسك في العراك بإحصاء الرجال فلا تقدم على المعركة من الأساس.. ليس ذلك حفاوة بالموت ولا تشجيعا على التضحية المجانية، ولكن لضبط بوصلة المقاتلين الذين ينبغي أن ينشغلوا بتحقيق النصر مهما كان الثمن.

معارك التحرير تقاس بنهاياتها وخواتيمها وليس بأطوارها وجولاتها، حدث ذلك في الحرب العالمية الثانية، ولاحقا في فيتنام والجزائر، حيث لا ينبغي ولا يجوز إحصاء رؤوس الضحايا أثناء العراك لأن ذلك من مداخل الانكسار المؤدي إلى الهزيمة

بوجه أخص فإنه في مواجهة العربدة الإسرائيلية التي لم تعترف للفلسطينيين منذ قرن تقريبا بحقهم في الوجود، ولا ترى لمشكلتهم حلا سوى الاقتلاع والإبادة، لا يبقى للمناضلين الفلسطينيين خيار، فبعدما جربوا مفاوضات ومراوغات السلام منذ أكثر من عشرين عاما، فإن تحدي تلك العربدة ومحاولة ردع العدو والرد على جرائمه وجبروته، ليس له أن يتم إلا بالصورة التي تمت بها في غزة.

(2)

إذا أدرنا ظهورنا للنائحين والمنددين، وألقينا نظرة على ساحة المعركة، فسندرك أننا إزاء جريمة مكتملة الأركان، كل ما تتطلبه هو التوثيق والتحقيق، لكي تقدم إلى العدالة الجنائية الدولية يوما ما، بعد عشر أو عشرين أو حتى خمسين سنة. ذلك أنها كجريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، ولكنها تظل تلاحق مرتكبيها إلى يوم الدين.

أدري أن مقاومة العدوان هي المهمة الأولى، وأن شاغل الجميع هو تجنب الموت الذي بات يهدد كل إنسان في أي موقع كان، لكن ذلك كله شيء، وما أدعو إليه شيء آخر قد يكون تاليا إن لم يكن موازيا. ذلك أن جثث القتلى تتوزع بين الطرقات وتحت الأنقاض، وأشلاؤهم ترى رأي العين، والطريقة التي قتلوا بها تعلنها الجثث بغير ادعاء.

الذين قتلوا بالصواريخ معروفون بالاسم، والذين قتلوا بالرصاص في عمليات الإعدام الجماعي -كما حدث في خزاعة- لا تزال الآثار ظاهرة على أجسادهم، والذين هدمت البيوت فوق رؤوسهم مكوّمون في ثلاجات الخضراوات بعدما ضاقت بهم ثلاجات الموتى.

أما الدماء النازفة فلا تزال طرية لم تجف بعد، ناهيك عن أن القصف المجنون يضيف إليها المزيد كل يوم. ولا تسأل عن الشهود فكل أبناء غزة رأوا الموت بأعينهم سواء في بيوتهم أو بيوت إخوانهم وجيرانهم.

إلى جانب ذلك فالقتلة موجودون ومعروفون، أسماؤهم ووظائفهم وتسلسلهم الإداري، فضلا عن تصريحاتهم التي وعدت بالقتل ودعت إليه وباركته. ليس ذلك فحسب، وإنما إلى جانب الفاعلين الأصليين، أسماء الشركاء والمحرضين بدورها معروفة.

الخلاصة أن أركان الجريمة وأطرافها وضحاياها، جميعهم تحت أعيننا، وليس هناك ما ينقص عملية التوثيق سوى القرار السياسي والهمَّة. وتلك مسألة حبذا لو دعت إليها السلطة في رام الله، ولكن المنظمات الحقوقية الفلسطينية تستطيع أن تقوم بها دونما حاجة إلى إذن السلطة.

إن الدكتور سلمان أبوستة صاحب مشروع "أرض فلسطين" الذي أشرف على إصدار أطلس فلسطين وغطى به الفترة بين عامي 1917 و1966، يعمل منذ ربع قرن في توثيق كل ما له صلة بالنكبة والقضية، ولا يزال يبحث عن الشهود الأحياء كي ينقل رواياتهم ويوثقها بعد أن يقارنها بغيرها. وإذا كان ذلك الجهد يبذل لتحقيق ما جرى قبل 65 عاما، فأيسر منه كثيرا أن يحاول الباحثون والنشطاء الفلسطينيون توثيق الحاصل هذه الأيام. وإذا كان الجهد الأول يقدم للدفاع عن التاريخ وحمايته من الاندثار، فإن الجهد المطلوب الآن يراد به توفير أدلة إدانة المجرم تمهيدا لملاحقته وحسابه على ما اقترفت يداه.

أتابع الجهد اليومي الممتاز الذي يبذله مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بالضفة الغربية الأستاذ راجي الصوراني في فضح جرائم الصهيونية والجنايات التي ارتكبتها والتشوهات التي أحدثتها في مختلف أوجه الحياة الفلسطينية. وأقدّر الجهد الذي تبذله منظمات حقوقية أخرى ونشطاء لا تنقصهم الخبرة أو الحماس، لكنني أتمنى أن ينتهز هؤلاء جميعا الفرصة الراهنة لكي يشكلوا فريقا لتوثيق الجرائم الصهيونية في العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة والتحقيق فيها. ولست أشك في أنهم أدرى مني بكيفية إحكام عملية التوثيق وتجميع أدلة الإدانة لتجهيز ملف وتقديمه إلى القضاء الدولي في أي فرصة.

(3)

أركان الجريمة وأطرافها وضحاياها جميعهم تحت أعيننا، وليس هناك ما ينقص عملية التوثيق سوى القرار السياسي والهمَّة، وتلك مسألة حبذا لو دعت إليها السلطة في رام الله، ولكن المنظمات الحقوقية الفلسطينية تستطيع أن تقوم بها دونما حاجة إلى إذن السلطة

التوثيق أهم من التحقيق الذي لا ينبغي أن تقلل من أهميته. ذلك أن التوثيق يسجل وقائع الجريمة وأدلتها، بينما يسلط التحقيق الضوء على ملابساتها. والتوثيق مهمة الفلسطينيين بالدرجة الأولى، أما التحقيق فهو يحتمل كلاما آخر. تؤيد ذلك تجربة القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون حين أعد تقريره عام 2009 بعد العدوان الإسرائيلي الذي تعرض له القطاع نهاية العام 2008.

ذلك أن التقرير أدان إسرائيل صراحة، ولكن رئيس الفريق تراجع عن موقفه في وقت لاحق، وأغلب الظن بسبب الضغوط المتوقعة التي تعرض لها. ومع ذلك فإنه ظل وثيقة تاريخية قابلة للتوظيف والاستثمار في أي وقت إذا توفرت الإرادة السياسية المطلوبة.

في كل الأحوال فالتوثيق مرحلة سابقة على التحقيق. وبالمناسبة فإن مهمة التحقيق يفضل أن تتم عبر مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، والتي سبق لها تشكيل لجنة تقصي الحقائق التي رأسها القاضي غولدستون، إلا أن هناك وفرة من الخبراء والحقوقيين الفلسطينيين الذين يستطيعون أن يتعاملوا مع الإجراءات القانونية المطلوبة لإيصال ملف القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية. وفي مقدمة هؤلاء المحامي الدولي المعروف والخبير الدستوري لميثاق منظمة التحرير الدكتور أنيس القاسم، وهو في الوقت ذاته عضو في لجنة جرائم الحرب الدولية بجنيف.

وقد شارك أكثر من عشرين من أولئك الخبراء في المؤتمر الدولي الذي عقد في بيروت عام 2005 حول إسرائيل والقانون الدولي، والذي ركز على كيفية التعامل مع جرائم الحرب التي ترتكبها.

رغم أن الكلام مبكر عن عرض الموضوع على المحكمة الجنائية الدولية، فإن هذه الخطوة -إذا قدر لها أن تتم- ينبغي أن يكون ذلك عبر أي دولة منضمة إلى معاهدة روما التي أنشأت المحكمة الدولية (عام 1957). وحتى الآن فإن المملكة الأردنية هي الوحيدة في العالم العربي التي أنجزت تلك الخطوة. ويتردد أن السلطة الفلسطينية قدمت طلبا بهذا الخصوص، إلا أن ذلك لم يحسم بعد.

وقد أشرت توا إلى أن تحريك القضية في ذلك الاتجاه يتطلب إرادة سياسية أرجو أن تتوفر في الوقت المناسب. (للعلم: نشرت صحيفة هآرتس يوم 3/8 أن الحكومة الإسرائيلية شكلت فريقا لكي يستعد لمواجهة التحقيقات التي يمكن أن تجرى في وقائع الحرب).

(4)

واجب الوقت ليس مقصورا على المسارعة إلى توثيق ما جرى، ولكنه ينبغي أن يشمل أيضا -وعلى وجه السرعة- محاولة التفكير في إعمار القطاع، والبحث عن أساليب فعالة لإيواء عشرات بل مئات الألوف الذين هدمت بيوتهم ولاذوا بالمدارس والمساجد والخرائب. وتلك مهمة تحتاج إلى تضافر جهود أطراف عدة دولية وإقليمية، إلى جانب المؤسسات والمنظمات العربية ذات الصلة.

وإذ أفهم أن تلك مسألة ينبغي أن يتصدى لها أهل الاختصاص مع أهل القرار السياسي، ولست أنتمي إلى أي منهما، فإنني أسجل هنا ملاحظتين هما:

– أنني قرأت عن معماري ياباني اسمه شاجيرو بان، احتفل في طوكيو قبل حين بمنحه جائزة الإبداع المعماري. فقد نشرت عنه صحيفة لوموند الفرنسية يوم 5/4/2014 مقالة استعرضت سيرته ومعالم تميزه، وأشارت في ذلك إلى تنفيذه مشروعات مهمة في بلاده وفي فرنسا، إلى جانب تصميمه وتنفيذه بنايات فاخرة لعديد من الميسورين في أوروبا.

واجب الوقت ليس مقصورا على المسارعة إلى توثيق ما جرى، ولكنه ينبغي أن يشمل أيضا -وعلى وجه السرعة- محاولة التفكير في إعمار القطاع والبحث عن أساليب فعالة لإيواء الذين هدمت بيوتهم ولاذوا بالمدارس والمساجد والخرائب

لكن الرجل ذاع صيته أكثر حين صمّم منازل صغيرة من الورق المقوى مخصصة لإيواء المنكوبين. وقد نفذ فكرته تلك في عدة دول ضربتها الزلازل والكوارث الطبيعية مثل رواندا وتركيا والهند والصين، إضافة إلى بلده اليابان. وتلك خبرة تستحق الدراسة، وحبذا لو تمت الاستعانة بها لمواجهة الأزمة التي نحن بصددها.

– الملاحظة الثانية أنه في أعقاب العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008/2009 الذي أشاع قدرا غير قليل من الدمار في القطاع، اهتم اتحاد المهندسين العرب بمشروع إعمار غزة، وطرحت آنذاك فكرة استخدام الأنقاض والركام في إقامة مبان جديدة.

وفيما أذكر فإن وكيل هندسة حلوان آنذاك الدكتور المهندس شريف أبو المجد درس الموضوع من هذه الزاوية، ووجد أن ثمة تجارب ناجحة تمت فيها معالجة الأنقاض وتوظيفها في صناعة "بلوكات" تستخدم في إقامة مبان جاهزة جديدة.

ورغم ترجيح نجاح تكرار التجربة في القطاع فإن عوامل عدة عطلت تنفيذها، أهمها رياح السياسة ونقص التمويل. وتلك خلفية تسمح لمثلي أن يتأملها جيدا، وأن يدعو إلى التفكير فيها كبدائل مرشحة للإسهام في الإعمار المنشود.

إذا لاحظت أننا بحاجة إلى إرادة سياسية في محاسبة إسرائيل على جرائمها أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأننا أيضا بحاجة إلى إرادة سياسية لفتح ملف إعمار غزة واللجوء إلى حلول مبتكرة لأجل ذلك، فربما أقنعك ذلك بأن السياسة هي بيت الداء، وأنها المشكلة وهي الحل.

وإذا انتبهت إلى أنني لم أشر إلى دور للدول النفطية الخليجية في الحديث عن الإعمار، فلا تحسبن أنني سهوت عن ذلك، فقد تعمّدته لأنني وجدت أن أبرز تلك الدول تقف في الناحية الأخرى، لذلك فإن حماسها منصرف إلى أمور ليس بينها القضية الفلسطينية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.