النكبة الثانية

النكبة الثانية..زياد منى


تمر في هذه الأيام الذكرى السنوية لاغتصاب الحركة الصهيونية فلسطين وتشريد شعبها في عملية تطهير عرقي منظم ومبرمج، كما أثبتت الأبحاث التاريخية التي نشرها مؤرخون إسرائيليون معادون للصهيونية أو مؤرخون إسرائيليون صهاينة يعرَّفون بأنهم الجدد أو مؤرخو ما بعد الصهيونية.

وحتى لا تتحول هذه الذكرى إلى مناسبة تقليدية ذات طقوس روتينية مملة، وحتى لا نبقى أسرى تداعياتها الكارثية، وكي تستحيل فرصة نغتنمها، نحن الفلسطينيين، للاتعاظ ولمراجعة النفس وتواريخنا ونشاطاتنا.. إلخ، منذ عام 1948 إلى يومنا هذا، علينا توضيح أمور لأنفسنا قبل غيرنا.

بداية، نود تأكيد اختلافنا مع الوصف الشائع للكارثة الوطنية التي حلت بنا في عام 1948 الذي يلخصها بأنها "نكبة". طبعا إنها حقا نكبة، لكن هذا المصطلح محايد ولا يفضح الجاني أو المجرم ولا يكشف عن هوية الضحية. ربما من الأفضل الإشارة إلى يوم 15 مايو/أيار 1948 بأنه ذكرى اغتصاب فلسطين.
على أي حال، ننتقل إلى تطبيق الدعوة التي ذكرناها آنفا، أي مراجعة النفس.

علينا الاعتراف بالمسؤولية  عن الأحوال البائسة المحيطة بقضيتنا الوطنية القومية، وعلينا امتلاك شجاعة الاعتراف بأخطائنا وذنوبنا وخطايانا

علينا كفلسطينيين الاعتراف بأننا مسؤولون، إلى درجة كبيرة، عن الأحوال البائسة المحيطة بقضيتنا الوطنية القومية، وعلينا تحمل مسؤولياتنا وامتلاك شجاعة الاعتراف بأخطائنا وذنوبنا وخطايانا.

من الصعب، بل من غير الممكن، تعداد مجمل الأخطاء التي وقعنا فيها، كحركة وطنية، والخطايا التي ارتكبناها بحق قضيتنا وبحق شعبنا الفلسطيني وشعوب أمتنا العربية.

لذا فإن كلامنا هنا ما هو إلا مدخل لمراجعة النفس ونقد الذات لاستيعاب الدروس ولإبلاغ الأجيال الفتية بأسباب ضعفنا ومسببات فقدان اهتمام أمتنا العربية بقضيتها الأولى، قضية فلسطين.

الخطأ الأول والرئيس الذي وقعنا فيه هو ابتعادنا عن العِلمية في تحليل عدونا، المباشر والداعم، والاكتفاء بإطلاق الشعارات الشعبوية التي تفتقد إلى أي منطق علمي واستسهالنا الركون إلى التحليلات الحماسية التي لا صلة لها بالمنهجية العلمية والواقع.

فالأحداث، الوطنية والقومية والعالمية أثبتت أن الافتقار إلى تحليل علمي لمكامن قوتنا ونقاط ضعف عدونا، المرتكز إلى معرفة العدو وطبيعة موقعه الفكري والمادي في منظومة القوى العالمية، لن يجلب سوى الهزيمة تلو الأخرى.

نحن لا نتجاهل المحاولات الجادة التي جرت في هذا الاتجاه، ونذكر تحديدا نشاط مركز الأبحاث الفلسطينية الذي نشر عند تأسيسه وقبل مصادرة القيادة له وتحويله إلى مؤسسة سلطانية تابعة وتافهة، مجموعة كبيرة من المؤلفات الأصيلة والمترجمة التي تساعدنا في فهم أنفسنا وعدونا، بما يمنحنا مصادر قوة في نضالنا الوطني القومي العادل.

الابتعاد عن العلمية في تحليل العدو وجوهر الصراع مكن القيادات الفلسطينية من تثبيت نفسها وأهوائها وطيشها الذي نعيش تداعياته منذ عام 1970/1971.

غياب الفكر العلمي المؤسس للمواجهة فتح أوسع المجالات أمام التفرد بالقرار والفردية في السلطة وجعل السياسة الوطنية مجموعة من الفهلوات والغرق في حالات إنكار وما ينتج من ذلك من تضليل فكري وإعلامي وانهيار أخلاقي وعسكري.. إلخ.

الخطأ الثاني الذي وقعنا فيه -وحتى نكون أكثر دقة- الذي وقعت فيه قيادة العمل الوطني الفلسطيني والنخب الفلسطينية ومثقفو شعبنا وأمتنا: التقليل من أهمية العلم في نضالنا من أجل استرداد وطننا وحقوقنا الوطنية القومية.

لقد ارتكبت القيادة الفلسطينية، من دون استثناء، خطيئة كبرى عندما حولت النضال الفلسطيني إلى "تفرغ". وصار هدف كثير من شباب شعبنا، خصوصا في المخيمات، الانضمام إلى هذه أو تلك التنظيمات بعدما كان التحصيل العلمي المتقدم هدفهم الأسمى.

السبب الرئيس للتشرذم الحاصل في فلسطين يكمن في الطبيعة الشخصية لقيادات فلسطينية مولعة بالتفرد والدكتاتورية، على حساب القضية الوطنية

نحن لا ننتقص هنا من ضرورات العمل العسكري، لكنه تم على نحو عشوائي اعتباطي ومن دون أية أرضية علمية ما أدى في نهاية المطاف إلى سقوط أعداد هائلة من الضحايا، العسكريين والمدنيين، لا تقترب بأي حال من الأحوال من حجم الإنجازات المفترض أنهم سقطوا من أجلها.

القيادات الفلسطينية، بسياستها العشوائية تلك، حولت الشعب الفلسطيني من علماء وخريجي أفضل جامعات العالم إلى "مناضلين" متفرغين ينتظرون تسلم معاشهم الشهري، مقابل نضالهم المفترض!. نقول هذا من دون التقليل إطلاقا من إقدام شعوب أمتنا العربية، جميعا، على التضحية ومن دون الاستهانة بأي قطرة دم سقطت في المواجهة مع العدو المغتصِب.

الخطأ الرئيس الثالث الذي ارتكبته القيادات الفلسطينية يتمثل في هذا التشرذم التنظيمي القائم إلى يومنا هذا، والذي هو استمرار للحالة الفلسطينية منذ اغتصاب فلسطين في عام 1948، وربما من قبل ذلك.

نقول بكل وضوح: لم يوجد أي سبب مقنع لهذا التشرذم التنظيمي الحزبي في الساحة الوطنية الفلسطينية، ولم يوجد أي مسوغ لاستمراره في ضوء الاتفاق، المعلن، على الهدف الرئيس، بل نذهب أبعد من ذلك ونقول إننا على قناعة بأن السبب الرئيس لهذا التشرذم يكمن في الطبيعة الشخصية لقيادات فلسطينية مولعة بالتفرد والدكتاتورية، على حساب القضية الوطنية القومية.

ومن المذهل أن هذه القيادات، التي أنجبت تنظيمات متشظية متناهية في عدم الأهمية وغياب التأثير، هي نفسها التي كانت تلقي على تشرذم الأمة العربية وحكامها بمسؤولية استمرار المعاناة الوطنية الفلسطينية. والأنكى من ذلك أنها كانت تطالب الحكام العرب بأمر لا تسعى هي إليه، ولو لحظة عين، وهو الوحدة الوطنية.

القيادات الفلسطينية كانت تطالب العرب بالوحدة والاتفاق، لكنها في الوقت نفسه تعمل على تشظية الساحة الفلسطينية، بل وحتى الحركات الوطنية القومية العربية المناضلة. هدف التشظية ذاك كان لإبقائها سيدة الساحة من دون منازع. تلك القيادات رفعت شعار "تحرير فلسطين طريق وحدة العرب" لإخفاء طبيعتها الفردية وولعها بحب الظهور والشعبوية المدمرة.

من الأخطاء والخطايا الأخرى التي ارتكبتها قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية إقحام الساحة الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية وشعبنا في صراعات مع هذا النظام العربي أو ذاك، والانحياز إلى هذا الطرف العربي أو ذاك المنخرط في صراع مع جاره العربي.

وحتى نكون أكثر دقة، نذكر على سبيل المثال النزاع الجزائري المغربي حول الصحراء، والموقف غير المسؤول في نزاع مصر السادات مع ليبيا معمر القذافي، إضافة إلى الموقف الجنوني الذي اتخذته بتأييد احتلال العراق للكويت وتأييد مطلب مساواته باحتلال إسرائيل الضفة والقطاع. نسيت تلك القيادة أنها نفت يوما مقولتها بأن الطريق إلى فلسطين يمر بجونية، لتكتشف جغرافية نضالنا "الجديدة!" بأن الطريق إلى بلادنا يمر بالكويت!.

كثيرة هي أخطاؤنا وخطايا قيادات شعب فلسطين، بل إنها تحتاج إلى مؤسسات متفرغة لدراستها للاستفادة منها ووضع إستراتيجية نضال وطني تهدف إلى استعادة حقوقنا الوطنية في بلادنا فلسطين.
كل ما سعينا إليه هنا وضع نقاط على بعض الحروف، وتذكير أنفسنا بأنه علينا النظر إلى مكمن العلة فينا كوننا عضوا في جسد قبل تفحص الأعضاء الأخرى.

لا ننفي العوامل العربية والعالمية التي ساهمت في إضعافنا وقادتنا إلى غيبوبة وطنية أوصلتنا إلى برنامج النقاط العشر وأوسلو من بعد ذلك، انتهاء بالسلطة الكاريكاتيرية برام الله

ما نعنيه هنا أن كل ما سبق، وهو غيض من فيض ليس إلا، لا ينفي العوامل العربية والعالمية التي ساهمت في إضعافنا وقادتنا إلى غيبوبة وطنية أوصلتنا إلى برنامج النقاط العشر وأوسلو من بعد ذلك، انتهاء بالسلطة الوطنية الكاريكاتيرية في رام الله.

نحن لا نقلل أبدا من حجم تدخلات كثير من الأنظمة العربية في شؤون الحركة الوطنية الفلسطينية وسعيها الدؤوب لتحويلها إلى ملحق لها، ولا نستهين بحجم المصاعب المحلية والإقليمية والدولية الهائلة التي واجهت نضالنا من أجل استعادة حقوقنا الوطنية في فلسطين، بل ونشدد على القول: إنه من الغلط التقليل من ذلك.

لذلك نشدد القول: فقط التفكير العلمي هو ما يوضح معالم طريقنا نحو فلسطين، وليس لوم هذه أو تلك من الأطراف العربية والدولية.

عندما نتخلص من عيوبنا وننفض عن جسدنا غبار الإهمال والنسيان والتناسي ونتحرر من حالة الإنكار التي نعيشها منذ اغتصاب وطننا في عام 1948، ونفتح أعيننا على حقائق أوضاعنا، الذاتية والموضوعية، نكون قد قطعنا الشوط الأكبر في طريق استعادة حقوقنا في وطننا، وهذه مهمة الأجيال الجديدة من أبناء وطننا وأمتنا العربية التي لم تتلوث بآثامنا وأخطائنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.