تركيا من جمهورية أتاتورك إلى جمهورية أردوغان

خورشيد دلي - عنوان المقال: تركيا من جمهورية أتاتورك إلى جمهورية أردوغان



 
انقلاب المشهد
– فصل جديد أم قلب الطاولة؟
– جمهورية أردوغان

 

مع استقالة قادة القوات المسلحة التركية وعلى رأسهم رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال إيشيك كوشانير في حادثة هي الأولى من نوعها في تاريخ تركيا منذ تأسيس الجمهورية عام 1923, ثمة أسئلة كثيرة تطرح عن أبعاد هذه الخطوة والتداعيات المنتظرة.

 

ولعل في مقدمة هذه الأسئلة هي ماذا بقي من جمهورية أتاتورك سوى صوره ورمزية قبره، حيث قيل إنه ظل يحكم تركيا من هناك بعد وفاته؟ وهل ما جرى يؤسس للجمهورية الثانية أو ما بات يعرف بجمهورية أردوغان أم هو مجرد فصل جديد لا أكثر من فصول الصراع الخفي العلني بين الإسلام والعلمانية في تركيا منذ نحو قرن؟

 

أسئلة تشير من جملة ما تشير إليه أن تركيا بعد التاسع والعشرين من يوليو/تموز أي تاريخ استقالة هؤلاء الجنرالات دخلت مرحلة جديدة, البعض وصفها بنهاية جمهورية أتاتورك في وقت يقود فيه أردوغان معركة وضع دستور جديد للبلاد, ليعلن ميلاد جمهوريته.

 

"
الثابت أن الأسس السابقة للنظام الأتاتوركي فقدت مقوماتها لصالح سياسة تتصالح مع الذات والهوية والجغرافيا، وهذه قضية قديمة تعود بجذورها إلى لحظة وفاة أتاتورك وتوجه خلفه عصمت إينونو إلى حالة من التعددية السياسية
"

انقلاب المشهد
جرت العادة في تركيا أن يقوم الجيش بانقلاب عسكري ضد الحكومة المدنية كلما رأى أن المتغيرات والتحولات الجارية تهدد "الأسس العلمانية" التي قامت عليها الجمهورية التركية, وذلك انطلاقا من مواد دستورية (83-35) تعطي للجيش حق التحرك بالقوة لحماية الجمهورية العلمانية من أي خطر, وفقا لقاعدة تقول (إن الجيش يحمي الدستور والدستور يحمي الجيش).

 

وعلى هذا الأساس قام الجيش بسلسلة انقلابات (1960–1971–1980)، وأخيرا الانقلاب الأبيض ضد حكومة نجم الدين أربكان عام 1997، في حين أن الذي جرى مؤخرا يوحي بالعكس, إذ بدا وكأن أردوغان هو من قام بانقلاب على الجيش عندما رفض لوائح الترقيات التي قدمتها المؤسسة العسكرية، من بينها أسماء لضباط كبار معتقلين في السجن بتهمة التأمر على الحكومة.

 

وهذا ما دفع بقادة المؤسسة العسكرية إلى استقالة جماعية تحت عنوان التقاعد, وسواء أكانت استقالة أو تقاعدا فإن أردوغان سرعان ما تولى الأمر عندما ترأس وحيدا الاجتماعات السنوية للمجلس العسكري الأعلى (جرت العادة أن يعاونه في رئاسة هذه الاجتماعات رئيس هيئة الأركان العامة).

 

في معرض تحليل ما جرى, يمكن التوقف عند ما يلي:
1- إن هذه الاستقالات جاءت في سياق طبيعي بعد سلسلة إصلاحات قام بها حزب العدالة والتنمية منذ تسلمه الحكم عام 2002، أدت إلى تقليص صلاحيات الجيش وإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي، إذ لم يعد ممكنا في ظل العلاقة المتوترة مع أردوغان وتطلع الأخير إلى دستور جديد الاستمرار في العلاقة القديمة بين الجيش والحكومة المدنية، خاصة بعد أن سمحت التعديلات القضائية لحكومة أردوغان بوضع الجيش في قفص الاتهام لا تركه فوق القانون وخارج المحاسبة.

 

2- البعض وضع خطوة الجيش في سياق الاستسلام والعجز أمام إستراتيجية أردوغان, ويرى هؤلاء أن جملة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خدمت هذه الإستراتيجية.

 

يضاف إلى ذلك أن ثمة من يرى أن واشنطن التي كانت على علاقة متينة بالمؤسسة العسكرية التركية طيلة العقود الماضية باتت ترجح علاقتها المميزة مع حكومة حزب العدالة والتنمية على علاقتها التقليدية بالجيش, نظرا لما تقدمه هذه الحكومة من تجربة ناجحة في التوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد, تتجاوز في وظيفتها السياسية حدود تركيا إلى عموم المنطقة العربية والإسلامية, كنموذج مطروح للاستفادة منه في ممارسة الحكم والتداول السلمي للسلطة.

 

3- إن ما جرى هو من نوع أزمة النظام, أي صدام بين السائد سياسيا وبنيان النظام وأسسه, على شكل صراع على الهوية والسياسة والاقتصاد والمجتمع والحكم والإدارة.

 

فالثابت أن الأسس السابقة للنظام الأتاتوركي فقدت مقوماتها لصالح سياسة تتصالح مع الذات والهوية والجغرافيا، وهذه قضية قديمة تعود بجذورها إلى لحظة وفاة أتاتورك وتوجه خلفه عصمت إينونو إلى حالة من التعددية السياسية في مطلع أربعينيات القرن الماضي.

 

وقد مر هذا الصراع بلحظات حاسمة, من عدنان مندريس الذي أعدم عقب الانقلاب العسكري عام 1960 إلى تورغوت أوزال الذي توفي في ظروف غامضة عام 1993 (قيل إنه قتل بعد حديث عن موافقته على إقامة كونفدرالية كردية، حين جرت مباحثات سرية بينه وبين عبد الله أوغلان زعيم حزب العمال الكردستاني قادها الزعيم الكردي جلال الطالباني)، وصولا إلى أردوغان في هذه اللحظة المفعمة بالتحول.

 

"
حزب العدالة والتنمية نجح، منذ وصوله إلى الحكم عام 2002، في تحويل خطواته التكتيكية إلى سلسلة انتصارات متتالية صبت في إستراتجيته التي أدت في النهاية إلى إفقاد الجيش عناصر قوته دون أن يصطدم به
"

فصل جديد أم قلب الطاولة؟
انطلاقا من قواعد الصراع السابق وعدم القناعة باستسلام الجيش أو انسحابه من الحياة السياسية، خاصة أنه يعد نفسه الحامي التاريخي لأسس الجمهورية.. ثمة من يتساءل, هل يتفادى أردوغان ما حصل مع مندريس وأوزال؟

 

من الواضح أن السبب الحقيقي لمثل هذا السؤال أو الهاجس هو أن المؤسسة العسكرية التركية التي تعد من أهم وأقدم المؤسسات الوطنية التركية تمتلك، على الأقل حسب هؤلاء، العديد من الأوراق, فكل الانقلابات السابقة جاءت في لحظة مشابهة من حيث التوقيت لما يجري الآن من تصالح بين السياسة والدين والهوية والمجتمع ومكوناته.

 

في الواقع، مع التأكيد على عدم الاستهانة بقدرات المؤسسة العسكرية التركية ينبغي النظر إلى أن أردوغان نجح في قلب طاولة الصراع عليه, وذلك من خلال جملة من المتغيرات والمعطيات التي تتلخص في مسألتين أساسيتين.

 

الأولى: أن الظروف تغيرت كثيرا ولم تعد مواتية للقيام بانقلاب عسكري جديد, ففي الداخل لم يعد هناك الدعم الشعبي الكبير للنظام الأتاتوركي، حتى إن حزبه "حزب الشعب الجمهوري" يتعرض لتراجع مستمر, وفي الخارج لم يعد الولاء للغرب، وتحديدا لأميركا ينفع الجيش مقابل السياسة الحيوية لحكومة حزب العدالة والتنمية.

 

كما أن المنشود من الإصلاحات الأوروبية المطلوبة هو انسحاب الجيش من الحياة السياسية وإلحاقه بحكومة مدنية, والأهم أن صورة الجيش التركي في الداخل باتت مرتبطة بالفضائح والتورط في قضايا الجريمة والفساد والدولة الخفية.

 

الثانية، أن حزب العدالة والتنمية نجح، منذ وصوله إلى الحكم عام 2002، في تحويل خطواته التكتيكية إلى سلسلة انتصارات متتالية صبت في إستراتجيته التي أدت في النهاية إلى إفقاد الجيش عناصر قوته دون أن يصطدم به.

 

وبفضل هذه السياسة نجح في الوصول إلى الرئاسات الثلاثة (الجمهورية والحكومة والبرلمان) وباتت تركيا دولة قوية ومؤثرة في الخارج وكذلك في نظر مواطنيها.

 

وبسياسته هذه أنقذت البلاد من أزمة اقتصادية وأضحت الأولى عالميا على مستوى نسبة النمو (أكثر من 11% في الربع الأول من هذا العام).

 

في الواقع, انطلاقا من نجاح سياسة حزب العدالة والتنمية في مختلف الجبهات والمجالات, وتحت وطأة الإصلاحات والتعديلات الدستورية التي سحبت مؤسسات الدولة (القضاء والتعليم والإدارة والإعلام..) من هيمنة الجيش توارى الأخير في ثكناته ليقوم من هناك بأداء دوره المرسوم.

 

"
الحديث يجري بقوة عن مشروع جذري تعده الحكومة لإعادة هيكلة الجيش في إطار رؤية جديدة لدوره ولجعله متناسبا مع شروط الانتساب إلى عضوية الاتحاد الأوروبي
"

جمهورية أردوغان
على وقع أزمة استقالة الجنرالات, قاد أردوغان بصمت الاجتماعات السنوية للمجلس العسكري الأعلى ليخرج في نهايتها بتعين قادة جدد خلفا للجنرالات الأربعة الذين استقالوا, وليتجنب بذلك أزمة كانت الأخطر في صراعه مع العسكر منذ وصوله إلى السلطة.

 

النتيجة الأبرز المستخلصة من هذه الاجتماعات جاءت بمثابة انتصار سياسي للسلطة المدنية على شكل تأسيس علاقة جديدة مع الجيش تقوم على اعتراف العسكر بسيادة الحكم المدني عليه مقابل احترام الحكومة للنظام الداخلي للجيش, بمعنى آخر أصبحت الكلمة الأولى في الحياة العامة للحكومة المدنية.

 

في الواقع, إذا كان لافتا انتهاء اجتماعات المجلس العسكري الأعلى دون فصل أي ضابط من الجيش لأسباب سياسية تتعلق بالانتماء الديني (الإسلامي) كما جرت العادة سنويا, فإن الحديث يجري بقوة عن مشروع جذري تعده الحكومة لإعادة هيكلة الجيش في إطار رؤية جديدة لدوره ولجعله متناسبا مع شروط الانتساب إلى عضوية الاتحاد الأوروبي.

 

ومثل هذا التوجه يصب أساسا في المشروع الأساسي لأردوغان، أي إعداد دستور جديد للبلاد يزيل آثار وتداعيات الدستور الذي فرضه الجيش عام 1983 عقب انقلابه العسكري, وهو الدستور الذي قال عنه أردوغان "لا أفهم لغته, أحتاج لمترجم لأتمكن من فهمه"، في مقابل الحديث عن ضرورة أن يكون الدستور المقبل ملكا للجميع.

 

من الواضح أن إستراتيجية أردوغان في المرحلة المقبلة تتركز على كيفية إقرار دستور جديد يليق بتركيا في عهده والتأسيس لنظام رئاسي قوي على الطريقة الأمريكية، إذ يتطلع أردوغان إلى قيادة البلاد من قصر تشانغاي الرئاسي.

 

ولتبدأ من هناك ولادة جمهوريته التي تعبر عن هوية تركيا الأصلية ومكوناتها, الهوية المنفتحة على الجميع في الداخل كما في الخارج وفي كل الاتجاهات. إنها بعض ملامح الجمهورية التركية الثانية أو جمهورية أردوغان التي تتشكل تزامنا مع الثورات العربية المندلعة والباحثة أيضا عن الجمهورية الثانية.

 

وفي الحالتين لا عودة إلى الوراء ولا توقف لعقارب الساعة رغم الصعوبات والتحديات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.