غرفة الإصغاء (1)

غرفة الإصغاء (1)

undefined

بعد جولات مكوكية مكثفة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري في المنطقة قيل إنها لاستئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل, ثبت أنه لا السلطة الفلسطينية ولا حكومة نتنياهو معنيتين باستئناف تلك المفاوضات علنا.

فالوضع القائم يخدم الطرفين: إسرائيل باستكمال مخططها لتهويد الضفة الغربية وتكريس الوضع النهائي بالصورة التي تريدها إقليميا وليس فقط على الأرض الفلسطينية المحتلة بكاملها.

وعباس ورجال سلطته يريدون الحفاظ على مكتسباتهم المادية الهائلة, والمكتسبات المعنوية المتأتية من وضع دبلوماسي يستثنيهم من أغلب أشكال القمع والإذلال الذي يعيشه كامل أهل الضفة ويعطيهم مزايا خارج الحدود أيضا. وإن بتعمد إذلالات متفرقة لهم بين الحين والآخر تمارسها سلطة الاحتلال لتذكير هؤلاء والعرب والعالم كله لمن السلطة حقيقة على كامل الأرض والشأن الفلسطيني.

ولكن لأن الإدارة الأميركية شاءت, سيعقد الطرفان في عمان (دون شروط مسبقة !) ما سمي باجتماعات "ثنائية" مع أن هنالك طرفين في "غرفة الإصغاء" سيعملان على ضمان استمرارها. فأي هذين الطرفين سيضرب على صدره حين تظهر عقدة من أكوام العقد التفاوضية المعروفة ليقول "هذه عندي", على طريقة الوسطاء في المصالحات العشائرية الأردنية؟!

عباس ورجال سلطته يريدون الحفاظ على مكتسباتهم المادية الهائلة, والمكتسبات المعنوية المتأتية من وضع دبلوماسي يستثنيهم من أغلب أشكال القمع والإذلال الذي يعيشه كامل أهل الضفة

في "غرفة الإصغاء" الولايات المتحدة يمثلها وزير خارجيتها, فيما وزير خارجية الأردن ناصر جودة لا يمثل لا حكومة ولا شعب الأردن بأي معيار تمثيلي, بل يمثل الملك عبد الله الثاني.

فهذا هو دور الوزير العابر للحكومات, كما وصفه بنفسه قبل أعوام قائلا إن الملك هو من يتخذ القرارات و"المبادرات ونحن -أي الخارجية- نتابعها فقط"! وهذا يتطابق مع ما هو معروف في الأردن من أن حقيبة الخارجية منذ حملها جودة لم تعد تتبع رئاسة الحكومة بل تتبع الملك.

وقد نشرتُ حينها مقالة في "الراية" القطرية منتقدة هذا الوضع غير الدستوري! وبما أن المتفاوضَين هنا غير معنيين بالتفاوض ابتداء, نعرض لما يريده المستمعَين "المتعهدَين" باستمرار ذلك التفاوض، حسبما قدمه كل منهما بنفسه.

ونبدأ بما قاله الملك عبد الله الثاني في مذكراته التي صدرت في أبريل/نيسان 2011 تحت عنوان "فرصتنا الأخيرة .. السعي نحو السلام في زمن الخطر".

أهم ما في الكتاب هو ما يرد باعتباره تصور الملك لما يسمى بالسلام المنشود، قائلا "فلنفكر في عالم تضافرت فيه بفعالية الخبرة الإدارية لدى الإسرائيليين, مع الكفاءة المهنية لدى الأردنيين, وريادة اللبنانيين, والمستويات العلمية لدى الفلسطينيين. لأنني أرى في تضافر القوى بين هؤلاء الشركاء المحتملين نواة تجمع اقتصادي أشبه ما يكون بتجمع دول بينيولوكس (بين بلجيكا وهولندا ولوكسمبرغ) في الشرق الأوسط. كل هذا يمكن تحقيقه، ولكن الأوضاع على الأرض تنزلق من بين أيدينا وتجعل الوصول إلى هذه الغاية احتمالا ضئيلا!".

وهذا يعيد للأذهان مشروع بيريز الذي عرضه في قمة الدار البيضاء الاقتصادية التي تلت قمة عمان الاقتصادية بعد توقيع اتفاقيتي "أوسلو" و"وادي عربة" مباشرة.

وكانت خطة بيريز الأصلية أن تعقد سلسلة من تلك المؤتمرات في العالم العربي, ولكنها توقفت عند عمان والدار البيضاء نتيجة لرفض كامل الشعوب العربية للتطبيع, ناهيك عن قبول مشروع بيريز الذي يهدف لإقامة مشاريع كبرى تديرها إسرائيل, وتمولها أوروبا (في استهداف حقيقي للأرصدة الخليجية), وتوظف العقول الفلسطينية، والعمال الأردنيين المهرة!

في كلا المشروعين نجد الأردنيين عمالا مهرة أو "مهنيين"، فيما "العقول والعلماء" فلسطينيون, وتؤول "الإدارة" التي تعني حقيقة "القيادة" لإسرائيل.

فبيريز نفسه قال في تمهيد لسلسلة القمم الاقتصادية تلك إن العرب جربوا قيادة مصر لهم لثلاثين عاما, وإنه آن الأوان ليجربوا قيادة إسرائيل!.

كانت خطة بيريز الأصلية أن تعقد سلسلة من تلك المؤتمرات في العالم العربي, ولكنها توقفت عند عمان والدار البيضاء نتيجة لرفض كامل الشعوب العربية للتطبيع

ولم يأت ذكر في خطاب بيريز "للريادة" اللبنانية حينها, ولكن أتت بعدها بقليل مجزرة "قانا" التي أمر بها "مهندس السلام" بيريز ضد نساء وأطفال وشيوخ لبنانيين كانوا في ملجأ تابع للأمم المتحدة.

ويزيد الملك عبد الله على تبني "المبادرة العربية" التي أطلقتها السعودية عام 2002 بقوله إن المبادرة تعود لوالده الملك حسين، وهو من صاغها في السنوات الأخيرة من عهده "لتحقيق السلام الشامل بين إسرائيل والدول العربية الاثنتين والعشرين, ولكن مشروعه هذا لم يجد طريقه نحو التحقيق وما لبث أن انتهى مع وفاته.

ويضيف "عندما توليت مسؤولياتي ملكا أعدت طرح اقتراح والدي وكلفت الحكومة بحثه مع مصر والمملكة العربية السعودية"، بعد ذلك "طورت السعودية الاقتراح ومضت به إلى الأمام".

ومن المهم إيراد استغراب الملك عبد الله لرفض أميركا وإسرائيل للمبادرة, وبعضهم "دون أن يقرأها" (شخصيا لا أصدق زعم أي مسؤول أميركي أو إسرائيلي أنه لم يقرأها).

ويبدو مهما جدا قوله إنه لفت نظرهم لها باختياره ما يتعلق باللاجئين منها، وهو "التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يُتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194" ويكمل الملك عبد الله في مقدمة كتابه ذاك بقوله إن "التعبير الأساس" في هذه الجملة هو "يُتفق عليه"، أي أنه ليس "القرار 194".

ويكمل "وعندما ذكرت هذا الأمر للإسرائيليين أبدوا تعجبهم"!! ويضيف أن هذا العرض الذي يتبناه لدرجة التأكيد على نسبته لنفسه ولوالده "لم يسبق أن طرح مثله من قبل ووافقت عليه لاحقا الدول السبع والخمسون الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي, ولكن المؤسف أن إسرائيل لم تأخذ المبادرة قط على محمل الجد، كما لم تعترف بما حملته من فرصة غير مسبوقة".

ويكمل "إننا لا نزال عالقين في حبكة السبل القديمة، ونتفاوض حول المسائل الثانوية بينما نرجئ اتخاذ القرارات الصعبة"، مما يؤشر على أن بعض "القرارات الصعبة" التي يطلبها جون كيري الآن قد يتخذها الملك.

بالنسبة لكيري, كان حلمه منذ سنوات هو إنجاز صفقة سلام في الشرق الأوسط بالوصول لتسوية نهائية للقضية الفلسطينية، وبعد خسارته للانتخابات الرئاسية عام 2004 أصبح نجاحه في مشروعه هذا يشكل قمة طموحه لدخول التاريخ.

ولكنه متمرس في معارضته اشتراط الفلسطينيين تجميد المستوطنات للعودة للمفاوضات ويعده إضاعة للوقت، حسب وثيقة يعود تاريخها لفبراير/شباط 2010 سربتها ويكيليكس، وأكده في خطابه في منتدى العالم الإسلامي ربيع عام 2012.

كان حلم كيري منذ سنوات هو إنجاز صفقة سلام في الشرق الأوسط بالوصول لتسوية نهائية للقضية الفلسطينية، وبعد خسارته للانتخابات الرئاسية عام 2004 أصبح نجاحه في مشروعه هذا يشكل قمة طموحه لدخول التاريخ

وقد نجح كيري في تغيير موقف أوباما بهذا الشأن والذي كان أعلنه في خطابه الشهير في القاهرة, ليعود الرئيس (الفاقد للحماس تجاه تسوية قضية كشفت ضعفه) للتصريح بنقيضه في زيارته لإسرائيل بداية العام 2013, قائلا إنه لن يقوم "بفرض شروط مسبقة" للتفاوض على أي من الجانبين!

ومن بعد ذلك ترك أوباما الأمر كليا لوزير خارجيته كيري شبه المتفرغ للمشروع, بل أعطاه أيضا سلطة تسمية مبعوث أميركا الخاص للمنطقة، حيث عين سفير أميركا الأسبق مارتن إنديك اليهودي القيادي في الآيباك مبعوثا أميركيا خاصا للسلام في الشرق الأوسط، وهو مؤشر ذو دلالة على ما يحمله مشروع كيري.

كان تعيين كيري وزيرا للخارجية ليطلق مشروعه بداية العام 2013، ولكن تطورات الأشهر القليلة التي تلت ذلك وضعت أميركا ودول الناتو أمام واقع إقليمي-دولي مستجد يفوق قدرة كيري, الذي يقول محللون أميركيون مختصون بمناطق الأزمات إن حضوره في قضايا دولية كقضية الصين وسوريا كان متضعضعا.

وسوريا مكون رئيس في أية تسوية قابله للديمومة لقضية أصبحت تسمى" قضية الشرق الأوسط". يضاف لهذا أن ما ظهر من الوضع الإقليمي-الدولي الجديد هو تحديدا ما جرى في الشأن السوري, إذ عادت حالة "الحرب الباردة" بين المعسكرين الشرقي والغربي مرفقة بتلويحات حربية ساخنة لا تقل عما جرى في قضية خليج الخنازير وما استتبعته من رد فعل سوفياتي بزرع صواريخ نووية في كوبا.

والآن روسيا الفدرالية (وريثة الاتحاد السوفياتي التي أعادت إحياء المعسكر الشرقي وتقوده) حركت بوارجها الحربية في المتوسط لمنع التدخل الأميركي أو تدخل الناتو في سوريا, مما يذكر بمصادمة أخرى مشابهة -وأكثر صلة بموضوعنا- تتمثل في تحريك الاتحاد السوفياتي بوارجه للمتوسط عند العدوان الثلاثي على مصر عام 1956, مما حسم خيار أميركا المتحفظة على تلك الحرب لجهة الضغط باتجاه إنهاء العدوان.

يضاف على عقدة سوريا ما جرى في مصر, حيث كانت أميركا ركنت لحكم الإخوان المسلمين لدرجة أنها أنهت دور رجلها عمر سليمان.

ومع أنه من المبكر حسم مآل السياسة المصرية ما بعد الإخوان, فإن هنالك مؤشرات لا يمكن القفز عنها تؤشر إلى حالة تقرّب ما جرى في الثلاثين من يونيو/تموز 2013 -بغض النظر عن تسميته ثورة أو انقلابا- بما جرى عام 1952، ولم تحسم تسميته حينها أيضا في البداية بين حركة أو انقلاب أو ثورة.

في مقدمة ما يفرض هذا الاستنتاج على الصعيد المصري الرسمي الخطاب الموجز لرئيس الجمهورية المؤقت المستشار عدلي منصور في ذكرى ثورة يوليو 1952, والذي قال فيه إن تلك الثورة "لم تكن استثناء عظيما في تاريخنا بل امتدادا لتاريخ شعبنا ضد الاستبداد والقهر والظلم". ووجه التحية لزعماء من أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول باعتبار ثوراتهم (وجميعهم ثاروا على النفوذ الغربي) "مصادر ضوء لا ينطفئ ومعالم طريق لم ينقطع".

وتلى ذلك الإشادة بجمال عبد الناصر ورفاقه لكونهم "أخذوا الثورة المصرية إلى العالم والتاريخ وسعوا للتوازن الدولي بتأسيس تحالف عدم الانحياز", وتوجيه تحية خاصة "لزعيم" الثورة عبد الناصر ووصفه بأنه من "الرجال العظام الذين فتحوا باب الحرية والأمل". وكل هذا يؤشر على اقتداء بنهج عبد الناصر تحديدا في شأن السياسة الخارجية.

وفي مظاهرات تأييد السيسي في الإسكندرية جرى أمر هام على محدوديته, تمثل برفع صورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جانب صورة السيسي

والأمر الثاني بروز عبد الفتاح السيسي الذي يذكر بعبد الناصر للوهلة الأولى قبل اتضاح تفاصيل الشخصية والسياسات.

والشبه يلزم السيسي والجيش بعمومه إن أراد الحفاظ على التوكيل الذي منحته له جماهير الشعب. وهذه توصلنا للأمر الثالث والأهم وهو أن الشعب رفع صور عبد الناصر منذ يناير/كانون الثاني 2011 وحتى يوليو/تموز 2013 مع شعارات في شأن السياسة الخارجية معادية لأميركا وإسرائيل.

وفي مظاهرات تأييد السيسي في الإسكندرية جرى أمر هام على محدوديته, تمثل برفع صورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جانب صورة السيسي.

فبوتين أبعد ما يكون عن المثال الديمقراطي المطلوب للثورة المصرية منذ انطلاقتها, مما يجعل صورته تلك رسالة قوية في الشأن الخارجي موجهة لأميركا تحديدا.

في ضوء هذا كله لا تعود مهمة كيري محصورة في مشروع الرجل وطموحه والذي أعطاه الفرصة فيه رئيس كان قد نفض يديه من محاولة حل مشكلة "الشرق الأوسط".

فالمهمة الآن أصبحت وثيقة الصلة بوضع أميركا في المنطقة، وهو ما قد يدفعها للاتكاء بصورة مبالغ فيها على من بقي من حلفائها.

وهذا يعيدنا "لغرفة الإصغاء" لمفاوضات يأتي إليها طرفان غير راغبين, أو طرف فلسطيني تحول لنظام عربي همه تحاشي رياح التغيير, وإسرائيلي "يسوق التمنّع" تحديدا لإلزام أميركا بالتخلي عن تحفظها الذي وصلت إليه بثمن باهظ دفعته مكررا في المنطقة.

وسنأتي لهذا ولغيره من الخيارات المتاحة في ظل هذا المشهد المستجد باطراد, في مقالة قادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.