مستقبل العمل المسلح في العالم العربي

 
 

ميخائيل عوض

في الصراع العربي الصهيوني والصراع مع  المستعمرين جرب العرب والمسلمون جميع الوسائل، وخضعوا لشتى الاختبارات، وصعدت في صفوفهم تيارات مختلفة، من الدعوة للسلاح طريقا وحيدا لتحرير الأرض والإرادة إلى الداعين للتفاوض وتفويض الغرب والأمم المتحدة وتمرير الصفقات.

المقاومة.. آخر الدواء الكي
خيار السلاح ومحاولات الحصار

المقاومة.. آخر الدواء الكي

"
بعد تحرير جنوب لبنان صارت المقاومة قوة نموذج تقاطع مع ما حققته المقاومة ضد السوفيات في أفغانستان، وما اختزنته التجربة الفلسطينية على مدى قرن، لتثمر انتفاضة الأقصى وتحولها إلى السلاح
"

على مدى ثلاثة عقود ونيف هيمن خيار التسوية والتفاوض بديلا عن خيار السلاح الموصوف "بالمكلف والعاجز" مستثمرا في حالة الإحباط، وتفكك النظام الرسمي العربي والتوازنات الدولية، وفي تردي وانهيار منظومة القيم الوطنية والقومية، وانحسار حركة التحرر العربية، والحروب الأهلية، وفي المغامرات العراقية في الحرب مع إيران، ثم في غزو الكويت.

أخفق خيار السلاح بقيادة الأنظمة، وعبر الجيوش النظامية، وفشلت منظمة التحرير ونموذجها الإشكالي، ثم اختبر وأخفق خيار التصالح والتسويات، وانتهى إلى نتائج مأساوية.

تصاعدت وتنوعت الغزوات الأجنبية لأوطان العرب والمسلمين" العودة لتجربة الاستعمار المباشر" والسيطرة على الثروات، وإدارة النظم واختراقها، واستهداف العرب والمسلمين في أديانهم وحضارتهم وطبيعتهم، وأعلنت الحروب عليهم ظلما وعدوانا، وتبخرت وعود الدولة الفلسطينية والتسوية العادلة والشاملة للصراع العربي الصهيوني، وتعطلت المفاوضات وتحولت إسرائيل حديا إلى اليمين وهيمن الليكوديون على البيت الأبيض ومؤسسات السلطة الأميركية، فانتفت إمكانية التفاوض، أو إلزام إسرائيل بأي من التعاقدات والقرارات الدولية.

بينما ذلك جار على قدم وساق كانت تعتمل في صفوف النخب العربية والإسلامية الشابة والمتعلمة، وفي إرادة الشعوب وقواها الحية، خيارات ورؤى جديدة على رأسها الاحتكام للسلاح الشعبي، والاشتباك المباشر دون توسط النظم وأجهزتها " مقاومة الاحتلال في لبنان- الانتفاضة الفلسطينية  1987″.

ونجحت سوريا وإيران في تشكيل قوة ممانعة أسهمت في توفير البيئة لدعمها واحتضانها، فتقدمت بثبات وتؤدة، وبدأت تنتزع انتصارات وحضورا مشهودا" تفاهم نيسان 1996- وتأسيس حركة حماس والجهاد في فلسطين".

بعد تحرير الجنوب اللبناني صارت المقاومة قوة، نموذج تقاطع مع ما حققته المقاومة ضد السوفيات في أفغانستان" هزيمة أعتى إمبراطوريتين"، وما اختزنته التجربة الفلسطينية على مدى قرن، لتثمر انتفاضة الأقصى وتحولها إلى السلاح وإتقان استخدامه وتصنيعه، في تجربة نوعية في طبيعتها وعناصرها وتصميمها، فغدت عناصر تحفيز للمقاومة في العراق التي نجحت في مدة قياسية في إسقاط مشاريع المحتل وخططه وأدواته وأوقعته في حالة استنزاف مفتوحة.

بواقع التجربة العملية يمكن الجزم بأن لجوء العرب والمسلمين للسلاح لم يكن نزوة أو مغامرة أو استجابة لشعارات أو تقليدا لنموذج، بل صار الخيار الوحيد بعد أن جربت الخيارات كلها واستنفذت مشروعيتها.

المقاومة ظاهرة متكررة 
يقول المثل "الثالثة ثابتة"، وفي علوم التاريخ يقال تكرار الظاهرة لمرات ثلاث يجعلها قانونا، أي سمة لمرحلة، وفي الواقع تتكرس النتائج مؤكدة للمقولات.

فالمقاومة بما هي عمل مسلح غير نظامي حققت إنجازات نوعية ملموسة، ما جعلها بين فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان بمثابة القانون الناظم والمتحكم في الظاهرة والمتغيرات الجارية في المنطقة وتوازنات قواها.

بل وتتعدى ذلك لتصبح استثمارا عمليا لدول ولأمم ساعية إلى قطبية إقليمية ودولية، تفيد من المأزق الحرج الذي صنعته المقاومات العربية والإسلامية للمشروع الأميركي-الأوروبي.

فاستثمرت إيران ونجحت في تقرير دورها وانتزاعه، وتسعى روسيا والصين للإفادة وتستعجل دورا متحررا من التبعية لواشنطن وباريس في العالم والمنطقة.

وتتقدم تجربة الصومال كتأكيد عملي إضافي لهذه الحقائق، بالتقاطع مع الجاري في دارفور وإعلان الرئيس السوداني اعتماد خيار المقاومة، وقد سبقه الرئيس الأسد على مدرج جامعة دمشق في مواجهة الضغوط وقرارات مجلس الأمن، وأعقبه إعلان الشيخ أسامة بن لادن كلا من  أفغانستان والعراق والصومال ساحات جهاد لمنظمته وحضور القاعدة في فلسطين ومحيطها.

خيار السلاح ومحاولات الحصار

"
الأضرار والمخاطر التي تترتب على خيار المقاومة المسلحة أقل كلفة وأقصر زمنا من الخيارات الأخرى، هذه خلاصة التجربة على مدى قرن ونيف، فالعرب والمسلمون مستهدفون وأوطانهم محتلة وإرادتهم مغتصبة قبل أن تكون لهم مقاومة
"

تتعرض تجربة العمل المسلح بطابعها وطبيعتها ونسختها المنقحة الجديدة ذات السمة والروح الإسلامية إلى الحصار ويجري التشكيك بها.

وتقوم محاولات محمومة متوازية متشعبة الاتجاهات والأبعاد تشترك فيها قوى إقليمية ودولية ومحلية، وتستخدم فيها جميع الأسلحة وعلى رأسها غير المشروعة، مثل الخطف والاعتقال، (84 ألف معتقل عربي ومسلم بعد 11 سبتمبر/ أيلول)، والمنع من السفر (86 ألفا تحت الرقابة وممنوعون من السفر بين المطارات وخطوط الطيران) والحصار المالي ومصادر التسليح.

كما تقوم بحرمان المقاومة من منصات إعلامية، وإقفال ساحات الاحتضان وتشويه السمعة واتهامها بالإرهابية وارتكاب أفعال مشينة باسمها وتحريض شارعها عليها، ومحاولة تحميلها مسؤولية الحروب الأهلية بدفع من القوى الاستعمارية لتمرير إستراتيجية الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الواسع، وتسعير الفتن بين أطياف الأمة لتحقيق إستراتيجية فك وإعادة تركيب المنطقة بما يتساوق مع المصالح القومية الأميركية.

ويسهم في هذا الجهد كثير من المثقفين العرب والمسلمين، والوسائل الإعلامية، وقطاعات وأحزاب ونظم، وتجتمع إرادة المتضررين من شتى الأطياف والكتل وتتحد في عمل منسق لإسقاط المقاومة اللبنانية تحت ذريعة سحب سلاحها وانتهاء وظيفتها.

ويشتد الحصار والتآمر على المقاومة الفلسطينية رغم حيازتها على أكثرية أصوات الشعب الفلسطيني، وتستجير أميركا بقوى ونظم لتوريط العرب والمسلمين في مواجهة المقاومة العراقية، وتعلن استعدادها للتفاوض مع إيران، وتسعى لتوريط باكستان ضد المقاومة الأفغانية التي تصاعدت بمعدلات هامة.

غير أن المقاومات أكدت في واقع حركة الصراع أنها حيوية متحفزة قادرة على الصمود وحل مشكلاتها وتطوير أدائها وزيادة مفاعيل تأثيرها في الشارع العربي والإسلامي، وقادرة على الاستثمار في المأزق الإمبريالي وهز استقرار العروش والنظم المتعاقدة والمتطوعة في خدمة المشروع الأميركي الإسرائيلي.

يتبدى ذلك في قدرة المقاومة الفلسطينية على تأمين السلاح والمال وخوض معركة الدفاع عن غزة وتحويلها إلى قاعدة محررة لاستمرار المقاومة وتطويرها، على أنها الخطوة في طريق الألف ميل وإسقاط خريطة الطريق ثم إسقاط إستراتيجية الانسحاب من طرف واحد ومشروع تحويل غزة إلى الدولة الفلسطينية المحتربة.

ونجحت المقاومة اللبنانية في تنفيذ عمليات هجومية نوعية وأسر جنود ومستوطنين، وفرض خيار التفاوض لإطلاق الأسرى ووقف العدوان، ولجم الاعتداءات الإسرائيلية والمساهمة في كشف شبكات الموساد، وتثبيت الوحدة والاستقرار اللبناني، وتأزيم المشروع الفرنسي الأميركي واستنزافه، والتمسك بسلاحها، وحماية السلاح الفلسطيني في لبنان، والتملص من قرارات مجلس الأمن، ونقل الأزمة إلى فريق 14 آذار.

كما نجحت المقاومة العراقية في الاستمرار، ونجحت في إفشال العملية السياسية والانتخابات وتشكيل الحكومة، وأسقطت إستراتيجية عرقنة الصراع، بعد أن أفشلت التدويل والتعريب والأسلمة، ويتطور أداؤها كما ونوعا وتدخلها قوى جديدة "في شريط المقاومة الإسلامية- كتائب أبو الفضل العباس" والتحولات الجارية في مناطق الجنوب رفضا للاحتلال الأميركي وممارساته وأدواته.

في واقع الحال وكنتيجة عملية لما هو جار من حراك، تتزايد حالة العداء العربية والإسلامية الشعبية والعالمية للإدارات الأميركية والأوروبية، وتتجذر فكرة وتجربة السلاح المقاوم.

والمقاومة تحقق مكاسب رغم الأزمات والحصار وشدة التآمر عليها، ورغم ارتكاب بعض فصائلها أخطاء قاتلة كالاحتراب "النموذج العراقي والفلسطيني، وما سبق في النموذج اللبناني"، رغم ذلك صارت وسيلة أساسية موثوقة تتبلور كمشروع وأمل لدى العرب والمسلمين وتشكل واحدة من أكبر رهاناتهم لتحقيق مصالحهم ومكانتهم.

فالمقاومة ليست حالات منعزلة أو خيارات جزئية لفصائل تمردت، بل تحولت إلى محفز للشعوب وتعبير عن إرادتها، ونموذجا تضطر النظم العربية لتقليديها واعتمادها، وتحولت بإرادة الشارع إلى إدارة النظم أو باتت شريكا فيها، بما في ذلك النظام الرسمي العربي" سوريا والسودان وفلسطين ولبنان والصومال والعراق يتقدم بهذا الاتجاه".

هل للعرب من خيارات أخرى؟

"
الأضرار والمخاطر التي تترتب على خيار المقاومة المسلحة أقل كلفة وأقصر زمنا من الخيارات الأخرى
"

لا شيء في الأفق يرشح ذلك ولا نتائج من تجارب الماضي، وإلا لما كانت مقاومة، ما حققته المقاومات يعزز مكانتها كخيار وتتسع دائرة فاعليته، ويستقطب المزيد من الكتل، وتتحول إليه إرادة الشعوب ونخبها الوطنية، ويتمثل عمليا كتأسيس لمشروع النهضة.

الأضرار والمخاطر التي تترتب على خيار المقاومة المسلحة أقل كلفة وأقصر زمنا من الخيارات الأخرى، هذه خلاصة التجربة على مدى قرن ونيف.

فالعرب والمسلمون مستهدفون وأوطانهم محتلة وإرادتهم مغتصبة قبل أن تكون لهم مقاومة، والعمل المسلح هو رد فعل عفوي واع على الاستهداف والاحتلال.

فلو لم تحتل فلسطين وبيروت والعراق لما كانت المقاومة، ولو تركت أفغانستان تداوي جراحها بنفسها لما كانت المقاومة، ولو ترك الصوماليون يقررون شؤونهم بإرادتهم لما كانت حالة التذرر والاحتراب التي أنتجت ظاهرة المحاكم الشرعية، ولو أن أميركا وحلفاءها لم يفتعلوا قضية دارفور طمعا بنفطها وثوراتها لما كان قرار بالمقاومة.

قد ينتقص من المقاومات أنها تنجح في إنجاز الشق السلبي من مشروع التحرر الوطني أي تأزيم العدو، ومنع الاحتلال من تنفيذ مشاريعه واستنزافه، ولم تبلغ بعد مرحلة إنتاج مشروع متكامل للنهضة القومية، وتخليق بيئات حاضنة كجبهة تحرر وطني قومي، وخلافه.

والصحيح أن المشروع النهضوي التحرري هو مشروع الأمة بمختلف تلاوينها وكتلها الاجتماعية وليس محصورا بفعل المقاومة المسلحة، التي تشكل قاعدة الارتكاز والمحفز لتوليد العناصر الضرورية لإطلاق مشروع النهضة وقيام الأمة، ومقاوماتنا العربية تلعب هذا الدور بامتياز.
_______________
صحفي لبناني

المصدر : الجزيرة