المحركات الحقيقية للثورات العربية والمحصلات النهائية

العنوان: المحركات الحقيقية للثورات العربية والمحصلات النهائية



الاستقلال السياسي الهش
دروس الثورات ونتائجها الأولية
ماذا بعد الثورات؟

على الرغم من أن التوقيتات المتقاربة لاندلاع الثورات العربية تثير أكثر من تساؤل وعلامة استفهام لاستحالة الاتفاق أو التنسيق المسبق بين شعوب المنطقة في آن واحد، إلا أن ما حصل ويحصل بالتأكيد نوع من الهزات العنيفة والعميقة التي ضربت الأنظمة السياسية بشدة وجعلتها تترنح أمام إرادة وطاقة جبارة غير مسبوقة للشعب العربي، مما جعل هذه الأنظمة تفقد قدرتها على التحكم والسيطرة.

وهذه الظاهرة التي أسفرت عن جملة حقائق ونتائج ولا تزال بعد لم تتجل كامل ملامحها النهائية بحاجة إلى الوقوف عند منعطفاتها الحادة ودراسة دوافعها وخلفياتها وحساب حدود تطورها ونتائجها المحتملة وتأثير مجمل ذلك على مستقبل المنطقة العربية.

لقد أصبح من الواضح أن مدى ومستوى وسقف تطور كل حالة وبغض النظر عن قدحة الزناد والأسباب المباشرة لها، إنما يستمد خصوصيته من حاصل امتزاج نسبة العامل الخارجي وتوجهاته مع نسبة تراكم الاستحقاق الداخلي الذي يكاد منسوبه يكون متشابها في كافة المجتمعات العربية بما فيها تلك الأقطار التي لم تندلع فيها اضطرابات أو انتفاضات أو ثورات لغاية الآن.

الاستقلال السياسي الهش

"
الثورات التحررية الوطنية لا تنتهي بإحراز الاستقلال السياسي، فهو يبقى وهميا وقلقا إذا لم يسفر عن تبدلات عميقة وجذرية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية
"

لم يتوقع رواد الموجة الأولى من ثورات استقلال الأقطار العربية في عقود منتصف القرن الماضي أن يبقى هذا الاستقلال شكليا وحبيسا في حدود الاستقلال السياسي، فالثورات التحررية الوطنية لا تنتهي بإحراز الاستقلال السياسي، فهو يبقى وهميا وقلقا إذا لم يسفر عن تبدلات عميقة وجذرية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

لقد أدى الإخفاق المستمر وتراكم الفشل تحت ذريعة الشعارات الأيديولوجية والشرعية الثورية إلى انزلاق معظم هذه الأنظمة إلى الدكتاتورية والفردية ووصلت من حيث كبت الحريات والفساد إلى مستويات أسوأ بكثير من مراحل ما قبل الثورة والاستقلال، وتحول معظمها بمرور الزمن إلى أجهزة بوليسية والنتيجة تحول مفهوم الأمن الوطني ليتمحور حول أمن الرئيس وأمن النظام بدلا عن أمن المجتمع غذائيا وسياسيا وثقافيا والذي يشكل بتكامل عناصره حصانة الجبهة الداخلية ومناعتها ضد الاختراقات الخارجية.

في أي مجتمع يمثل البناء السياسي انعكاسا للبنيتين الاقتصادية والاجتماعية، وفي ظل فشل شبه تام وعجز عن معالجة مشاكل المجتمع العربي السياسية المتعلقة بإطلاق الحريات بمختلف أشكالها وفي مقدمتها الحريات السياسية المتعلقة بآليات الحكم وتداول السلطة سلميا وكذلك حريات التعبير عن الرأي التي تضمن تنفيس المجتمع عن مشاعره ومعاناته وأحاسيسه وما يتعرض له من مظالم، كل ذلك أدى إلى تناقض حاد ما بين شعارات الأنظمة وإعلامها وبين حقائق الوعي السياسي الشعبي القائم على المعاناة اليومية.

من جانب آخر ولد الفشل الاقتصادي المتمثل في انعدام فرص العمل لجيوش من الشباب العاطلين تفاوتا حادا في المستوى المعيشي وازدياد شريحة الفقراء والبؤس وامتداد أحياء كاملة من الصفيح باتت لازمة للمدن العربية.

في ظل هذه الأزمات شاهدنا كيف وجدت السلطة والحكومات العربية نفسها وجها لوجه أمام الشعب وكيف تحولت الدبابات والآليات إلى مجرد خردة أمام إرادة الشعب الغاضب وهذه إشارة واضحة على حجم الانغلاق والعزلة التي تعاني منها النخب الحاكمة ووجود فجوة كبيرة بينهما وعدم تبلور أية حلقات وسطية أو صمامات تنفيس للضغوط والمتمثلة بمنظمات المجتمع المدني وتراجع واضمحلال دور الأحزاب التقليدية سواء كانت أحزاب السلطة أو المعارضة وانفصامها عن الشارع.

هذه الصمامات التي تتيح في الغرب على سبيل المثال تخفيف حدة الاصطدام وتؤدي وظيفة امتصاصها عند تعرض المجتمعات لهزات وأزمات طارئة.

"
تراكم أكثر من نصف قرن من الإخفاق والفشل والقمع، شكل مقدمات ومدخلات حاسمة كان لابد لها أن تنفجر في أي لحظة
"

إن هذا الفشل الأفقي في بناء مقومات الهوية الوطنية مقابل الهويات الثقافية الفرعية وكذلك تدهور مستوى معيشة الفرد العربي من خلال تراجع وإخفاق كافة خطط التنمية المستدامة وتغول السلطات أمنيا وبوليسيا على حساب حريات المواطن الأساسية، وتراكم الغضب والشعور لدى ملايين الشباب بانعدام الأمل بالمستقبل والإحباط واليأس الناجم عن حجم البطالة مقابل طوفان من الفساد الإداري والمالي الذي ينخر المجتمعات كل هذه الأسباب الكامنة والتي استغرق تراكمها أكثر من نصف قرن من الإخفاقات والفشل والقمع على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، شكلت مقدمات ومدخلات حاسمة كان لا بد لها أن تنفجر في أي لحظة سواء كان منشأ توقيت وتصنيع جهاز التفجير محليا أو خارجيا، وتسفر عن المخرجات التي نحن اليوم بصدد اللحاق بها.

دروس الثورات ونتائجها الأولية
على الرغم من أن ظاهرة الثورات التي تعم المنطقة العربية كالزلزال الذي يضرب مناطق بقوة ولكن ذلك لا يعني أن بقية المناطق لم تتأثر، لا تزال قيد التبلور ولم تسفر بشكل واضح عن كافة نتائجها وأبعادها وحدود وعمق تأثيراتها إلا إنه يمكن لغاية الآن استقراء واستنباط بعض الدروس التي باتت شبه ثابتة ومستقرة على الأقل في الدول التي تتعرض لهذه الثورات:

الدرس الأول: إعادة الاعتبار للشعب واستعادته الثقة بالنفس والشعور بأنه شعب حي قادر على رسم مستقبله ومصيره وقدره بنفسه.

الدرس الثاني: انتهاء أسطورة البقاء في الحكم مدى الحياة في الأنظمة العربية وكذلك مغادرة الأنظمة لفكرة الاستخفاف بإرادة الشعب وبقدرته على الثورة والتغيير.

"
وضعت ثورات الشباب العربي أثقالا وتحديات أمام الفكر السياسي العربي في قدرته على مواكبة واستيعاب هذه المتغيرات السريعة
"

الدرس الثالث: انحسار دور الأحزاب التقليدية وسقوط معظم الهياكل السياسية لجيل وموجة الاستقلال الأولى (أنظمة، انتخابات شكلية، برلمانات وهمية، أحزاب أيديولوجية) وبروز الشباب كشريحة جديدة محركة للمجتمع ومعبرة عن حقيقة إرادته وصانعة لقراراته.

الدرس الرابع: وضعت ثورات الشباب العربي أثقالا وتحديات أمام الفكر السياسي العربي في قدرته على مواكبة واستيعاب هذه المتغيرات السريعة وإمكانية تأطيرها بمعادلات تفي بتوظيفها بالاتجاه الصحيح ومن الواضح إن طريقة التفكير المتأخرة التي يفكر بها الكثير من المثقفين العرب أصبحت بفعل هذه الثورات كأنها من التراث أكثر منها فكر حي يستجيب لمتطلبات غليان الشباب.

ماذا بعد الثورات؟
إن السؤال المركزي الذي يحتاج إلى إجابة مبكرة من لدن المفكرين العرب هو أين سيستقر مصب هذه الثورات؟ وما هي حدود تأثيرها؟ هل هي ثورات مستوفية لشروط ومعايير مفهوم الثورات الحقيقية، أم هي موجات ثورية جديدة لتأكيد استقلال الموجة الأولى التي حصلت القرن الماضي وستقف حدودها عند تغيير سطحي يطال الأنظمة السياسية واستبدالها بأنظمة أخرى؟

وإذا كان شعار هذه الثورات يتراوح ما بين (الشعب يريد إصلاح النظام أو تغيير النظام) فهل سيتكرر الفشل التاريخي على المستويين الاجتماعي والاقتصادي؟ لحد الآن تفيد جميع المؤشرات بأن هذه الثورات انطلقت بعفوية وتلقائية دون تخطيط مسبق وتفتقر إلى قيادات متمرسة أو رؤيا سياسية واضحة للمستقبل، مما يستلزم إيجاد مشروع عربي متكامل لاستيعاب هذا المخاض العسير وضمان ولادته بشكل سليم وصحي بعيدا عن الاستهدافات الخارجية التي قد تسرق أحلام الجيل العربي الجديد الثائر.

ففي هذه اللحظة التاريخية والانتقالية الحرجة التي يمر بها الشعب العربي علينا أن نميز بدقة بين الانفعالات الجماهيرية المكبوتة والتي تعبر عن نفسها بطريقة (الشعب يريد تغيير النظام) وبين إمكانية توظيف زخم هذه اللحظات التاريخية لتحقيق قفزة نوعية حقيقية لتغيير قدر ومصير هذه الأمة وتهيئة الظروف اللازمة والأفكار المناسبة للتأسيس إلى مرحلة جديدة من الاستقلال السياسي القائم على الاستقلال الاجتماعي والاقتصادي، وصياغة معادلة تضمن ربط تغيير النظام بإحداث تغييرات أفقية على مستوى المجتمع والحريات.

"
الثورات بحاجة إلى جهد فكري وسياسي لصياغة معادلة تغيير الأنظمة والمجتمع على أن تكون معادلة حقيقية ونقية وتنتمي إلى جوهر هذه الأمة
"

إن إغفال مثل هذه المعادلة ومثل هذا الربط قد يعيد المنطقة إلى مربع الاستقلال الناقص الأول، وإذا كان نموذج الاستقلال والثورات الأول قد أسفر عبر نصف قرن نتيجة الفشل الاقتصادي والاجتماعي عن انغلاق وانعزال ودكتاتورية الأنظمة، فإن تكرار الثورة على مستوى الأنظمة السياسية فقط قد يؤدي إلى غربة هذه الأنظمة وإلى انقسامات مجتمعية حادة على أساس طائفي وعرقي.

إن هذه الثورات بحاجة إلى جهد فكري وسياسي وهو من اختصاص النخب الشابة لصياغة مثل هذه المعادلة على أن تكون معادلة حقيقية ونقية وتنتمي إلى جوهر هذه الأمة بعيدا عن الاستنساخ والتلاعب الخارجي وترف الصالونات الفكرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.