زيارة كلينتون والخيارات الفلسطينية الضيقة

زيارة كلينتون والخيارات الفلسطينية الضيقة - الكاتب: نادية سعد الدين

undefined 

ضيقت زيارة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون إلى المنطقة مؤخرا، بما فيها الأراضي المحتلة، من مساحة التحرك الفلسطيني السياسي والأممي، إزاء انغلاق الأفق السياسي وتعثر خطوات المصالحة وإخفاق "الجولة" الأولى من المعركة الدبلوماسية الخاصة بطلب "العضوية".

الزيارة، التي استهدفت أساسا بحث المشروع النووي الإيراني والأحداث الدائرة في سوريا والأوضاع في مصر غداة الانتخابات الرئاسية، جاءت في سياق "المزاد الانتخابي" الأميركي لكسب ود اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة قبيل نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، واستباقا مضادا لزيارة يستعد المرشح الرئاسي الجمهوري مت رومني للقيام بها قريبا إلى الكيان الإسرائيلي.

وباستثناء اللقاء الذي أجرته كلينتون في القدس المحتلة مع رئيس الحكومة الفلسطينية في رام الله سلام فياض لممارسة مزيد من الضغط الأميركي على الجانب الفلسطيني للعودة إلى طاولة التفاوض دون شروط مسبقة، وتجديد التهديد باستخدام "الفيتو" وقطع المساعدات المالية عند التوجه إلى مجلس الأمن أو الجمعية العامة بطلب عضوية الدولة في الأمم المتحدة، فإن الزيارة خلت من أي ذكر لوقف الاستيطان والالتزام الإسرائيلي بمرجعية حدود 1967، باعتباره مطلبا فلسطينيا لاستئناف العملية السلمية، المؤجلة لما بعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية.

تجد السلطة الفلسطينية نفسها أمام مأزقي الارتهان للإرادة الأميركية المنحازة للكيان الإسرائيلي من جانب، والاحتكام إلى محددات اتفاق أوسلو المجحفة، من جانب آخر، مما أحدث أوضاعا متدهورة في الأراضي المحتلة ومسارا تفاوضيا متعثرا حينا وجامدا أحيانا، وخيارات ضيقة.

للانتقال إلى دولة غير عضو "مراقبة"، مناقب قانونية وسياسية للجانب الفلسطيني، تتمثل في الانضمام إلى المنظمات الأممية والدخول في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ومحاصرة سياسات الاحتلال

أولا: الخيارات الأممية المطروحة
تعتزم القيادة الفلسطينية التحرك مجددا صوب الأمم المتحدة بطلب نيل الاعتراف "بدولة غير عضو" في الجمعية العامة، أي صفة "مراقب"، مثل الفاتيكان حاليا وسويسرا حتى العام 2002، بديلا عن التصويت في مجلس الأمن للحصول على "العضوية الكاملة" للدولة الفلسطينية على حدود 1967 في المنظمة الأممية، بعد تأجيل العودة إليه لوقت آخر "مناسب".

وهنا لا بد من الحصول على تصويت 50%+1 من الأعضاء، وهي متوافرة للجانب الفلسطيني، ولكن النصر المعنوي الكبير يحتم، حسب عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، الحصول على الثلثين.

وللانتقال إلى دولة غير عضو "مراقبة" مناقب قانونية وسياسية للجانب الفلسطيني، تتمثل في "الانضمام إلى المنظمات الأممية والدخول في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ومحاصرة سياسات الاحتلال وإنهاء ادعاءاته في الأراضي الفلسطينية المحتلة والمساهمة في عزلته"، رغم أن التوجه إلى الجمعية العامة سيبدو تراجعا عن حق العضوية الكاملة، ولن يقيم الدولة ولن يضمن انضمامها إلى الأمم المتحدة، ولن يضيف الكثير من الامتيازات المتحصلة راهنا لمنظمة التحرير، كما سيكون مجرد قرار آخر غير ملزم، ما لم تضغط الإدارة الأميركية على دول تعترف بدولة فلسطين لعدم التصويت لصالح القرار عند طرحه.

وقد جاء التنقل الفلسطيني في المسعى الأممي، بعد تقرير لجنة قبول العضوية في الأمم المتحدة، الذي صدر في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عقب تقديم القيادة الفلسطينية إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في 23 سبتمبر/أيلول الماضي طلب العضوية الكاملة للدولة الفلسطينية على حدود 1967 في المنظمة الأممية، وذلك حينما حمل انقساما بين أعضاء مجلس الأمن بشأنه، بما حال دون الحصول على تأييد تسعة أعضاء في المجلس، باعتباره الحد الأدنى المطلوب لنفاذ الطلب خاليا من حق النقض "الفيتو"، وأعفى واشنطن من حرج استخدامه.

كما جاء في ظل التهديد الأميركي بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية المقدرة بنحو 475 مليون دولار سنويا، بينما لا توجد مؤشرات مقابلة لخيارات عربية تمويلية أخرى عند توقف الدول المانحة عن تقديم دعمها المالي للسلطة، بما يجعلها في مأزق حقيقي.

إن "إخفاق" الجولة الأولى من المعركة الدبلوماسية، والذي يؤشر لمسارات التحرك داخل الهيئة الدولية، حمل القيادة الفلسطينية على تأجيل طرح طلب "العضوية الكاملة" في الأمم المتحدة إلى وقت آخر، عند تغير الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، بما يترتب عليه من "معادلة جديدة في الأمم المتحدة، قد تصب في الصالح الفلسطيني، تزامنا مع انتهاء المعركة الانتخابية الأميركية النصفية، بما قد يخفف من وطأة الضغوط الإسرائيلية على واشنطن".

ولكن هذا الخيار ضئيل الاحتمال في ظل موازين القوى السائدة، والدعم الأميركي المفتوح للجانب الإسرائيلي، بما يقلب التوقعات الفلسطينية، ويضعها رهينة لاحتمالات ضعيفة التحقق.

إن نفاذ طلب العضوية الكاملة يتطلب تأييد تسعة أصوات خالية من الفيتو، تمهيدا لإحالته إلى الجمعية العامة للتوصية عليه بأغلبية الثلثين، أي 128 دولة من إجمالي 193 دولة عضوا في المنظمة الأممية، مما يجعله أمرا مستبعدا، الآن على الأقل، أمام نتيجة تقرير لجنة العضوية، التي قد تتكرر عند التصويت، بسبب ترجيح استخدام واشنطن "للفيتو"، أو دفع أحد أعضاء مجلس الأمن للتصويت ضد الطلب، حتى لا تجد نفسها مضطرة للجوء إليه.

ورغم القرار الفلسطيني باستبدال طلب "العضوية الكاملة"، مؤقتا، "بالعضوية المنقوصة"، فإنه لم يسلم، أيضا، من تهديد أميركي بعرقلة المسعى وقطع المساعدات، بدون بذل أي جهد للضغط على سلطات الاحتلال لوقف الأنشطة الاستيطانية التي بلغت مؤخرا زهاء 180 مستعمرة تضم نحو نصف مليون مستعمر، في ظل غياب عنصر اليقين عن الإجماع الشعبي الفلسطيني حول المسعى الأممي، وتعثر خطوات المصالحة الضرورية لحشد التأييد اللازم، وابتزاز المال السياسي الأميركي، بما يبقي الوضع في مأزق كبير.

ثانيا: الخيارات السياسية أمام القيادة الفلسطينية
بموازاة قرار القيادة الفلسطينية الاستمرار في المسعى الأممي، شكلت مؤخرا لجانا مصغرة من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح، لبحث خيارات المرحلة القادمة، ومناقشة مصير السلطة، في إطار التنسيق والتشاور العربي، تزامنا مع تأكيد تنفيذ اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس الذي جرى توقيعه في القاهرة مطلع مايو/أيار 2011.

جاء ذلك في ظل نتيجة تقرير لجنة العضوية في الأمم المتحدة، وتدهور الأوضاع في الأراضي المحتلة، وجمود التفاوض المصطنع إسرائيليا، بما يضع القيادة الفلسطينية أمام الخيارات السياسية الآتية:

الخيار الأول: بقاء الوضع الراهن، فيما يخص الشأن الداخلي الفلسطيني من حيث استمرار عمل السلطة الفلسطينية ومراوحة اتفاق المصالحة نفس المكان المتعثر، إلى حين العودة إلى المفاوضات، رغم الرفض الإسرائيلي لاستئنافها وفق مرجعية حدود 1967 ووقف الاستيطان، وفق المطلب الفلسطيني، ولكن من غير المستبعد الخروج من زخم الحراك الأميركي-الأوروبي الراهن بصيغة معينة ترضي كل الأطراف، شريطة عدم إغضاب الجانب الإسرائيلي.

فالقيادة الفلسطينية لم تبرح دائرة التفاوض، حتى وهي تتحدث عن الخيار الأممي، حيث أبدت استعدادها غير مرة للعودة إلى طاولة المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، شريطة وضع مرجعية للعملية التفاوضية. وثمة اعتقاد بأن الخيار الأممي ليس بديلا عن التفاوض، وإنما خطوة على طريق تحسين شروطه، وتعزيز الموقع التفاوضي، بعدما وصل مسار المفاوضات إلى طريق مسدود، بخلق بيئة تفاوضية جديدة، من خلال تحسين المركز القانوني على المستوى الدولي عبر العضوية في الأمم المتحدة.

يرى مراقبون أن طرح خيار حل السلطة يعد تعبيرا عن الانزعاج الفلسطيني أو محاولة للتهديد والضغط السياسي على الجانبين الأميركي والإسرائيلي لاستئناف المفاوضات

الخيار الثاني: حل السلطة، بما يعني تسليم الكيان الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن إدارة الأراضي الفلسطينية التي تحتلها، استنادا إلى قاعدة جماهيرية عريضة تطالب بتصعيد المقاومة وتحميل الاحتلال مسؤولياته وإعادة الوضع إلى المربع الأول قبل أوسلو، في ظل تلويح الرئيس محمود عباس أكثر من مرة بما سماه "تسليم مفاتيح السلطة"، معتبرا أن "الوضع الراهن لا يمكن أن يظل قائما، ولا بد من حدوث تغيير"، بينما يرى عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد أن "السلطة وهمية تحت الاحتلال، إذ تتحمل مسؤولية التعليم والصحة والأمن، بينما تسيطر سلطات الاحتلال على الأرض، وتقوم بنهبها والاستيطان فيها، وأمام انغلاق الأفق فإن انهيار السلطة أصبح أمرا واقعيا".

ولم يقدم عباس أي إشارة لما يمكن أن يفعله بالسلطة الفلسطينية، ولكنها تعد المرة الأولى التي يطرح فيها رسميا مصير السلطة بجدية على طاولة البحث. غير أن عباس بدد التكهنات لاحقا عندما صرح بأن "خيار حل السلطة غير مطروح إطلاقا مهما كانت نتائج المسعى الفلسطيني في الأمم المتحدة"، بما فهم منه تراجع عن الموقف السابق، فضلا عن أن هذا الخيار يقع فريسة تجاذب فلسطيني حاد بين الأخذ به إجراء ورفضه بديلا باعتبار السلطة معبرا للدولة الموعودة وجهازا خدماتيا حيويا.

ويفسر مراقبون طرح الخيار رسميا تعبيرا عن الانزعاج الفلسطيني أو محاولة للتهديد والضغط السياسي على الجانبين الأميركي والإسرائيلي لاستئناف المفاوضات وفق شرطي المرجعية ووقف الاستيطان. ويستند هؤلاء إلى أن الخط الرسمي السائد في القيادة الفلسطينية يرى عدم استنفاذ الخيارات الأخرى، بينما تكتنف الضبابية كامل المشهد تبعا لتصريحات متناقضة، وسط أصوات "فتحاوية" تنادي بتفويض الاحتلال بعض صلاحيات السلطة من دون حلها، مقابل تأكيد اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير بعدم وجود قرار بالحل، وإنما التحذير من إجراءات إسرائيلية تؤدي إلى إضعاف السلطة أو منعها من العمل بشكل سليم.

ويروج مناصرو "بقاء السلطة" لمقولات صعوبة "الحل"، حيث صدر قرار تأسيسها عن المنظمة بصفتها المرجعية الوحيدة، فضلا عن شبكة واسعة من المصالح والارتباطات المالية والسياسية والأمنية المعقدة التي تشكلت بين السلطة وكل الأطراف الدولية والإقليمية، ومع سلطات الاحتلال، فيما يتطلب حل السلطة إيجاد بدائل للمنح والمساعدات الدولية، وللخدمات التي تقدمها في الأراضي المحتلة والوظائف التي تشمل نحو 172 ألف موظف من مدنيين وعسكريين، عدا تبعات التشييع الرسمي للعملية السلمية، رغم جمودها الراهن، وإحالة المهام للمنظمة التي تعاني الإشكاليات والمطالبات بإعادة تفعيلها، وتغيير المعادلة التي استقر عليها الصراع العربي-الإسرائيلي، وخلق تداعيات سلبية لن يتمكن الجانب الفلسطيني من مواجهتها، في ظل الانقسام الوطني.

وتجد القوى والفصائل الفلسطينية، مثل حماس، أن "قرارا بهذا الخصوص يجب اتخاذه في إطار التشاور والتنسيق الوطني، من أجل دراسة سلبياته وإيجابياته والتوافق بشأنه".

انغلاق الأفق السياسي، وغياب الإرادة الفلسطينية لتحقيق المصالحة المؤجلة لوقت آخر,  لن يغير الحال كثيرا في الساحة الفلسطينية

الخيار الثالث: مراجعة وظائف السلطة، باعتباره مطلبا مضادا "للحل"، تجري مناقشته داخل اللجان المتشكلة ضمن سياق الواقع الخدماتي وغياب السيادة الوطنية، لبحث تغيير وظائفها بما يسمح بالانتقال إلى الدولة، ودراسة شكل العلاقة المستقبلية مع الاحتلال في ضوئها، ووقف العمل بالتزامات أوسلو ومراجعة واجبات السلطة تجاه الاحتلال، وتحويل المهام السياسية لمنظمة التحرير بعد تفعيلها، بما قد يؤدي إلى مواجهة مع الاحتلال قد تجر بتبعات انهيار السلطة.

الخيار الرابع: تنفيذ اتفاق المصالحة، بما يحقق الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، والتصدي للاحتلال بإستراتيجية موحدة وبرنامج سياسي وطني متفق عليه بالحوار، والمضي قدما في تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وتفعيل منظمة التحرير بضم حركتي حماس والجهاد الإسلامي في إطارها، وتحقيق المصالحة المجتمعية.

الخلاصة
إن تجليات انغلاق الأفق السياسي، وغياب الإرادة الفلسطينية لتحقيق المصالحة المؤجلة لوقت آخر، دون أن تفلح الأجواء المصاحبة لنتائج الانتخابات المصرية في تقريب هوة آخذة بالاتساع بين حركتي فتح وحماس، والانشغال بمسعى أممي متنقل بين العضوية "الكاملة" و"المنقوصة" لن يغير الحال كثيرا في الساحة الفلسطينية، حيث الاستيطان والتهويد مستمران وآليات الاحتلال تستبيح كل مكان وبقعة فلسطينية، تنذر بدخول الحركة الوطنية الفلسطينية في أزمة جديدة، بما يتطلب بلورة إستراتيجية وطنية موحدة.

فتجربة الأعوام الماضية أثبتت أن التفاوض المحكوم باختلال موازين القوى لصالح الاحتلال لن يوصل الفلسطينيين إلى تحقيق إنهاء الاحتلال وقيام الدولة، فالجانب الإسرائيلي ليس جاهزا أو مستعدا لحل شامل أو تسوية عادلة، ولن ينسحب من الأراضي المحتلة إلا إذا اضطر لذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.