شعار قسم مدونات

طوفان يواصل جرف الأوهام وكشف الزيوف

دبابة إسرائيلية محترقة في مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول (الجزيرة)

روى أحمد وابن حبان وغيرهما عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ليس الخبر كالمعاينة، إِن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا، ألقى الألواح فانكسرت.

وهذا الحديث لا خلاف حول جانب مما أفاده، بأن المرء إذا عاين الشيء ولمسه وعايشه يكون حاله وسلوكه مختلفا عما إذا كان قد سمع أو قرأ، وفي المثل الشعبي المتداول (الحكي مش زي الشوف!)

نعلم أن درجة الحرارة في سيبيريا شديدة البرودة خاصة في الشتاء، ولا نشك في ذلك، مما نرى عبر وسائل الإعلام المختلفة، ومما نسمع ممن ذهب إلى هناك وشعر جسده بالزمهرير؛ مثلما نعلم أن درجة الحرارة في مناطق صحراوية في جزيرة العرب مثلا، مرتفعة صيفا، بذات الطريقة التي نعلم عن برودة سيبيريا.

ولكن كل ما سمعناه وقرأناه لا يقارن بدقائق تعرضنا إلى حمارة القيظ أو صبارة القر في تلكم المناطق؛ فليس الخبر كالمعاينة…أليس كذلك؟

الغرب لم يترك فرصة إلا وأكد قولا وفعلا أنه لن يسمح بأن يحوم أي تهديد وجودي حول إسرائيل، وأن ما يمس إسرائيل دون ذلك أيضا، سيدفعه عنها بكل ما لديه من أدوات القوة.

إسرائيل.. المملكة الصليبية العصرية

لم يغب عن ذهني يوما أن إسرائيل هي قلعة صليبية عصرية، وقاعدة -على هيئة دولة- متقدمة للإمبريالية الغربية، والمتجسدة خاصة بالولايات المتحدة الأميركية، وشركائها مثل بريطانيا وفرنسا.

فقد كان هناك ما يكفي من الدلالات والمؤشرات بل المعطيات المادية الملموسة التي تؤكد على هذه الحقيقة.

إلا أن عملية طوفان الأقصى في 7-10-2023م والحرب الشرسة على قطاع غزة المحاصر، والتي رافقتها منذ اليوم الأول حالة استنفار غربي(أميركي خاصة) لدعم وإسناد الكيان العبري بكل الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادية، جعلت النظرية تطبيقا واقعيا لا يرقى إليه الشك، فثمة من يشكك ويرى أن إسرائيل بمجموعة من الأدوات السياسية والعلمية حازت على الرضى الأميركي، ويمكن للعرب أن يحلوا مكانها!

وصولا إلى ما رأينا قبل وأثناء وبعيد الصدام المباشر الأول بين إيران وإسرائيل؛ حيث أن الغرب لم يترك فرصة إلا وأكد قولا وفعلا أنه لن يسمح بأن يحوم أي تهديد وجودي حول إسرائيل، وأن ما يمس إسرائيل دون ذلك أيضا، سيدفعه عنها بكل ما لديه من أدوات القوة.

إسرائيل.. كي لا ننسى

طبعا مع التذكير الضروري أن إسرائيل بحد ذات وجودها على أرض فلسطين أصلا تمثل حالة عدوانية مستفزة، وتجسيدا لكل ما ينقض الأعراف والقوانين الدولية التي صاغها الغرب وفرضها على العالم، ولكنه يستثني بصلف واستكبار، هذه الدولة-القلعة أو المملكة الصليبية العصرية.

فكيف وقد أضيف إلى وجود مسنود بحق القوة، لا بقوة الحق لهذه الدولة، ممارسات بشاعتها تنقل عبر الشاشات على مدار الساعة، من قتل المدنيين، وتدمير المنازل، والتنكيل بشعب أعزل.

وفي ملف إيران فإن قنصليتها في دمشق تعرضت لعدوان علني من إسرائيل تسبب في قتل مسؤولين، ولك أن تتخيل لو أن طائرات إيرانية قصفت سفارة أو قنصلية إسرائيلية في عاصمة ما، كيف سيكون رد الفعل الغربي.

 

عودة إلى تاريخ الاحتشاد الأوروبي

فالأحداث الأخيرة جعلتنا نشعر وكأننا أمام احتشاد الأوروبيين خلف ريتشارد قلب الأسد للانتقام من الأيوبيين، أو تكتلهم في زمن لاحق لحرب السلاجقة ثم العثمانيين.

وكأن كل المواثيق والقوانين الدولية، والأطر الناظمة للعلاقات بين الدول التي صيغت وفرضت في العصر الحديث خاصة في القرنين الأخيرين، وحتى مفهوم الدولة الوطنية وما يتضمن من خصوصية، كلها قد ذابت وتلاشت، وظهرت حقيقة الصراع عارية بقباحة ووحشية، وقد ضخ التعليم والإعلام طوال عقود أن البشرية وبالذات الأمم الغربية قد تركت تلك العقلية وخرجت من أسر غريزة عززها(عصر الظلام) وانتقلت إلى مرحلة من الاحتكام والخضوع إلى مواثيق وقوانين.

هي خلاصة تجارب من الحروب والصراعات والمجاعات وانعدام الأمن، وقد ركزوا كثيرا على حقوق المرأة والطفل والعدل والمساواة.. إلخ. ولكن خلال أشهر قليلة انهارت هذه الصورة النمطية التي حرصوا على ترسيخها في عقولنا.

قبل الطوفان كان هناك ظن أن ارتباط برلين وطوكيو بالسيد الأميركي هو رمزي يتمثل في قواعد عسكرية، ثمة مطالبات بإزالتها، خاصة في اليابان.

ولكن بعد طوفان الأقصى ظهر أن استقلال الدولتين، ومثلهما دول أخرى كثيرة ومنها دول عربية طبعا، شكلي أو محدود.

استقلال مشكوك فيه

هل كنا بحاجة إلى عشرات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى في غزة كي لا يبقى في عقولنا وقلوبنا ذرة شك بما سبق ذكره؟بالنسبة لشرائح لا يستهان بها من الناس:نعم، مع بالغ الأسى.

وذات المجازر في غزة أثبتت بوضوح أن هناك دولا كبيرة، هي عمالقة في الاقتصاد والصناعات والتقنية، ومنظومة الحكم و(الحوكمة) مميزة فيها، لم تنل استقلالا حقيقيا وما تزال تحت هيمنة أمريكية تامة، فيما يخص السياسة الخارجية، وأن ما كان يقال عنها كنموذج يجب على العرب محاكاته وتقليده، كان سرابا خادعا.

وكي لا يظل الكلام عاما؛ نموذج ألمانيا ونموذج اليابان، وهما نتاج هزيمة شاملة في الحرب العالمية الثانية، وقد غزت صناعتهما معظم أرجاء المعمورة، بما في ذلك من يهيمن عليهما (أميركا)، وجمح الخيال العربي الخصب ناسجا سيناريو تقوم فيه اليابان بمباغتة أميركا باستعادة قوتها العسكرية التي دأبت على بنائها سرا -حسب السيناريو- وتجتمع لديها قوة العلم والتكنولوجيا مع قوة السلاح فتسود العالم بدل أميركا.

أما ألمانيا، فقد طالبت بعد إعادة توحيدها، وهو توحيد تم بمباركة أميركية مطلقة، بمقعد دائم في مجلس الأمن، تلتحق بموجبه بـ(الخمسة الكبار) وذاب الطلب طبعا.

ولكن قبل الطوفان كان هناك ظن أن ارتباط برلين وطوكيو بالسيد الأميركي هو رمزي يتمثل في قواعد عسكرية، ثمة مطالبات بإزالتها، خاصة في اليابان. ولكن بعد طوفان الأقصى ظهر أن استقلال الدولتين، ومثلهما دول أخرى كثيرة ومنها دول عربية طبعا، شكلي أو محدود.

فما معنى فرض اليابان عقوبات مالية على قادة حماس، وهي تعلم أنهم حتى في غزة التي يقطنون فيها ليس لديهم مصالح اقتصادية ومالية؟

الخطوة رمزية وتأكيد ياباني رسمي على التبعية لواشنطن. وألمانيا وتضييقها على الفعاليات المتضامنة مع غزة ليست بعيدة عن ذات التأكيد باللغة الألمانية.

اكتشافات ثمنها باهظ

ما ذكرناه غيظ من فيض لما كشفته أمواج هذا الطوفان المستمر؛ من تهاوٍ وانهيار منظومة الأفكار والنظريات التي روّجها الغرب، وقوانين ومواثيق وضعها وزعم التزامه بها، ثم داسها جهارا نهارا، ومركزية إسرائيل في السياسة الغربية واعتبارها(بقرة مقدسة) دونها حروب ودماء وأموال تنفق، وزيف استقلال القرار لدى دول وكيانات شتى.

وما زلنا نكتشف ونرى ونلمس كثيرا من التداعيات، والتي بح صوتنا ونحن نشير لها، فلم ترها أعين طوائف من الأمة إلا عبر أشلاء ودماء  أهل غزة.

 

 

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.