شعار قسم مدونات

في ضوء تاريخها.. كيف تبني الأمة الإسلامية مستقبلها؟

حاول العلماء في مجال الدراسات المستقبلية أن يبنوا مناهج وأدوات علمية ونظريات من أهمها نموذج المحاكاة (وكالة الأناضول)

كان حبي لدراسة التاريخ من أهم العوامل التي شكلت مسيرتي العلمية، وأثر ذلك الحب على كل ما أنتجته من دراسات وكتب في مجالات الاتصال والإعلام والقيادة، وكنت أوجه طلابي إلى الاهتمام بدراسة التاريخ، فمن أهم وظائف الإعلامي أن يروي القصص التي تسهم في زيادة وعي شعبه، وإدراكه لهويته، واستخدامه لمصادر قوته.

وخلال دراستي بجامعة ليستر – المملكة المتحدة لاحظت أن طلاب الدراسات الإعلامية الذين ينتمون إلى دول مختلفة يتابعون الأحداث، لكنهم يجهلون أسباب الصراعات العالمية وخلفيتها التاريخية، فلا يستطيعون تفسير الأحداث بعمق، ويقلل ذلك من قدرتهم على توقع الأحداث ونتائجها.

اقتنع أستاذي جيمس هالوران برؤيتي، فأعطاني الفرصة لإلقاء محاضرات عن العلاقة بين الإعلام والتاريخ، وقدمت في عام 1990 مفاهيم جديدة منها "ذاكرة الحدث"، وكيف يجب أن تقدم وسائل الإعلام تغطية متعمقة للأحداث، بعرض خلفيتها التاريخية، فالكثير من المشكلات الدولية نتجت عن السياسات الاستعمارية التي خططت حدود الدول وقسمتها، وأثارت الكراهية بين الشعوب.

أثارت تلك المحاضرات اهتمام الطلاب، خاصة أولئك الذين ينتمون إلى دول أفريقية، لذلك بدأنا في إدارة حوار حول تاريخ الاستعمار وتأثيره على المشكلات الدولية، وضرورة وعي الإعلامي بالتاريخ ليتمكن من تغطية تلك المشكلات.

الدراسات المستقبلية شكلت الأساس لعملية إنتاج معرفي، تجاوز عملية التنبؤ إلى التحكم في السلوك الإنساني، وتوجيه عملية التغيير واتخاذ القرارات، وحث الناس على العمل لبناء المستقبل بأساليب مختلفة.

التاريخ وتطوير الدراسات المستقبلية

لكن كل المجالات العلمية أصبحت تحتاج إلى دراسة التاريخ، برؤية جديدة تتجاوز سرد الوقائع والأحداث، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "فلسفة التاريخ"، الذي يمكن أن يشكل أساسا لتطوير الدراسات المستقبلية، ويوضح للأمم الأسس التي يمكن أن تختار على أساسها المشروعات الحضارية التي تبني أساس مستقبلها.

لو نظرنا إلي العالم الآن سنكتشف أنه حقق تقدما في الكثير من المجالات العلمية والتقنية، وأن الإنسانية تفخر بإنجازاتها الحضارية والمدنية، ومع ذلك يتزايد الخوف من المستقبل، وتحاول مراكز البحوث أن تتوقع المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها العالم، وكيف يمكن مواجهتها، ومع الخوف يتزايد الإحباط والهزيمة النفسية والاكتئاب.

ولقد تطور البحث في مجال الدراسات المستقبلية بشكل كبير، وحاولت الدراسات أن تجيب عن سؤالين، كيف نعرف المستقبل؟ وكيف يمكن أن نغيره؟

هذه الدراسات ساهمت في تطوير الكثير من المجالات العلمية، ومن أهمها مجالات الإدارة والاقتصاد والسياسة والإعلام بالإضافة إلى العلوم الطبيعية.

وحاول العلماء في مجال الدراسات المستقبلية أن يبنوا مناهج وأدوات علمية ونظريات من أهمها نموذج المحاكاة، والدراسات الكمية والكيفية، لكن التعرف على المستقبل عملية أكثر تعقيدا، فهو ليس عملية تنبؤ أو توقع للأحداث، ولا يعتمد فقط على الحقائق المستمدة من دراسة الواقع.

وهذه الدراسات المستقبلية شكلت الأساس لعملية إنتاج معرفي، تجاوز عملية التنبؤ إلى التحكم في السلوك الإنساني، وتوجيه عملية التغيير واتخاذ القرارات، وحث الناس على العمل لبناء المستقبل بأساليب مختلفة.

التاريخ يسهم في تطوير الدراسات المستقبلية، فهو يوفر المعرفة عن التجارب التاريخية، وعمليات التغيير التي حدثت في الماضي، والنتائج التي ترتبت على هذا التغيير.

الارتباط بين العلم والسياسة

ربطت الدراسات المستقبلية بين العلم والسياسة، ذلك أن تحقيق الأهداف طويلة المدى والتأثير على الآخرين يحتاج إلى إدارة سياسية، وقيادة تقدم رؤية جديدة. لذلك تزايد دور التخطيط وتوظيف الخبرات التاريخية في بناء المستقبل، وشاركت العلوم الاجتماعية بدور كبير في إنتاج المعرفة، التي تمكن الدول من مواجهة التحديات والمخاطر، واستثمار الفرص التي تتيحها عمليات التغيير.

لذلك انتقلت الدراسات المستقبلية إلى مرحلة جديدة، يتم فيها إنتاج المعرفة حول المستقبل، عن طريق التفاعل بين الأكاديميين والسياسيين والاقتصاديين.

تاريخ المستقبل: مفهوم جديد

لكن تزايد دور المؤرخين في تطوير هذه الدراسات، فهم يقومون بإنتاج معرفة حول العوامل التي أدت إلى تشكيل الحاضر.

وهذا يعني أن التاريخ يسهم في تطوير الدراسات المستقبلية، فهو يوفر المعرفة عن التجارب التاريخية، وعمليات التغيير التي حدثت في الماضي، والنتائج التي ترتبت على هذا التغيير.

كما أن التاريخ يوضح لنا أيضا كيف تم استخدام القوة والمعرفة في الماضي، لذلك فإن الدراسات المستقبلية يمكن أن تتعامل مع المستقبل باعتباره نتيجة كفاح ممتد، وصراع بين قوى مختلفة، وهذا ما يطلق عليه جين أندرسون "تاريخ المستقبل"، وهو مفهوم جديد يمكن أن يفتح لنا مجالات للتعاون بين العلوم المختلفة لتطوير هذه الدراسات، وإخراجها من مجال التوقعات.

إن بناء المستقبل يعتمد ليس فقط على قراءة التاريخ وكتابته، ولكن يعتمد على تحويل التاريخ إلى فاعل في حياة الأمم، يثير خيال قادتها وشبابها، و يحفزهم للتأثير على الأحداث.

رؤية تاريخية للمستقبل

إن قراءة التاريخ بعمق تفتح مجالات بناء رؤية للمستقبل، وتزيد إمكانيات توقع أحداث المستقبل، وأزماته وتحدياته على ضوء الخبرة التاريخية، لذلك فإن القيادة التي تفتقد المعرفة التاريخية لا تستطيع بناء رؤية للمستقبل، أو التأثير على الناس لتحقيق التغيير.

كما إن الوعى بالتاريخ يسهم أيضا في تنشئة الأجيال التي تصنع المستقبل، فمن التاريخ تتعلم الأجيال كيف تواجه التحديات، وتتوصل إلى حلول للمشكلات، وتبني العلاقات مع الدول على أساس المبادئ والقيم، وليس على أساس المصالح المتغيرة وحدها.

لذلك فإن الدولة التي لا تقوم بتدريس التاريخ في مدارسها وجامعاتها بأساليب تثير خيال المتعلمين، وتزيد قدرتهم على بناء الرؤية والقيادة والتفاعل مع الأحداث، لا تستطيع أن تبني مستقبلها أو تحقق أهدافا طويلة المدى، وكل ما تستطيع أن تفعله هو الخضوع للواقع، والعمل لتحقيق الاستقرار، حتى تأتي الأحداث في المستقبل فتقضى عليها.

لذلك فإن بناء المستقبل يعتمد ليس فقط على قراءة التاريخ وكتابته، ولكن يعتمد على تحويل التاريخ إلى فاعل في حياة الأمم، يثير خيال قادتها وشبابها، و يحفزهم للتأثير على الأحداث.

من أين يأتي الحلم؟

الدول تبني مستقبلها على تحفيز شعبها لتحقيق حلم يتم صياغته من كفاح طويل، ويتم توحيد الشعب حول رموز ساهمت في تحقيقه، ويأتي نموذج جنوب أفريقيا كشاهد على صحة ذلك، حيث ظل نيلسون مانديلا يعبر عن حلم شعبه في إسقاط التفرقة العنصرية وبناء الدولة على أساس المساواة، وظل في زنزانته عشرات السنين رمزا لكفاح شعبه، وللحلم المستحيل الذي تحقق، فخرج من السجن ليصبح رئيسا لجمهورية يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية، وتصبح فيها التفرقة العنصرية درسا من التاريخ يعمل الجميع معا على مقاومته، ورفضه، ومنع إمكانية العودة إليه.

والأحلام الكبيرة التي يتوحد الشعب لتحقيقها تنبع من التجربة التاريخية وكفاح الشعب، ولتحقيق هذا الحلم يتم التوافق على مجموعة من المبادئ والقيم التي تحمى الحقوق وتضمن العدالة.

عندما يصبح هدف دولة هو تحقيق الاستقرار، فإنها تفقد قدراتها على التطوير وتحقيق التنمية، وزيادة قوتها السياسية والاقتصادية والثقافية، فتنهار الدولة

حماية الاستقرار.. لماذا؟

هناك الكثير من الدول التي يكون هدفها الوحيد هو حماية الاستقرار، وهذا يعني منع التغيير، والتقليل من إمكانيات الابتكار، وتقديم حلول جديدة للمشكلات.

لكن التاريخ يوضح أن الاستقرار لا يمكن أن يتحقق إلا بالاتفاق على منظومة من المبادئ، والقيم التي كافح الشعب للتمسك بها.

لذلك فإن هدف الاستقرار لا يمكن أن يتحقق بدون وعي بالتاريخ، وتحويله إلى فاعل في حياة الشعب. فالتاريخ يوضح لنا أن المجتمعات الإنسانية في حالة تغيير مستمر، ولا يمكن أن يتحقق الاستقرار لأي دولة. وعندما يصبح هذا الاستقرار هو هدف الدولة فإنها تنهار في مواجهة أحداث لا تكون مستعدة لمواجهتها.

وعندما يصبح هدف دولة هو تحقيق الاستقرار، فإنها تفقد قدراتها على التطوير وتحقيق التنمية، وزيادة قوتها السياسية والاقتصادية والثقافية، فتنهار الدولة. والتاريخ يوضح أن الذين يريدون الاستقرار والمحافظة على الوضع الراهن، هم الذين يستفيدون من بقاء هذا الوضع، وعادة ما تكون نخبة فاسدة جاهلة مغرورة تريد الحفاظ على مصالحها، وفي الكثير من الأحيان تكون تابعة للاستعمار، ومنفصلة عن تاريخ الأمة، وترفض تحقيق أهداف طويلة المدى مثل الاستقلال الشامل والديموقراطية والاكتفاء الذاتي والتنمية.

وهذه النخبة التي تريد الاستقرار تفضل الحلول السهلة للمشكلات مثل الاقتراض المستمر أو فرض الضرائب على الشعب، والجباية وعدم الإنفاق على الصحة والتعليم.

أرى أن من أهم أسباب التقدم وبناء المستقبل أن تقوم الجامعات العربية بإنشاء أقسام للدراسات المستقبلية، يحتل فيها التاريخ مكانته في بناء الأسس العلمية للتخطيط للتغيير، وقيادة كفاح الشعوب للحرية والاستقلال الشامل.

التاريخ وقيادة التغيير

التاريخ يوضح أن المحافظة على الاستقرار يؤدي إلى زيادة حدة المشكلات، وتفاقم الأزمات، وزيادة كراهية الشعوب للسلطات، وفي النهاية تندلع الثورات.

لذلك فإن القيادات التي تمتلك المعرفة المتعمقة بالتاريخ هي التي يمكن أن تقود التغيير بكفاءة، وتوحد شعوبها حول حلم يتم الكفاح من أجل تحقيقه، فيتم تماسك المجتمع، وتحقيق الاستقرار.

لذلك فإن العالم يحتاج إلى تطوير الرؤية التاريخية للمستقبل، والاهتمام بدور التاريخ في الدراسات المستقبلية، لتشعل تلك الدراسات للشعوب الطريق لتحقيق أحلامها الكبرى، ولتحمي البشرية من الدمار الذي تسوقها له الرأسمالية والاستبداد والنخب الفاسدة التي فقدت القدرة على التعلم من التاريخ، واكتفت بغرورها الناتج عن الجهل.

لذلك أرى أن من أهم أسباب التقدم وبناء المستقبل أن تقوم الجامعات العربية بإنشاء أقسام للدراسات المستقبلية، يحتل فيها التاريخ مكانته في بناء الأسس العلمية للتخطيط للتغيير، وقيادة كفاح الشعوب للحرية والاستقلال الشامل.

ودراسة التاريخ الإسلامي يسهم في زيادة قدرة الأمة على بناء مستقبلها، وتأهيل القادة لتقديم مشروع حضاري جديد يحقق للشعوب العدل والحرية، حيث أصبحت كل شعوب العالم تحتاج إلى هذا المشروع. فمشروع التنوير الأوروبي ارتبط بالاستعمار والظلم وقهر الشعوب والسيطرة ونهب الثروات.

أما الأمة الإسلامية فإنها تملك تاريخا يمكن أن يشكل أساسا لبناء مجتمع المعرفة، وقيادة الشعوب لتتحرر من الاستعمار وبناء عالم أكثر عدلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.