"غرافيتي غزة".. فن البسطاء بألوان ثورية

من فن الغرافيتي في غزة لوحة فلسطين لبلال الجعبير وإبراهيم عويلي
من فن الغرافيتي في غزة لوحة فلسطين لبلال الجعبير وإبراهيم عويلي (الجزيرة)
أيمن الجرجاوي – غزة

يتزين جدار أثري وسط مدينة غزة بحروف كلمة "فلسطين" مرسومة باللغة الإنجليزية (Palestine) وإلى جوارها فلسطينية محجّبة كتفًا بكتف مع رجل متّشح بالكوفية، وفي اليمين تضرب أشجار الزيتون جذورها في الأرض، ويرفرف بصدر الجدار علم الدولة في سماء قبة الصخرة المشرفة والكنيسة.

الألوان الفاقعة التي لُوّنت بها اللوحة الفنية، وأسلوب الرسم والكتابة، تُحتّم على المارين في الشارع النظر إليها، ولا سيما أنها أمر غير مألوف كثيرا لدى الفلسطينيين في قطاع غزة، بعدما اعتادوا رؤية الجدران مزدحمة بتهاني الزواج، أو الحج، أو الشعارات الحزبية، ونعي الشهداء.

وفن الكتابة على الجدران أو "الغرافيتي" هو تصميم الرسومات أو الأحرف على الجدران، وتغيير الملامح العامة لها باستخدام بخاخ الدهان أو غيره، وترجع أصوله إلى الحضارات العتيقة كقدماء المصريين، والإغريق، والرومان، لكن نشأته الحديثة كانت في ستينيات القرن الماضي في نيويورك الأميركية.

بلال التلاوي لوحة رسالة محبة وسلام من غزة المحاصرة الى كل العالم (الجزيرة)
بلال التلاوي لوحة رسالة محبة وسلام من غزة المحاصرة الى كل العالم (الجزيرة)

الفلسطينيون في القطاع بدؤوا الكتابة والرسم على الجدران مع بداية الانتفاضة الأولى عام 1987، وذلك لإيصال رسائل سياسية وثورية، وتعرض بعضهم للقتل والاعتقال على يد الاحتلال الإسرائيلي، لأن الأخير اعتبر ذلك تحديًا لسلطته، وتجاوزا لسيطرته على وسائل الاتصال.

بعد قدوم السلطة الفلسطينية عام 1994 إلى الأراضي المحتلة، تحوّلت الكتابة على الجدران والرسم إلى مصدر رزق لبعض الرسامين في المناسبات والأفراح، قبل أن تصبح قبل سنوات قليلة فنا قائما بمعناه الحقيقي، ولكن مع إضفاء النكهة الفلسطينية عليه.

ويقول الفنان الفلسطيني بلال الجعبير-صاحب غرافيتي (Palestine) بالاشتراك مع الفنان الفلسطيني المقيم بمصر إبراهيم عويلي- إن فن الرسم على الجدران تعبير عن واقع المجتمع بطريقة ملفتة، ويعد نوعا من أنواع الحرية والتعبير عن الرأي، في ظل واقع سياسي صعب وحصار مستمر.

لم يكن الجعبير يمارس "الغرافيتي" بوصفه فنا في البداية، لكن الجدران كانت بالنسبة له مكانا مناسبا لإيصال الأفكار التي تراوده إلى المجتمع، ومع بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى عام 2000) قدّم بعض الرسومات التي تعبر عن واقع الانتفاضة، وكانت أيضا أعمالا جزئية مبسطة.

لوحة نحن نحب الحياة للفنان بلال الجعبير ومجموعة من الفنانين العرب (الجزيرة)
لوحة نحن نحب الحياة للفنان بلال الجعبير ومجموعة من الفنانين العرب (الجزيرة)

مع مرور الزمن، اكتسب الفنان الفلسطيني خبرة التعامل مع الألوان والمساحات، وساعدته في ذلك دراسته "الفنون الجميلة" في الجامعة، وعمله في مجال الإنتاج الإعلامي، فتوسعت مداركه، حتى أصبح يجيد رسم الأفكار كاملة بمدلولات معينة.

كان الجعبير (31 عامًا) أول من أضفى العناصر الفلسطينية على فن "الغرافيتي"- وفق ما قاله لمجلة الجزيرة- فأدخل رسومات المسجد الأقصى، والكنائس، والكوفية، وشجرة الزيتون، وبعض الزخارف الشرقية على رسوماته.

ويهدف رسّامو "فن البسطاء" في غزة إلى إيصال رسائلهم إلى طبقات المجتمع كافة، من خلال رسوماتهم الواسعة على الجدران، "فمَن من الفلسطينيين لا يمشي في الشوارع يوميا؟"، يتساءل الجعبير.

ويبدو واقع "الغرافيتي" جيدًا في القطاع إذا ما قورن بعدد متقنيه، إذ تتوزع عشرات اللوحات الفنية على الجدران، في وقت لا يتجاوز عدد متقنيه أصابع اليدين، واشترك عدد من الفنانين العرب في رسم جداريات مع فنانين داخل غزة.

"نحن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا"، هذا عنوان رسم "غرافيتي" رسمه فنانون فلسطينيون وعرب في غزة عام 2012، للتعبير عن الصداقة الفنية، بمشاركة الجعبير، وعويلي، والفنانة المصرية هالة الشاروني، والتونسية هيفاء تكوتي.

بلال التلاوي فنان الغرافيتي في غزة (الجزيرة)
بلال التلاوي فنان الغرافيتي في غزة (الجزيرة)

بعض اللوحات الفنية الواسعة تأخذ تسع ساعات من العمل، وتبلغ كلفتها نحو مائة دولار أميركي، بينما لا تأخذ اللوحات الساخرة البسيطة أكثر من نصف ساعة من الرسم -وفق الجعبير- الذي سجّل باسمه أكثر من ألف رسمة على الجدران.

فن "الغرافيتي" اتخذ طابعا ثوريا في غزة، وحمل رسائل قوية ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكنه لم يغفل الواقع الاجتماعي والداخل الفلسطيني، فعالج بعض المشكلات برسومات ساخرة، وتطرّق أيضًا إلى الأحداث الرياضية العالمية.

رسومات الفنان الفلسطيني بلال التلاوي جذبت العيون إلى جدران لم تنظر إليها من قبل، فلوحة "نحن نحب الجزائر" التي خطّها بألوان براقة على أحد الجدران إبان مشاركة المنتخب الجزائري في كأس العالم 2014 لاقت استحسانا واسعا في القطاع.

ورغم أن التلاوي بدأ ممارسة الفن منذ نحو عامين فقط، معتمدًا على موهبته في الرسم، فإنه استطاع رسم عشرات اللوحات المميزة في مجالات عديدة، ويوضح في حديث لمجلة الجزيرة أن "الغرافيتي" أتاح له إيصال رسالته لعامة الشعب الفلسطيني.

استطاع الفنان الفلسطيني تطوير موهبته وتعلم أساليب جديدة من خلال مشاهدته أعمال بعض الفنانين الغربيين على شبكة الإنترنت، ويقول إنه يلحظ تطورا في أدائه كلما رسم لوحة جديدة.

بلال التلاوي لوحة نحن نحب الجزائر دعما للمنتخب الجزائري بكأس العالم (الجزيرة)
بلال التلاوي لوحة نحن نحب الجزائر دعما للمنتخب الجزائري بكأس العالم (الجزيرة)

وإلى جانب لوحة "دعم الجزائر"، رسم التلاوي جدارية ضمّت أبرز لاعبي كأس العالم 2014 في رسالة محبة وسلام من غزة إلى العالم، كما خطّ جدارية باسم النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي وصورته، وبرزت ألوانه الفاقعة في رسم كلمة "غزة" (Gaza) وكلمة "حظًا سعيدًا" (Good Luck).

ويجد التلاوي من الجدران مكانا جيدا للتعبير عن أفكاره، وإبراز واقع مجتمعه، ويتوقع خلال الأعوام المقبلة ازدهار فن "الغرافيتي" في غزة وانتشاره على نطاق أوسع، وبأنماط جديدة يبدعها الفلسطينيون.

ولا توجد جهة راعية لأعمال فناني "الغرافيتي" في غزة، ويقتصر الأمر على مجموعات فنية مهتمة بالفن، لكن المصورة والكاتبة السويدية المهتمة بالشأن الفلسطيني ميا غروندال تابعت تطور الفن بغزة على مدار ثماني سنوات، عبر كتاب أصدرته عام 2010 باللغتين الإنجليزية والسويدية.

وتقول غروندال في كتابها "غزة غرافيتي.. رسائل الحب والسياسية"، إن الفلسطينيين ابتدعوا هذه الظاهرة كقناة تخاطب وحيدة (بجانب المنشورات السرية)، وكانت بمثابة "باروميتر" للوضع السياسي في غزة.

وتضيف -في كتابها الذي ضم 149 صورة- "فالقضية الأكثر سخونة هي التي تطغى على جدران المنازل والمحال التجارية. وهنا تبرز المنافسة بين الفصائل في مَن الأكثر فصاحة في التعبير أو الأكثر جمالا في الكتابة".

المصدر : الجزيرة