تحقيق خاص

كيف صار القذافي حليف الاستخبارات الغربية؟

كشف برنامج “تحقيق خاص” الاستقصائي في فيلمه “القذافي والغرب” كيف تورطت دول غربية في خطف معارضين ليبيين وتسليمهم لسجون طرابلس المرعبة، مقابل تقديم القذافي خدمات استخبارية وبالطبع صفقات تجارية بالمليارات.

مع سقوط نظام معمر القذافي تكشفت خيوط جديدة لملف قديم وهو اختطاف معارضي النظام في عدد كبير من دول العالم وتسليمهم لطرابلس، حيث السجون التي قل نظيرها في القسوة والدموية.

في الفيلم الوثائقي الاستقصائي "القذافي والغرب" -ضمن سلسلة "تحقيق خاص" والذي بثته الجزيرة الأحد (2017/1/29)- نقف أمام قصص وتفاصيل اختطاف معارضي القذافي في عدد كبير من دول العالم، وكيفية نقلهم إلى ليبيا.

لا يقل أهمية عن ذلك وثائق سرية للأمن الليبي حصل عليها فريق الجزيرة بشكل حصري، تظهر تورط عدد من الحكومات الغربية وحلفائها في المنطقة بعمليات الخطف والتسليم، في تناقض صارخ مع المواثيق الدولية التي تمنع تسليم المعارضين للأنظمة القمعية.

لكن ذلك لم يكن ليحصل دون تحولات جذرية خضع فيها القذافي لكامل الشروط الغربية، تحت ضغط مخاوفه أن يلقى مصير الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.

عبر القذافي عن ذلك مرارا وخصوصا في القمة العربية بدمشق 2008، حين قال "تيجي دولة أجنبية تحتل دولة عربية وتشنق رئيسها واحنا نتفرج عليهم ونتضحك".

القذافي دعم حملة ساكوزي بخمسين مليون يورو ضمن حملته لنيل القبول الأميركي والأوروبي (الجزيرة)
القذافي دعم حملة ساكوزي بخمسين مليون يورو ضمن حملته لنيل القبول الأميركي والأوروبي (الجزيرة)

إثر أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، جرى التضييق على الجهاديين العرب في باكستان وتسليمهم لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي أي).

إحدى أخطر قضايا التسريب ما تعرض له ابن الشيخ الليبي الذي وجد لاحقا صريعا داخل زنزانته في ليبيا، بعد أن انتزعت منه اعترافات تحت التعذيب اتخذت مبررا لغزو العراق.

سلم ابن الشيخ للأمن الليبي بواسطة القوات الأميركية في أفغانستان عبر رحلة سرية إلى مطار معيتيقة في طرابلس، لكن الصور الحصرية لجثته تضع علامات شك كبيرة حول فرضية انتحاره.

تقول الحقوقية لورا بيتر من منظمة هيومن رايتس ووتش إنها من أكثر القضايا إزعاجا. فقد اعتقلت الولايات المتحدة ابن الشيخ بشكل غير قانوني في السجون المصرية، وعذب بوحشية، وأفضى ذلك التعذيب إلى معلومات استخبارية مغلوطة استخدمت ذريعة للذهاب إلى حرب العراق.

على مدى خمس سنوات تنقل ابن الشيخ بين سلسلة من سجون التعذيب السرية حول العالم، بدءا من أفغانستان إلى مصر وعودة إلى أفغانستان ثم المغرب وغوانتانامو فألاسكا، وصولا إلى أوكرانيا.

‪لورا بيتر: ابن الشيخ عذب بوحشية وانتزعت منه اعترافات مغلوطة لتبرير غزو العراق‬  (الجزيرة)
‪لورا بيتر: ابن الشيخ عذب بوحشية وانتزعت منه اعترافات مغلوطة لتبرير غزو العراق‬ (الجزيرة)

ويقدم الفيلم تقريرا للأمن الليبي يوثق فيه لقاء مع الـ"سي آي أي"، ويظهر أن ما كان يهم الإدارة الأميركية قبل غزو العراق هو ضمان ترتيبات الغزو ومن ضمنها ردود فعل الحليف الليبي الجديد ومساهمته.

بعد الاحتلال الأميركي للعراق ألقى النظام الليبي بكل أوراقه وسلم برنامجه النووي البدائي السري طوعا للولايات المتحدة، عربونا لقبوله في نادي مكافحة الإرهاب.

وكانت المكافأة سريعة بتوقف الحديث عن الدكتاتورية الليبية كجزء من محور الشر، وبتدشين أكبر برنامج دولي باختطاف المعارضين وتسليمهم لنظامه الدموي.

توالت مباشرة أخبار الصفقات المليارية بين الشركات الغربية والنظام الليبي، وهي الصفقات التي حاولت الحكومات والشركات الغربية إخفاء خيوطها.

نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش في 2012 تقريرا مطولا تؤكد فيه تورط عدة حكومات غربية بتسليم معارضين للقذافي، مع وثائق يشكر فيها رئيس جهاز الأمن الخارجي الليبي موسى كوسا نظراءه الغربيين على "تسلّم البرتقال" الذي أرسلوه له عبر الطائرات العسكرية السرية.

لم يقتصر الدفق المالي الليبي لحكومات الغرب على العقود المليارية الحصرية للشركات البريطانية والأميركية، بل تعداه إلى الدعم المباشر.

‪بريطانيا عرضت على بلحاج 2.2 مليون جنيه ورفضت الاعتذار عن خطفه‬ (الجزيرة)
‪بريطانيا عرضت على بلحاج 2.2 مليون جنيه ورفضت الاعتذار عن خطفه‬ (الجزيرة)

حصل ذلك مع الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي والتي دعمها القذافي بخمسين مليون يورو، وتم استقباله بعدها ضيفا كبيرا في عدة عواصم أوروبية بعد سنوات طويلة ظل يوسم فيها بالدكتاتور الدموي.

في عام 2011 بعد أن تحررت طرابلس، وجد بعض ناشطي حقوق الإنسان وثائق قيمة لا تصدق في مكتب موسى كوسا حول اختطاف الاستخبارات البريطانية عبد الكريم بلحاج وزوجته الحامل وأيضا سامي الساعدي وزوجته وأولاده الأربعة من آسيا وتسليمهم للقذافي.

يقول عبد الحكيم بلحاج -وهو من قيادات الجماعة الليبية المقاتلة سابقا- "الأميركان في تقديري بعد 11 سبتمبر دخلوا في مرحلة هستيرية وأرادوا ضربة استباقية.. فصنفوا كثيرا من الشخصيات والتنظيمات والجماعات في قائمة الإرهاب".

رغم أقسى أساليب التحقيق والتعذيب المستخدمة، ثبتت براءة بلحاج والساعدي من تهم الإرهاب الدولي، مما اضطر الحكومة البريطانية لعرض تسوية، ليشكل ذلك اعترافا ضمنيا بمسؤوليتها عن الخطف والتعذيب.

عرضت بريطانيا مبلغ 2.2 مليون جنيه إسترليني على بلحاج، غير أنه رفض التسوية المالية وطالب فقط بثلاثة جنيهات واعتذار رسمي من الحكومة.

رفضت الحكومة البريطانية الاعتذار، وتقول كوري كرايدر المحامية في منظمة ريبريف الحقوقية إن الاعتذار يحمل خطورة في أن يتعرض موظفو بريطانيا السابقون في جهاز الاستخبارات والمتورطون في الاختطاف للمحاكمة، وربما يسجنون.

وتضيف "لا يوجد حرج أكبر من أن يقوم جهاز الاستخبارات البريطاني باختطاف امرأة حامل وإرسالها لدكتاتور مثل القذافي. لا يوجد ما هو أسوأ من ذلك".

الحكومتان الأميركية والبريطانية كانتا الأكثر ضلوعا في خطف المعتقلين وتعذيبهم، لكن أثناء بحث فريق الفيلم وجد أن الحكومة الكندية ضالعة أيضا في برنامج اختطاف المعارضين وبشكل أكثر خطورة.

‪كرايدر: لا يوجد حرج لبريطانيا أكبر من خطفها امرأة حاملا وتسليمها لنظام القذافي‬ (الجزيرة)
‪كرايدر: لا يوجد حرج لبريطانيا أكبر من خطفها امرأة حاملا وتسليمها لنظام القذافي‬ (الجزيرة)

إن من اختطفته كندا وسلمته للقذافي هو الليبي مصطفى كرير الذي يحمل جنسيتها، وتعاونت الحكومة الكندية في مراقبته ومن ثم تسليمه بعد فصول طويلة من محاولات ربطه بالإرهاب لم يثبت منها شيء.

أما إبراهيم بوصير الناشط الليبي في منظمات خيرية أوروبية، وهو ذو سجل محترم معروف بدوره الاجتماعي ومحبوب في محيطه؛ فاستمرار حصاره رغم عدم ثبوت أي تهمة ضده وخضوعه للمراقبة والمداهمات والاعتقال عدة مرات ووضعه تحت الإقامة الجبرية ومنعه من السفر وغير ذلك.

هذا الملف المفتوح ما زال فيه سؤال كبير، لا عن نظام القذافي ودمويته، وإنما عن الحكومات الغربية التي لديها الكثير مما تخفيه ويتناقض تماما مع دعواها حول حقوق الإنسان وضمان حرية المعارضين السياسيين.

أما البحث الذي بدأ باقتفاء ضلوع الاستخبارات الأميركية والبريطانية وحلفائهما في عمليات الاختطاف والتعذيب، فقد انتهى إلى جملة انتهاكات صادمة وموثقة بالشهادات تصل حد اختطاف أطفال وتسليمهم للقذافي؛ فضلا عن تلفيق الأدلة لتبرير قرارات سياسية كقرار غزو العراق، وليس انتهاء بالضلوع في تصفية المشتبه بهم دون محاكمة لإخفاء الأدلة، هو ما يتواصل كشفه وينتظر لحظة عدالة مواتية.