شعار قسم مدونات

ماذا بعد أن وافقت المقاومة على مقترح الهدنة؟!

مشاهد من تسليم الاسرى في اليوم السادس للهدنة
من تسليم المحتجزين لدى المقاومة في هدنة سابقة (الجزيرة)

"السياسة هي أن تصنع الأمل للجماهير".. مقولة طالما رددتها على مدار عملي في هذا المجال، والفرق هنا بين ما يصنعه بعض السياسيين وما فعلته المقاومة، أن الأول يصنع الوهم، ويصدره للجماهير، والمقاومة بعد قرارها قبول مقترح الهدنة صنعت الأمل لجماهير صبرت، وصمدت وقدمت للمقاومة ما لم تقدمه أعظم الدول. قدمت لها الدعم والثمن كان أرواحها وأرواح من تحب.

بعد أن أعلنت المقاومة قبولها لمقترح الهدنة الذي تبناه الوسطاء، ما يعني وقف إطلاق النار، ولو على مراحل، أطلقت الأعيرة النارية في الهواء، وأطلقت معها الزغاريد في مناطق متفرقة من قطاع غزة، كبر الشباب، وغنوا فرحا وفي خضم تلك الفرحة هتفوا "حط السيف قبال السيف وإحنا رجال محمد ضيف"، رسالة واضحة للعالم وللمرجفين أنهم على العهد، متمسكون بالأرض من خلال المقاومة.

مقترح وقف إطلاق النار يتضمن 3 مراحل كل مرحلة تستمر 42 يوما، ومن الواضح أنها مبنية على مقترحات باريس، إذ أنها تشبهها كثيرا، والمقترح يتضمن الموافقة على وقف العمليات العسكرية والعدائية بشكل دائم في المرحلة الثانية

قبيل إعلان المقاومة قبولها مقترح الهدنة لم ينفك نتنياهو وحكومة حربه بالتهديد والتحشيد قبالة رفح مهددين باجتياح المدينة التي تكتظ بما يقارب المليون ونصف المليون إنسان، ألجأتهم آلة الحرب الإسرائيلية لها بعد أن هدمت كل المدن من الشمال والوسط إلى حدود المحافظة الجنوبية، مع ذلك صرحت المقاومة أن التهديد باجتياح رفح لن يشكل أي ضغط عليها في مسار المفاوضات، وأعلنت قبولها للمقترح، ويبلغ هنية رسميا الوسطاء بذلك.

منذ اللحظة الأولى لإعلان المقاومة قبلوها لمقترح وقف إطلاق النار، شكك الاحتلال، وقال مسؤولون في حكومة حربه إنهم سيناقشون الرد عندما يتسلمونه، قبل أن يعودوا، ويشككوا في الوثيقة التي وافقت عليها المقاومة، بذريعة أن الترجمة ليس متسقة، وأن الشروط بها لبس، وهي مماطلة معروفة في أدبيات التفاوض.

لكن وبكل المقاييس، كانت موافقة المقاومة على مقترح الوسطاء، ضربة استباقية أربكت الاحتلال، وأفشلت الكثير من مخططاته، وفككت ذريعة الهجوم على رفح، وإن استمر بعد إعلان الموافقة، لكنها رفعت عنه الغطاء، وكشفت الرغبة المستدامة لدى الاحتلال في سفك الدم العربي، وفككت فكرة الميناء المؤقت الذي أنشأته القوات الأميركية بالفعل الذي كان بمثابة مسمار جحا الذي به سيفرغ القطاع من أهله، وفككت محور نتساريم، وأفشلت الهدف منه، وبالنتيجة فككت خطة اليوم التالي للحرب الذي عكف نتنياهو وصهاينة الإدارة الأميركية في التخطيط له والحلم بتنفيذه، فالموافقة أظهرت الاحتلال بمظهر الرافض للسلام أمام العالم ما يزيد الحنقة الشعبية عالميا عليه.

بحسب الوثيقة التي وافقت عليها المقاومة فإن مقترح وقف إطلاق النار يتضمن 3 مراحل كل مرحلة تستمر 42 يوما، ومن الواضح أنها مبنية على مقترحات باريس، إذ أنها تشبهها كثيرا، والمقترح يتضمن الموافقة على وقف العمليات العسكرية والعدائية بشكل دائم في المرحلة الثانية، ومن ثم كسر الحصار كليا في المرحلة الثالثة، وصولا إلى انسحاب الاحتلال من كامل قطاع غزة وعودة النازحين، مع تفصيلات تنفيذية أكثر في ترتيب المراحل وتسليم الأسرى والمحتجزين، وهو ما إن نفذ يعني بكل وضوح انتصار المقاومة بالضربة القاضية على الاحتلال على كل الأصعدة، العسكرية والسياسية والاقتصادية وبناء السمعة.

المرحلة الثانية وما تشمله من وقف دائم لإطلاق النار تفكك مشروع نتنياهو المبني على تأجيج الموقف وإرضاء اليمين المتطرف الذي يعول عليه للإفلات من المقصلة السياسية التي باتت قاب قوسين أو أدنى من رقبته

لذا فليس من المستغرب أن تنقل وكالة رويترز، عن مسؤول كبير في حكومة الاحتلال: أن المقترح الأخير يشمل تنازلات كبيرة لا تقبلها "إسرائيل"، والمقترح الذي وافقت عليه حماس يتضمن استنتاجات بعيدة المدى لن يوافقوا عليها، وفي السياق واصل نتنياهو إصدار بيانات باسم مصادر سياسية ووزراء من الكابنيت، ليرسل رسائل مفادها أن حكومته لم يعرض عليها أي اتفاق جديد، وأن ما وافقت عليه حماس مجرد عرض أحادي، في وقت أكد بايدن فيه لنتنياهو أن التوصل لوقف لإطلاق النار مع حماس هو أفضل وسيلة لحماية حياة الرهائن في غزة، ما يعني أن أميركا تميل إلى الحل السلمي بعد أن بات الرهان على نتنياهو خاسرا.

لقد ألقت المقاومة بالكرة في ملعب الاحتلال، وبات محشورا في الزاوية، وهو ما أكدته وسائل إعلام عبرية، في وصفها لموقف حكومة الاحتلال في ظل الضغوط الشديدة التي تمارس عليها من قبل الإدارة الأميركية فيما يخص الصفقة، وهو ما جعل زعيم المعارضة في الكيان المحتل يدعو الحكومة لإجراء نقاش مستعجل بعد موافقة المقاومة وإرسال وفد إلى القاهرة للمناقشة، لا سيما وأن مقترح التهدئة يتضمن بمرحلته الثانية الإعلان المباشر عن وقف العمليات العسكرية والعدائية بشكل دائم.

المرحلة الثانية وما تشمله من وقف دائم لإطلاق النار تفكك مشروع نتنياهو المبني على تأجيج الموقف وإرضاء اليمين المتطرف الذي يعول عليه للإفلات من المقصلة السياسية التي باتت قاب قوسين أو أدنى من رقبته، ومن ثم تاريخه، الذي حاول خلال واحد وثلاثين عاما، هي عمره في السياسة أن يحفر أسمه كأحد أعظم السياسيين في الكيان المحتل، من خلال الدم، كما كان أثناء خدمته في جيش الدفاع.

ليس من المستغرب على شخصية نرجسية كنتنياهو أن يقنع حكومة الحرب باستمرار العملية العسكرية في رفح رغم الشرط الأميركي بتقليل أكبر قد ممكن من الخسائر في صفوف المدنيين، لذا كان اتصال وزير خارجية الكيان، غالانت، بنظيره الأميركي، ببلينكن، لإبلاغه ببدء إجلاء الفلسطينيين من رفح، وإعلان إذاعة جيش الاحتلال في التوقيت نفسه أن عملية رفح ستكون محدودة، وفي الأطراف الشرقية للمدينة، وليس في العمق، ما يوحي بتقليل الكلفة البشرية بين المدنيين في العملية، وهو بالتأكيد لن يكون.

ما لا يستطيع الاحتلال حجبه أو التغطية عليه هو أن المقاومة سجلت نصرا سياسيا كما سجلت حتى الآن نصرا عسكريا سيكون له ما بعده ليس في فلسطين فحسب بل في المنطقة بأثرها.

حديث قادة الاحتلال العسكريين عن أن معبر رفح البري سيكون ضمن نطاق العملية، وهو ما حدث بالفعل، كما ستشمل مستشفى أبو يوسف النجار، بالتزامن مع إلقاء جيش الاحتلال منشورات على المدينة يحذر فيها المدنيين من العودة إلى مدينة غزة، يعني أن نتنياهو وحكومته وقادة جيشه عازمون على مجزرة جديدة غير مكترثين بمحكمة العدل، ولا الجنائية الدوليتين فالمهم عندهم أصوات المتطرفين الذين يصوتون بكثافة لمن يسفك الكثير من الدم العربي.

عائلات الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، وهم لا يمثلون نسبة يمكن أن تغير معادلة الانتخابات القادمة، أغلقوا شوارع في تل أبيب والقدس وبئر السبع لمطالبة حكومة نتنياهو بالموافقة على صفقة التبادل والتسريع في الإفراج عن ذويهم، بعد أن طالبت فترة غيابهم، تحت قسوة ظروف صعبة يمنع فيها جيش الاحتلال الطعام والشراب عن القطاع، وما يسري على القطاع يسري بالنتيجة على ذويهم، ما يعني فقدان واحد تلو الآخر بتعنت نتنياهو وقادته العسكريين.

بين الضغط الدولي والأمريكي والشعبي وبين تمسك نتنياهو بطوق النجاة السياسي، والمتمثل في سفك مزيد من الدماء، يبقى الحكم للأيام القادمة في لعبة عض الأصابع، معتمدة في ذلك على قوة أنياب غانتس وآيزنكوت وبن غفير ومن قبلهم نتنياهو، وبين هذا، وذاك فإن ما لا يستطيع الاحتلال حجبه أو التغطية عليه هو أن المقاومة سجلت نصرا سياسيا كما سجلت حتى الآن نصرا عسكريا سيكون له ما بعده ليس في فلسطين فحسب بل في المنطقة بأثرها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.