الإعلام العربي وقضية التعاون بين النازيين والصهاينة

الاعلام العربي وقضية التعاون بين النازيين والصهاينة



عبد الوهاب المسيري

نجح الصهاينة في توظيف واقعة الإبادة النازية ليهود أوروبا في خدمة الصهيونية وإسرائيل، على الرغم من أن ظهور الصهيونية وتأسيس الدولة الصهيونية لا علاقة لهما بواقعة الإبادة، فقرار تأسيس الدولة الصهيونية يسبق ظهور النازية بعدة عقود.

"
الكثير من الوثائق التي تتناول موضوع علاقة النازيين بالصهاينة تحتوي على حقائق يمكن أن يسبب نشرها كثيرا من الحرج للصهاينة
"

وتتلخص الإستراتيجية الصهيونية في ما أسميه "أيقنة" الإبادة، أي تحويلها إلى ما يشبه الأيقونة، والأيقونة هي صورة ترمز إلى شيء متجاوز للطبيعة والتاريخ، يرى من يؤمن بها أنها مقدسة، بل تجسيد للإله، ومن ثم لا يمكن إخضاعها للتساؤلات الإنسانية العادية التي يمكن إخضاع أي ظاهرة إنسانية لها، كما لا يمكن مقارنتها بأي صورة أو ظاهرة أخرى، فالأيقونة مرجعية ذاتها، مكتفية بذاتها.

ونحن نعلم أن الإبادة واقعة تاريخية زمانية مكانية حدثت لبشر يعيشون في الزمان والمكان لأسباب تاريخية واجتماعية وحضارية محددة، شأنها شأن أي ظاهرة إنسانية.

ولكن بعد تحويلها إلى أيقونة مقدسة أصبح الحديث عنها كظاهرة إنسانية أمرا مرفوضا، إلى أن وصل الأمر إلى حد اعتبار التساؤل بخصوص بعض تفاصيل الإبادة منكرا يجب تحاشيه، بل جريمة يعاقب عليها القانون تسمى "إنكار الإبادة". وقد استخدم الصهاينة الاتهام بإنكار الإبادة آلية لتكميم الأفواه، وهذا ما حدث لغارودي ولإرفنج وللعديد من الباحثين قبلهما.

ويمكن للإعلام العربي والإعلام الغربي المناهض للصهيونية والعنصرية أن يتخطى هذه العقبة ويأخذ زمام المبادرة عن طريق نشر وثائق عن تعاون النازيين مع الصهاينة وعن قضايا أخرى وثيقة الصلة بهذه القضية، دون تعليق عليها والاكتفاء بالتعريف بها بحيث ندع الوثائق تتحدث بنفسها. وفي هذه الحالة لن يمكن اتهام ناشر الوثيقة بأنه أنكر الهولوكوست أو قلل من أهميتها وتصبح القضية هي مناقشة الوثيقة.

وهناك الآن الكثير من الوثائق التي تتناول موضوع علاقة النازيين بالصهاينة تحتوي على حقائق يمكن أن يسبب نشرها كثيرا من الحرج للصهاينة. وأعتقد أن وثائق وزارة الخارجية الألمانية والبولندية والروسية والسويسرية تحوي الكثير من المعلومات، كما يمكن الاستفادة بأرشيف الـKGB وأرشيف الـCIA والأرشيف الإسرائيلي.

وهناك مصادر يديشية كثيرة (واليديشية كانت لغة الغالبية الساحقة ليهود شرق أوروبا) تتناول نفس الموضوع. كما أن هوامش كثير من المراجع العلمية التي صدرت في الولايات المتحدة فيها إحالات لكثير من الوثائق والمقالات الهامة عن هذا الموضوع.

وعدد الوثائق المعروفة لدينا كبير، كما يمكن اكتشاف وثائق أخرى أثناء عملية البحث. وفيما يلي بعض المواضيع التي يمكن للوثائق أن تغطيها:


"
حينما وصل النازيون إلى الحكم رحب كثير من الزعماء الصهاينة بهم وأعلنوا التقاء الأهداف النازية بالأهداف الصهيونية
"

أولا: وثائق عن التعاون بين النازيين والصهاينة
اتفاقية الهعفراه: وهي اتفاقية أبرمت بين النازيين والصهاينة نقل بمقتضاها الألوف من اليهود (ورأسمالهم) إلى فلسطين مقابل قيام الصهاينة ببذل الجهود لفك الحصار الاقتصادي الذي نظمته بعض الجماعات اليهودية في الغرب على ألمانيا النازية.


المؤتمر الصهيوني الثامن عشر عام 1932: وهو المؤتمر الذي ناقش اتفاقية الهعفراه قبل توقيعها ويضم كثيرا من أقوال بعض الصهاينة الذين كانوا يدافعون عن أهمية التعاون مع النازيين.

كتاب أدوين بلاك Edwin Black الترانسفير The Transfer: ويتسم هذا الكتاب بأنه يتناول تفاصيل المؤتمر الصهيوني الثامن عشر والمؤامرات التي حاكها الصهاينة لتمرير قرارهم الخاص باتفاقية الترانسفير. وقائمة المراجع التي يضمها هذا الكتاب تحتوي على عدد كبير من عناوين الكتب الهامة التي تتناول موضوع علاقة النازيين بالصهاينة.

كتاب ليني برنر Lenni Brenner الصهيونية في عصر الدكتاتورية: توجد بهوامشه الكثير من الإحالات لوثائق تبين مدي عمق التعاون بين النازيين والصهاينة، كما أن برنر نفسه أصدر مؤخرا كتابا آخر مهما بعنوان 51 وثيقة عن تعاون النازيين والصهاينة.

مجلة يوديش روندشاو: وهي مجلة الحركة الصهيونية في ألمانيا النازية وتحوي الكثير من المقالات والبيانات المؤيدة للنظام النازي.


المجالس اليهودية: وهي مجالس أقامها النازيون للجماعات اليهودية في كل أنحاء أوروبا التي وقعت تحت سيطرتهم، وقد تعاون أعضاء هذه المجالس مع السلطات النازية، وكان للصهاينة حضور قوي في هذه المجالس.


تصريحات الزعماء الصهاينة في ألمانيا بعد وصول النازيين للحكم: حينما وصل النازيون إلي الحكم رحب كثير من الزعماء الصهاينة بهم وأعلنوا التقاء الأهداف النازية بالأهداف الصهيونية.


"
ألفريد نوسيج وهو أحد مؤسسي الحركة الصهيونية وضع خطة متكاملة لإبادة اليهود الألمان المسنين والفقراء (غير النافعين) وتهجير الباقين أو إبادتهم
"

شخصيات صهيونية تعاونت مع النازيين مباشرة
ألفريد نوسيج (1864–1949): أحد مؤسسي الحركة الصهيونية، عمل مخبرا للسلطات النازية إبان الحرب العالمية الثانية، ورئيسا لمجلس اليهود في وارسو إبان الحكم النازي.

ونظرا لمعرفته الوثيقة بأعداد اليهود وتوزعهم ومراحلهم العمرية المختلفة، وضع خطة متكاملة لإبادة اليهود الألمان المسنين والفقراء (غير النافعين) وتهجير الباقين أو إبادتهم.

وقد اكتشف أعضاء المقاومة اليهودية في غيتو وارسو تعاونه مع النازي وأنه عضو في الغستابو، فحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص ونفذ الحكم في 22 فبراير/ شباط 1949. وقد اختفى نوسيج تماما من الأدبيات الصهيونية والغربية.

رودولف كاستنر (1906–1957): أحد زعماء الحركة الصهيونية في المجر، قام بالاتصال بالمخابرات المجرية والنازية (التي كان لها عملاء يعملون داخل المجر، حتى قبل احتلال القوات الألمانية لها)، ثم استمر في التعاون مع النازيين بعد احتلالهم للمجر.

وتشير بعض الدراسات إلى أن أيخمان حضر إلى المجر ومعه 150 موظفا وحسب، وكان يتبعه عدة آلاف من الجنود المجريين، هذا بينما كان يبلغ عدد يهود المجر ما يزيد على 800 ألف، ما يعني استحالة ترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال (السخرة والإبادة) إن قرروا المقاومة.

ومع هذا نجح أيخمان في مهمته بفضل تعاون كاستنر معه الذي أقنع أعضاء الجماعة اليهودية في المجر بأن النازيين سيقومون بنقلهم إلى أماكن جديدة يستقرون فيها أو إلى معسكرات تدريب مهني لإعادة تأهيلهم وليس إلى معسكرات الاعتقال.

ومقابل ذلك سمحت السلطات النازية (عام 1941) بإرسال ما يزيد عن 1700 يهودي من أحد معسكرات الاعتقال إلى فلسطين "يهود من أفضل المواد البيولوجية"، على حد قول أيخمان.

وفي العام 1946 استقر كاستنر في فلسطين وانضم إلى قيادة الماباي ورشح للكنيست الأول لكن في عام 1952 تعرف المستوطن الإسرائيلي مايكل جرينوولد على كاستنر وكتب كتيبا أرسله لبعض القيادات الصهيونية اتهمه فيه بالتعاون مع النازيين، وأنه قام بالدفاع عن أحد ضباط الحرس الخاص (الإس. إس) أثناء محاكمات نورمبرغ، أي بعد الحرب، الأمر الذي أدى إلى تبرئته وإطلاق سراحه.

وقد بين كاستنر أثناء محاكمته أنه لم يكن يسلك سلوكا فرديا وإنما تصرف بناء على تفويض من الوكالة اليهودية (التي أصبحت الدولة الصهيونية عام 1948). وقد قضت المحكمة الإسرائيلية بأن معظم ما جاء في كتيب غرينوولد يتطابق مع الواقع.

وقد قام الحزب الحاكم في إسرائيل بمحاولات مضنية فاشلة لإنقاذ كاستنر وتبرئته وإنقاذ سمعة المنظمة الصهيونية. وبعد إشكالات قضائية كثيرة، حسمت المسألة حينما أطلق "أحدهم" الرصاص على كاستنر وهو يسير في الشارع.

وقد تمت الجريمة رغم ورود تحذيرات لسلطات الأمن الإسرائيلية بوجود مؤامرة لاغتياله، بل كانت السلطات تعرف موعد تنفيذ المؤامرة، وقد سجل موشيه شاريت رئيس الوزراء الإسرائيلي هذه الكلمات في مذكراته: "كاستنر، كابوس مرعب، حزب الماباي يختنق، بوجروم".

ويشير براند في كتابه إلى أن "رجال السياسة الذين يتسمون بالحذر كانوا لا يعرفون ماذا سيفعلون مع هذا الرجل بعد محاكمته"، وكانوا يفكرون في "إسكاته".


"
أتباع عصبة الأشداء يرون أن الاغتيال السياسي ليس جريمة وإنما هو فعل ذو هدف ومعنى وأن الدم والحديد هما الطريق الوحيد للتحرر
"

ثانيا: قضايا أخرى وثيقة الصلة بمسألة التعاون بين النازيين والصهاينة
تصريحات زعماء المستوطن الصهيوني: وهي تصريحات تبين مدى عدم الاكتراث الصهيوني بيهود أوروبا والاهتمام بمستقبل المستوطن الصهيوني دون سواه.


عصبة الأشداء: (أي الأقوياء وبالعبرية «بريت هابريونيم») جماعة صهيونية مراجعة أسسها آبا أحيمئير (1898-1962) ومجموعة من المثقفين الصهاينة مثل الشاعر أوري غرينبرغ. وكان معظم مؤسسي الجمعية أعضاء في منظمات صهيونية عمالية ثم استقالوا منها.

تبنت الجماعة صياغة صهيونية لا تخفي إعجابها بالفكر النازي أو العنصرية النازية، وكما قال أحد كبار الصهاينة التصحيحيين "نحن التصحيحيين نكن الإعجاب الشديد لهتلر، فهو الذي أنقذ ألمانيا ولولاه لهلكت خلال أربعة أعوام، وسنتبعه إن هو تخلى عن معاداته لليهود".

وكانت مجلة عصبة الأشداء في فلسطين تزخر بالمقالات التي تمجد هتلر والهتلرية. وكان من بين هتافات أعضاء العصبة "ألمانيا لهتلر، وإيطاليا لموسوليني، وفلسطين لغابوتنسكي".

كما مجد أعضاء الجمعية الجوانب العسكرية في تاريخ العبرانيين، فكانوا يشبهون أنفسهم بجماعة حملة الخناجر، وهم فريق من جماعة الغيورين كانت تغتال الرومان واليهود الذين يتحالفون معهم، وذلك أثناء التمرد اليهودي الأول في فلسطين بين العامين 66 و73 ميلادية (واسم الجمعية نفسه «بريت هابريونيم» هو اسم إحدى الجمعيات الإرهابية اليهودية في تلك الفترة).

وكان أتباع الجمعية يرون أن الاغتيال السياسي ليس جريمة وإنما هو فعل ذو هدف ومعنى، وأن الدم والحديد هما الطريق الوحيد للتحرر. وكما قال أحميئير، فإن "الماشيَّح (المسيح المخلص اليهودي) لن يأتي راكبا على حمار"، حسب ما جاء في التراث الديني اليهودي، ما يعني أن الماشيَّح الصهيوني سيأتي راكبا دبابة.


منشورات جماعة الناطوري كارتا: يذهب أعضاء جماعة الناطوري كارتا (وهي جماعة يهودية أورثوذكسية معادية للصهيونية من منظور ديني) إلى أن الصهاينة تعاونوا مع النازيين لإبادة يهود شرق أوروبا الذين كانوا يشكلون غالبية يهود العالم، لأنهم ذوو اتجاهات أرثوذكسية معادية للصهيونية. وقد نشرت هذه الجماعة بالفعل عدة كتب توضح وجهة النظر هذه وتوثقها، ولكنها نشرت بشكل سيئ كما أنها لم يعلن عنها بما فيه الكفاية.


"
الدراسات الإحصائية عن عدد يهود العالم التي نشرت من الثلاثينيات حتى أواخر الخمسينيات تبين مدى كذب أسطورة الستة ملايين
"

ثالثا: قضية عدد ضحايا الإبادة (ستة ملايين)
يمكن نشر الدراسات الإحصائية عن عدد يهود العالم التي نشرت من الثلاثينيات حتى أواخر الخمسينيات وستبين مدى كذب أسطورة الستة ملايين.

دراسات عن الديموغرافيا اليهودية مثل دراسة يوريا أنغلمان التي نشرت في الأربعينيات من القرن الماضي (قبل وقوع الإبادة أو قبل أيقنة رقم ستة ملايين) وكانت تتنبأ باختفاء اليهود من خلال التناقص الطبيعي.

دراسة عن الحالة الصحية المتدهورة لأعضاء الجماعات اليهودية (وغيرهم) إبان الحرب العالمية الثانية: انتشار الأوبئة –سوء التغذية– ارتفاع نسبة الوفيات.

دراسة عن نسبة الاندماج والزواج المختلط والتنصر والامتناع عن الإنجاب في فترات الأزمات والحرب.

دراسة عن عدد اليهود الذين قتلوا إما كجنود أثناء المعارك أو كمدنيين أثناء الغارات الجوية.

البحث عن أعمال بعض المؤرخين اليهود ممن يشككون في رقم ستة ملايين مثل هوارد ساخار، أهم مؤرخ أميركي يهودي متخصص في الشؤون اليهودية، ويهودا باور وهو عالم إسرائيلي متخصص في الهولوكوست.

وأعتقد أن نشر الوثائق التي تدور حول هذه الموضوعات وما قد يستجد من وثائق سيضطر الصهاينة إلي فتح باب الحوار بخصوص كثير من القضايا التي تم أيقنتها واستبعادها من دائرة الحوار.

هذه هي الملامح العامة للمشروع، وهو ليس مشروعا إعلاميا وحسب، وإنما له طابع علمي، بحيث لا يمكن للدعاية الصهيونية أن تشوش عليه بطريقتها الغوغائية. إذ لن يمكنها أن تتهم محرر الوثائق وناشرها بأنه أنكر الهولوكوست أو قلل من أهميتها، فالقضية تصبح هي مناقشة الوثائق وما جاء فيها وفتح باب الحوار بشأنها. والله أعلم.
ــــــــــــــــــ
كاتب مصري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.