الاتحاد الأوروبي بعد الرفض الإيرلندي لمعاهدة لشبونة

الاتحاد الأوروبي بعد الرفض الأيرلندي لمعاهدة لشبونة؟



ماجد نعمة

– حجج المدافعين عن معاهدة لشبونة
– حجج معارضي المعاهدة
– الخروج من المأزق

بعد الرفض الشعبي الفرنسي والهولندي في مايو/ أيار ويونيو/ حزيران 2005 لمشروع المعاهدة الدستورية الأوروبية، ظن الكثيرون أن هذا الرفض الشعبي الصريح سيؤذن بنهاية الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل الإجهاز لفترة زمنية طويلة على هذا الحلم الذي طالما راود مخيلة بعض السياسيين الكبار، وكان آخرهم الجنرال ديغول الذي كان يتبنى شعار "أوروبا من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال".

"
لجوء الحكام الأوروبيين إلى محاولة خداع الرأي العام بتقديم معاهدة معدلة لا تجيب على التساؤلات الشرعية والمخاوف الحقيقية التي عبر عنها الرافضون، إنما يدل على أزمة ثقة خطيرة بين النخب الحاكمة والقاعدة الاجتماعية الواسعة
"

وما روج لمثل هذا الاعتقاد أن هذا الرفض جاء من دولتين موقعتين على معاهدة روما لعام 1957 المؤسسة للسوق الأوروبية المشتركة آنذاك، وكانت تضم إلى جانبهما كلا من ألمانيا الغربية وبلجيكا وإيطاليا ولوكسمبورغ.

ويقول بعض المراقبين إن شعوب هذه الدول الأربع الباقية لو قدر لها هي الأخرى أن تستفتى في شأن هذه المعاهدة الدستورية لعام 2005 لكان جوابها هي الأخرى الرفض.

ورغم التهويل والتخويف من نتائج التصويت بالنفي على مستقبل الاتحاد الأوروبي، فإن الناخبين في فرنسا وهولندا لم يترددوا في رفض هذه المعاهدة بأغلبية مريحة.

وبطبيعة الحال فإن المسيرة الأوروبية لم تتوقف نتيجة هذا التصويت بدليل أن الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد استطاعت بعد عامين من هذا الرفض الالتفاف على نتائج هذا التصويت وإعادة تبني مشروع دستور أوروبي "مبسط" أطلقت عليه اسم "معاهدة" تمييزا له عن مشروع الدستور المرفوض.

وقد وقع الزعماء الأوروبيون المجتمعون في لشبونة يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول 2007 هذه المعاهدة، آملين أن يتم التصديق عليها عن طريق البرلمانات المنتخبة وليس عن طريق الاستفتاءات الشعبية.

وهكذا فإن 19 دولة أوروبية -بينها المملكة المتحدة التي تتميز بوجود رأي عام مناهض تاريخيا للاتحاد الأوروبي- صادقت حتى الآن على هذه المعاهدة بواسطة برلماناتها.

ولم يفطن المهندسون الأساسيون لهذه المعاهدة أن الدستور الإيرلندي لا يسمح بالتصديق على هذا النوع من المعاهدات إلا عبر الاستفتاء الشعبي.

وكانت المفاجأة غير السارة لهم أن الشعب الإيرلندي، بدعم واضح من بعض مراكز الضغط في الولايات المتحدة التي قامت بحملة إعلامية ذكية وفعالة لصالح جبهة الرفض، مستغلة غموض هذه المعاهدة وتعقيدها، رفض الموافقة عليها ووضع القادة الأوروبيين في وضع محرج للغاية، خاصة أن نتائج الاستفتاء الإيرلندي قد تدفع لاحقا جمهورية التشيك وبولندا إلى اللحاق بجبهة الرفض.

وقبل تحليل آثار الرفض الإيرلندي على مستقبل التركيبة الدستورية للاتحاد بدوله الـ27 اليوم والدول الجديدة المرشحة لاحقا للانضمام إليه، من المفيد عرض الحجج التي يدافع عنها كل طرف قبل تحليل أسباب المأزق الحالي وسبل الخروج منه.


حجج المدافعين عن معاهدة لشبونة
بخلاف مشروع الدستور السابق الذي سقط نتيجة الرفض الفرنسي والهولندي عام 2005 والذي اعتبر"غير ديمقراطي"، فإن المعاهدة الحالية تأخذ بعين الاعتبار -في نظر المدافعين عنها- تطلعات المواطنين الأوروبيين.

وهي تسمح عبر الإبقاء على معاهدتي تأسيس السوق المشتركة والاتحاد الأوروبي مع إدخال بعض التعديلات عليهما، بالتالي:

1- إقامة أوروبا أكثر ديمقراطية وشفافية، فالمعاهدة تعزز دور البرلمان الأوروبي والبرلمانات الوطنية في التأثير على اتخاذ القرارات ومراقبتها وتعطي المواطنين الأوروبيين حيزا أكبر للحركة وإسماع صوتهم وتحدد بشكل أقل غموضا من السابق الصلاحيات الوطنية والاتحادية.

كما أن هذه المعاهدة تسمح صراحة لأول مرة في تاريخ المسيرة الاتحادية الأوروبية منذ 1957 لأي دولة عضو بالانسحاب من الاتحاد.

2- إقامة أوروبا أكثر فعالية في اتخاذ القرارات وتنفيذها من خلال اعتماد مناهج عمل وقواعد تصويت حديثة بدل قاعدة الإجماع التي تشل عملية اتخاذ القرارات بسرعة، في اتحاد أصبح يضم 27 دولة بدل 6 دول عام 1957.

وهكذا فإن قاعدة الأكثرية الموصوفة المعمول بها حاليا فيما يتعلق ببعض القضايا السياسية غير الأساسية، سيتم توسيعها لتشمل مسائل سياسية أخرى.

"
الرفض الإيرلندي لمعاهدة لشبونة لا يعني بأي حال نهاية الحلم الأوروبي، لأن المؤسسات الاتحادية الأوروبية ستظل تعمل وفق معاهدة نيس ووفق المعاهدات السابقة لها، ومن الخطأ اعتقاد أن غياب معاهدة دستورية يمكن أن يعني انهيار الاتحاد
"

وهكذا، فابتداء من العام 2014 سيتم حساب الأكثرية الموصوفة اللازمة لتمرير أي قرار هام على أساس الأغلبية المزدوجة: أغلبية الدول الأعضاء والأغلبية السكانية.

أما أغلبية الدول فتحدد بنسبة 55% من الدول الـ27، في حين أن الأغلبية السكانية تحدد بنسبة 65% من مجموع سكان الاتحاد.

ويعطي هذا النظام الجديد مزيدا من الشرعية الديمقراطية للاتحاد، إذ إنها تضمن نوعا من التوازن بين الدول الأعضاء بحيث لا يتم سحق الصغيرة منها من جهة ولا فرض هيمنة الكبيرة منها من جهة ثانية.

ومن الإصلاحات المؤسساتية الجديدة التي تتضمنها معاهدة لشبونة انتخاب رئيس للمجلس الأوروبي لمدة عامين ونصف، وتحسين عمل المفوضية الأوروبية، وإعادة النظر في تركيب البرلمان الأوروبي.

وتعزز المعاهدة من قدرة الاتحاد على التدخل في عدة حقول كانت حتى الآن من اختصاص السلطات الوطنية، وعلى رأسها الحريات والأمن والعدالة ومكافحة الإرهاب والجريمة. كما تخولها إلى حد ما التدخل في مجالات جديدة مثل سياسة الطاقة والصحة العامة والحماية المدنية والتغير المناخي والخدمات ذات المصلحة العامة والبحث العلمي والسياسة التجارية والمساعدات الإنسانية والرياضة والسياحة وتنسيق سياسات التنظيم الترابي والتعاون الإداري.

3- تعميق التعاون في مجال الدفاع عن الحقوق والقيم الديمقراطية الأوروبية وعن الحرية والتضامن والأمن.

4- تعزيز دور الاتحاد الأوروبي ومكانته في العالم عبر توحيد جميع الإدارات والأجهزة التي تعنى بالسياسة الخارجية الأوروبية، ووضعها تحت إشراف ممثل أعلى للشؤون الخارجية والأمن يشغل في الوقت نفسه منصب نائب رئيس المفوضية الأوروبية، ما سيعطي وزنا أكبر ومصداقية أكثر لهذه الدبلوماسية التي لم تستطع حتى الآن أن تفرض نفسها بشكل واضح وأن تنزع عنها صورة البقرة الحلوب التي تساهم في تمويل الكثير من البلدان دون أن يترجم هذا التمويل إلى وزن سياسي وإستراتيجي يذكر.


حجج معارضي المعاهدة
من الصعب جدا تلخيص مواقف معارضي المعاهدة نظرا لانتماءاتهم السياسية والعقائدية المتعارضة، فهم يتدرجون من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن المتمسكين بالسيادة الوطنية المطالبين بأوروبا فضفاضة تحتفظ داخلها كل أمة بسيادتها وبشخصياتها الوطنية والثقافية إلى الذين يعتبرون أن الشكل الحالي للاتحاد الأوروبي غير كاف ولا بد من تحويله من الاتحاد الفضفاض القائم على مجرد سوق مشتركة إلى دولة فدرالية على شاكلة الولايات المتحدة، ما سيسمح لها من الانتقال من مرحلة "أوروبا السوق" إلى مرحلة "أوروبا القوة العظمى".

ولكن مهما تعددت المواقف والمواقع، فمن الممكن تحديد مبررات الرفض بالنقاط التالية:

– عدم ديمقراطية الاتحاد لأن أصحاب القرار الحقيقيين ليسوا منتخبين مباشرة من الشعوب الأوروبية، بل يتم تعيينهم ضمن حسابات ومناورات ضيقة تخدم مصالح قوى السوق ويتحولون إلى نخبة بيرقراطية تكنقراطية منقطعة عن الرأي العام.
– معاهدة لشبونة تجعل من العولمة الخيار الوحيد الممكن.
– المعاهدة غير مفهومة لدى عامة الناس بعكس الدساتير المعمول بها في معظم بلدان العالم. وكانت إحدى أهم الحجج الذي ساقها المعسكر المناهض للمعاهدة في إيرلندا، أنه "عندما لا تفهم ما يعرض عليك قل لا".
– المعاهدة تضع الدفاع الأوروبي في يد الحلف الأطلسي وبالتالي في يد الولايات المتحدة.
– رغم التقدم الطفيف في مجال صياغة سياسة خارجية مؤثرة وموحدة، فإن المعاهدة ما تزال غير كافية وغير مقنعة.
– توسيع الاتحاد ليضم حاليا 27 دولة وغدا ليضم دولا يعتبرها البعض غير أوروبية مثل تركيا، خلق نوعا من الخوف غير المبرر لدى بعض الأوساط المحافظة.
– الأزمة المالية الخانقة التي تعيشها أوروبا وانخفاض القوة الشرائية للمواطن الأوروبي، كانا من العوامل الحاسمة في رفض المعاهدة.
– المعاهدة تهدد سيادة الدول الوطنية على حساب دكتاتورية السوق والمال.


"
ما لم تفهم النخب الحاكمة مغزى الرفض الإيرلندي فهناك خطر حقيقي في أن تتسع جبهة الرفض لتشمل جميع شعوب أوروبا التي باتت تشعر أن القارة التي يتم بناؤها اليوم لا تحميها اجتماعيا ولا اقتصاديا ولا ثقافيا كما كانت الشعوب تحلم
"

الخروج من المأزق
هذه باختصار نماذج من المبررات التي دفعت بالشعب الإيرلندي إلى رفض معاهدة لشبونة تماما كما رفض الشعب الفرنسي والهولندي قبل ثلاثة أعوام مشروع المعاهدة الدستورية.

ولعل لجوء الحكام الأوروبيين إلى محاولة خداع الرأي العام بتقديم معاهدة معدلة لا تجيب على التساؤلات الشرعية والمخاوف الحقيقية التي عبر عنها الرافضون عندما أعطوا فرصة التعبير عن رفضهم، إنما يدل على أزمة ثقة خطيرة بين النخب الحاكمة والقاعدة الاجتماعية الواسعة.

وهي أزمة تخفي في الحقيقة عمق المأزق الديمقراطي الذي تعيشه اليوم شعوب أوروبا، مأزق يتجلى بشكل حاد وفاضح في خوف النخب الأوروبية من مواطنيها واستهتارها بخياراتهم السياسية، معتبرة أنهم غير قادرين على اختيار ما هو أصلح لهم.

ويبدو أن هذه النخب لم تتعظ بعد بدروس الرفض الإيرلندي بدليل أن قادة الاتحاد الذين اجتمعوا في بروكسل بعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء قرروا بكل بساطة الاستمرار في عملية التصديق البرلمانية على هذه المعاهدة.

لا بل إن البعض اقترح إعادة طرح هذه المعاهدة مجددا على الاستفتاء الشعبي في إيرلندا، كما أن البعض الآخر اقترح أن يتم تعديل الدستور الإيرلندي بحيث يسمح للبرلمان بالمصادقة على المعاهدة بدون استشارة الناخبين.

بمعنى آخر فإن الخطأ لا يكمن في نواقص المعاهدة وعدم استجابتها لطموح الناخبين، بل في عجز الشعب عن فهم ما هي مصلحته..

الرفض الإيرلندي لمعاهدة لشبونة لا يعني بأي حال نهاية الحلم الأوروبي لأن المؤسسات الاتحادية الأوروبية ستظل تعمل وفق معاهدة نيس وكذلك وفق المعاهدات السابقة لها، ومن الخطأ اعتقاد أن غياب معاهدة دستورية يمكن أن يعني انهيار الاتحاد.

أوروبا اليوم حقيقة ملموسة خاصة على مستوى الاقتصاد والمال وحرية التنقل والقيم والممارسات الديمقراطية، والخروج من المأزق الحالي لا يتم بالالتفاف على الإرادة الشعبية، بل بالتوقف مليا لدراسة الأسباب العميقة لهذا الرفض.

ولو قدر اليوم للناخبين البريطانيين والفرنسيين -وحتى الألمان- أن يستشاروا حول هذه المعاهدة لرفضوها على الأرجح.

والأسباب العميقة هذه باتت معروفة وهي خوف المواطن الأوروبي من العولمة المتوحشة، وخوفه من فقدان هويته الوطنية، وخوفه من جره -تحت لواء الحلف الأطلسي- نحو حروب جديدة لا ناقة له فيها ولا جمل، وأخيرا خوفه من فقدان حرياته الأساسية بحجة مكافحة الإرهاب.

وليس من شأن الاتفاق الوشيك الذي يزمع الاتحاد الأوروبي توقيعه مع الولايات المتحدة، ويقضي بالسماح لهذه الأخيرة بالحصول على جميع شبكات المعلومات الخاصة الأوروبية والمتعلقة بالمعاملات المالية والتجارية والسياحية والشخصية، ليس من شأنه أن يعزز ثقة المواطن الأوروبي بقادته.

إن أوروبا لا يمكن أن تبنى ضد رغبات مواطنيها، بل من خلال احترام النخب السياسية لشعوبها.

ويبدأ ذلك بالتخلي الشجاع عن معاهدة لشبونة التي فقدت اليوم شرعيتها، وإعادة فتح النقاش الديمقراطي حول أي أوروبا يريدها الأوروبيون، لا أي أوروبا تريدها الأسواق المالية والنخب التكنقراطية.

وما لم تفهم هذه النخب مغزى الرفض الإيرلندي فهناك خطر حقيقي في أن تتسع جبهة الرفض لتشمل جميع شعوب أوروبا التي باتت تشعر أن القارة التي يتم بناؤها اليوم لا تحمي شعوبها اجتماعيا ولا اقتصاديا ولا ثقافيا كما كانت الشعوب تحلم، بل هي مجرد فضاء للتبادل الحر يعيد أوروبا -باسم العولمة وحرية الاقتصاد- إلى متاهات القرن التاسع عشر بدل أن يفتح لها آفاق القرن الحادي والعشرين.
__________________
كاتب سوري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.