تويتر.. من حداثة التغريدات إلى فصاحة التوقيعات

People holding mobile phones are silhouetted against a backdrop projected with the Twitter logo in this illustration picture taken in Warsaw September 27, 2013. REUTERS/Kacper Pempel
يرى الكاتب أن تويتر أعاد أبناء الضاد إلى فصاحة عهد التوقيعات (رويترز)

*فداء ياسر الجندي

يستحق موقع تويتر شكر أبناء لغة الضاد، لأنه أعادهم -بابتكار التغريدات- إلى فصاحة عهد التوقيعات، وهي نقلة عمرها 14 قرناً.

أما التغريدات فكلنا يعرفها، وهي ما يكتبه المشتركون في موقع تويتر، (وهو اسم علم أعجمي، وإن كانت ترجمته المغرد).

وأما التوقيعات فهي تلك الرسائل القصيرة الموجزة، المقتضبة في كلماتها، الواسعة المستفيضة في معانيها، التي كان الخلفاء والولاة والحكام يرسلونها إلى ولاتهم وعمالهم على أمصار الدولة المترامية الأطراف، وأغلب هذه التوقيعات هي تعليقات موجزة على رسائل تصلهم من ولاتهم، وغالباً ما يوقعون بها أسفل الرسالة المرسلة نفسها، أو على ظهرها.

كان الخليفة يجلس في المدينة المنورة أو دمشق أو بغداد، ولم يكن لديه هاتف أو بريد إلكتروني، بل كانت وسيلة التواصل الوحيدة مع ولاته وعماله، والتي يدير بها دولته المترامية الأطراف، هي تلك الرسائل المكتوبة التي يحملها البريد آنذاك بواسطة الخيول أو الدواب، فنشأ فن التوقيعات،  وهو فن أدبي لم يعرفه العالم قبل انتشاره منذ صدر الإسلام مرورا بعهود الخلافة المتلاحقة. والمثال خير سبيل للبيان.

"إن الله قد بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً"، هذا توقيع شهير أرسله الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على إحدى ولايات الدولة، عندما شكا له تراجع واردات الخزينة بسبب تناقص أحد موارد الدخل، وهو الجزية، وذلك لإقبال النصارى الشديد على الدخول في الإسلام، فكتب عمر على ظهر الرسالة ذلك التوقيع الذي لم يزد على عشر كلمات، (نصف تغريدة!)، ولكنه قد يحتاج لسطور طويلة وربما صفحات لشرح ما يحمله من معان.

ولا يدل ظهور هذا الفن المميز الفريد، على فصاحة وبلاغة من يرسل التوقيع فقط، بل أيضا وهو الأهم، على بلاغة وفصاحة وذكاء من يتلقاه فيفهمه ويطبقه، وعلى ثقة ويقين من المرسل في أن من يتلقاه سيفهمه بلا لبس إطلاقاً، ذلك أنه يرسله بواسطة الدواب التي تقطع الفيافي والقفار لإيصاله، فلا مجال إطلاقاً لاستيضاح ما خفي من معناه، بهاتف أو بريد إلكتروني، وإن لزم ذلك فبرحلة أخرى تضرب لها آباط الإبل، وتستغرق الأيام والشهور، وقد حفظت لنا كتب الأدب كنوزا غزيرة من تلك التوقيعات، هي آيات في البلاغة والإيجاز، ولكن ليس هذا مقام بسط الحديث عنها.

غير أن هذا الفن اندثر أو كاد في العصور المتأخرة، وأصبح الناس مولعين بالسجع والتطويل والإطناب والفنون اللفظية، التي تجعل النص ثقيلاً بلفظه فقيراً في معناه، حتى إذا جاء القرن العشرون، شهد نهضة أدبية نفضت عنها قيود السجع والتطويل، وأعادت للشعر والنثر بهاءه وجماله، نذكر من روادها الشعراء محمود سامي البارودي وشوقي وحافظ وعمر أبو ريشة، ونذكر من روادها في النثر علي الطنطاوي والمازني والرافعي والعقاد، ولكن بلاغتهم ظلت حبيسة كتبهم، ووقفاً على قرائهم من المثقفين والمتابعين للشؤون الأدبية.

كان لظهور تويتر أثر لا ينكر في أن يكتشف المستخدمون العرب على اختلاف مستوياتهم العلمية والأدبية، جانبا من جوانب لغتهم العظيمة، وهو جانب أزعم أنه لا تضاهيها فيه أي لغة أخرى، وأعني بذلك القدرة العجيبة للغة العربية على الإيجاز

العودة إلى الإيجاز
حتى إذا ما ظهر موقع تويتر، كان لظهوره أثر لا ينكر في أن يكتشف المستخدمون العرب على اختلاف مستوياتهم العلمية والأدبية، جانبا من جوانب لغتهم العظيمة، وهو جانب أزعم أنه لا تضاهيها فيه أي لغة أخرى، وأعني بذلك القدرة العجيبة للغة العربية على الإيجاز، والتعبير عن أعظم المعاني بأقل الكلمات، وهي خصيصة برع فيها القدماء في زمن التوقيعات، كما رأينا، واضطر أبناء العربية إلى استحضارها واستخدامها اليوم في زمن التغريدات.

نقول اضطروا لسببين، الأول هو أنه من قواعد موقع تويتر المعروفة، ألا تزيد أي تغريدة عن 140 حرفاً بما فيها الفراغات وعلامات الترقيم، والثاني هو أن هذا الموقع أصبح من أهم وسائل التواصل الاجتماعي المعروفة، وأصبح لمعظم الشخصيات العامة من علماء وأدباء وسياسيين ورؤساء وفنانين وغيرهم، وجود عليه، وأصبح وسيلتهم المفضلة لتمرير رسائلهم الآنية للناس، ولمعرفة آرائهم وردود أفعالهم، ناهيك عن المؤسسات ووكالات الأنباء والفضائيات.

وأصبح عدد المتابعين على تويتر، ومعدل إعادة التغريد لتغريدات أي حساب، أحد المقاييس التي يمكن الاستدلال بها على شعبية صاحب الحساب ومدى تأثيره في الناس، وتفاعلهم معه، حتى إن بعضهم أطلق قولاً فيه شيء من المبالغة ولكنه يعبر عن الواقع نوعا ما: "أنت على تويتر إذن أنت موجود".

وهكذا برزت أهمية التمكن من اللغة العربية، ومعرفة أسرارها ولطائفها في التعبير، ولا سيما في الإيجاز، وعاد المستخدمون العرب ليكتشفوا جمال لغتهم وقدرتها على التعبير، وهذا مطلب لا بد منه لمن يريد أن يكون له متابعون كثر، يقرؤون تغريداته، ويقومون بإعادة تغريدها لتصل إلى أكبر عدد من الناس، ولولا أن هذا المقال ليس مجالاً للدعاية، لذكرنا بعض الحسابات العربية المميزة جداً، والتي يعد متابعوها بمئات الآلاف وبالملايين، والتي أصبح لأصحابها خبرة في التغريد بحيث تجد بعض تغريداتهم تغني عن مقالات.

أدى نمو الذائقة اللغوية -مع رغبة المغردين في المشاركة والتغريد- إلى نشوء ظاهرة إيجابية جداً، وهي أننا أصبحنا نجد حسابات على تويتر باسم بعض المشاهير من الكتاب والشعراء والحكماء والفلاسفة القدماء

الذائقة اللغوية
وقد أدى ذلك بالضرورة إلى ارتقاء الذائقة اللغوية عند المتابِعين أيضاً، فأصبحوا يتذوقون جمال التغريدات، وساعد على ذلك أن تويتر تفاعلي، أي يمكن لأي كان أن يعلق على تغريدة أو يرد عليها، وبتنا نرى أحياناً تعليقاً أو رداً يغرده متابع مغمور، فينتشر ويتناقله المغردون لما فيه من جمال وإيجاز وحسن تعبير، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن استخدام تويتر قد أدى أيضاً إلى نمو الملكة اللغوية بشكل عام عند من يستخدم هذا الموقع من عامة الناس، وليس من العلماء والمفكرين والمتميزين فقط.

وقد أدى نمو الذائقة اللغوية -مع رغبة المغردين في المشاركة والتغريد- إلى نشوء ظاهرة إيجابية جداً، وهي أننا أصبحنا نجد حسابات على تويتر باسم بعض المشاهير من الكتاب والشعراء والحكماء والفلاسفة القدماء، مثل المتنبي أو أحمد شوقي أو علي الطنطاوي أو محمد الغزالي، أو غيرهم رحمهم الله أجمعين.

عجباً! وهل كان تويتر موجوداً في زمن هؤلاء العظماء ليكون لهم حسابات؟ وكيف يكون لهم تغريدات، وما وصلنا عنهم دواوين شعر أو كتب أدب ومقالة أو أبحاث علمية؟

أما فتح تلك الحسابات وإدارتها، فإن من يتولاها هم بعض المعجبين بتلك الشخصيات، والمتذوقين لما تركوه من تراث عظيم، وأما التغريدات، فإن هؤلاء المعجبين لما نقبوا فيما تركه أولئك العظماء من مقالات ومؤلفات وأبحاث، وجدوا في ثناياها ما لذ وطاب من الكنوز الدفينة، والدرر الثمينة، فراحوا يستخرجون ما فيها من الحكم النفيسة والأقوال البليغة، وينشرونها على شكل تغريدات، فينتفع بها قراؤها ويُثاب من نقب عنها فأخرجها وغرد بها.

أفلا يستحق موقع تويتر بعد ذلك كله أن يشكره أبناء العربية، فقد أحيا لهم فنا قديماً، وأيقظ لهم ذائقتهم اللغوية، وجعلهم يكتشفون ما في تراث الأوائل والمعاصرين من كنوز أدبية، وقطع فنية، وحثهم على اصطياد نفيس الكلام، وحكم الأقوال، وهذا كله في النهاية يصب في باب رفع مستوى التواصل اللغوي عند المستخدمين العرب.

أدري أن هذا كله لم يخطر على بال أصحاب موقع تويتر عندما أنشؤوه، وهذا يذكرنا بحكمة بالغة  "غرد" بها الأولون: "رب رمية من غير رام".
_____________
*كاتب سوري متخصص في الشؤون العلمية والتقنية

المصدر : الجزيرة