أخطاء مُلهمة
اشتُهر عن توماس إديسون مقولة "لم أفشل، لكنني فقط وجدت عشرة آلاف طريقة غير ناجحة". هذه العبارة تلخص حقيقة أساسية تتعلق بالبحث العلمي، وإن كان يُساء فهمها غالبا، فالتقدم في العلم -شأنه شأن أي فرع إبداعي من فروع المعرفة- ليس زحفاً مباشراً نحو الإجابة، بل هو طريق معقد متعرج محفوف بالبدايات الخاطئة والأزقة المسدودة، والأخطاء ليست فقط شيئاً محتوماً، بل هي أساسية للتفكير الإبداعي، لأنها تهدي مستكشفين آخرين على الطريق.
وقد يتساءل البعض عما إذا كان المناخ العلمي اليوم -الذي يتسم بالتنافسية العالية والاحتياج الشديد للتمويل، والذي أضحت المطبوعات والاستشهادات فيه معياراً أساسياً للنجاح- يتسع لمثل هذه الأخطاء؟ الإجابة ببساطة: نعم. والحق أن هذه الأخطاء مهمة دائماً، كما أن أهميتها لا تقتصر على المجال الأكاديمي.
والمنهج العلمي بأكمله يقوم في الحقيقة على فكرة مفادها أن اكتشاف ما يصلح أمر أساسي لتعلّم ما يصلح. وأي نظرية علمية لا بد أن تعتمد على مشاهدات موجودة أو نتائج تجريبية، ولكي تكتسب أي نظرية صفة العلمية يجب أن تثمر عن تنبؤات معينة لمشاهدات أو نتائج تجريبية، فإذا ناقضت تلك المشاهدات أو النتائج التنبؤات نُبذت النظرية أو وجب تعديلها على الأقل.
ولا أعني بالأخطاء التي تشكل جزءاً أساسياً من التقدم العلمي تلك الأخطاء الناتجة عن التسرع أو الإهمال أو قلة الخبرة، بل أعني الأخطاء الناشئة عن تجريب مدروس دقيق قائم على أفكار جريئة، ذلك النوع من الأفكار الذي يقود إلى اكتشافات علمية كبيرة.
هويل واثنان من زملائه طرحوا ما بات يُعرف بنموذج الحالة الثابتة للكون، الذي نص على أن الكون لم يتطور بعد ما يُعرف "بالانفجار العظيم"، بل إنه كان ثابتاً وسيبقى كذلك إلى الأبد |
خطأ مُلهم
وقد ضرب فريد هويل -وهو أحد أعظم علماء الفيزياء الفلكية في القرن العشرين- مثالاً رائعاً لـ"خطأ مُلهم". فقد طرح هويل واثنان من زملائه ما بات يُعرف بنموذج الحالة الثابتة للكون، الذي نصّ على أن الكون لم يتطور بعد ما يُعرف "بالانفجار العظيم" (وهو مصطلح صاغه هويل)، بل إنه كان ثابتاً وسيبقى كذلك إلى الأبد.
كانت الفكرة ممتازة ورائعة، فكما أن هذا الكون متجانس (بمعنى أنه متشابه في كل نقطة في الفضاء) ومتسق الاتجاهات (يبدو متماثلاً من كل الاتجاهات)، فإنه يبقى بالتالي على حالة واحدة في كل الأزمنة.
ورغم تفنيد نظرية الحالة الثابتة في نهاية الأمر -إذ إن الكون يتمدد وقد نشأ على الأرجح من انفجار عظيم- أحدثت هذه النظرية حالة من النشاط في علم الكون بأكمله، لأنها ركزت الأضواء على الأسئلة التي كانت الإجابة عنها واجبة. والحق أن النماذج الشائعة لما يعني أن الكون الذي نعيش فيه ما هو إلا واحد من منظومة ضخمة من الأكوان، تتسق مع فكرة أن هذه الأكوان جميعاً في حالة من حالات الثبوت.
كما قدم عالم الفيزياء في القرن الـ19وليام تومسون -أو اللورد كِلفن فيما بعد- مثالاً آخر لخطأ ملهم، عندما قدَّر عمر كوكب الأرض بأقل من مائة مليون سنة، وهو ما يقل خمسين مرة عن العمر المستنتج من القياسات الإشعاعية الحديثة. ومع أن تقدير كِلفن كان معيباً بشكل قاطع، فإن جهده يظل محورياً لتاريخ المعرفة، لأنه طبق العلم الحقيقي (قوانين الفيزياء) على قضية ظلت فترة طويلة خاضعة للتخمين المبهم.
فقد ساعدت أفكار كِلفن الخلاقة في إطلاق حوار مثمر بين الجيولوجيين والفيزيائيين، وهو حوار أدى في النهاية إلى حل مشاكل كثيرة، حتى تلك المتعلقة بطول الوقت اللازم لتحقق نظرية النشوء والارتقاء لداروين. أما الخطأ غير المقصود الذي شوه تقديرات كِلفن -وهو قدرة حركة السوائل على نقل الحرارة بشكل مؤثر داخل باطن الأرض- فقد تبينت أهميته فيما بعد في فهم "تكتونيات" الصفائح والانجراف القاري.
عُرف عن توم واطسون الابن، الذي قاد شركة "آي بي إم" خلال عقودٍ من النمو القوي، أنه كان يشجع الأخطاء الملهمة، وقال عن ذلك "ينبغي أن نتحلى بشجاعة المخاطرة عندما تكون المخاطر مدروسة |
المخاطر المدروسة
وتمثل الشركات الناشئة مثالاً على الفوائد الكامنة في المخاطرة، فبينما تستطيع 49% فقط من الشركات الصناعية الناشئة و37% من شركات المعلومات الناشئة الاستمرار لأربعة أعوام أو أكثر، تمكنت الشركات التي تتبنى مبدأ المخاطرة من تحقيق اختراقات إبداعية مذهلة.
وقد عُرف عن توم واطسون الابن الذي قاد شركة "آي بي إم" خلال عقودٍ من النمو القوي، أنه كان يشجع الأخطاء الملهمة. وقد عبر عن ذلك بقوله "ينبغي أن نتحلى بشجاعة المخاطرة عندما تكون المخاطر مدروسة، ويجب أن نغفر الأخطاء التي وقعت لأن هناك مَن كان يحاول العمل بجد وعزيمة لصالح الشركة".
وينبغي لجهات تمويل البحث الأكاديمي أن تتبنى فلسفة مماثلة، بمنح جزءٍ معين من التمويل للمقترحات المدروسة غير التقليدية (أعني تلك المقترحات التي يُعتقد أنها تنطوي على مخاطرة بسبب انخفاض احتمالية نجاحها نسبيا، لكنها قد تؤدي إلى اكتشافات مهمة). خطة كهذه من شأنها أن تخلق فرصاً للاستفادة من إمكانية اكتشاف الأشياء المفيدة عرضا، وهو ما يُعَد مُكوناً أساسياً للاكتشاف العلمي.
حتى عقدٍ من الزمان تقريبا، كان معهد علوم تلسكوب الفضاء يتبنى سياسة مشابهة بتخصيص وقت مشاهدة لتلسكوب هابل الفضائي، كما كان يُخصَص لمدير المعهد كل عام قدراً من الوقت يرجع إلى تقديره لكي يمنحه لمشروعات خاصة يعتبرها جديرة بالاهتمام. وفي عام 1995، استخدم روبرت وليامز هذا الوقت لخوض مجازفة كبرى: فقد وجه التلسكوب إلى منطقة تبدو في الظاهر غير مهمة لعشرة أيام تقريبا. وكانت النتيجة صورةً لأكثر من ثلاثة آلاف مجرة تبعد عن الأرض بنحو 12 مليار سنة ضوئية، وهو ما يعُرف بحقل هابل العميق.
على نحو مماثل، وفي مجال أقرب إلينا من الكون السحيق، سنجد أن نصف اكتشافات الأدوية الجديدة نشأت عن مصادفات. فمرُكب آيسونيازيد (isoniazid) على سبيل المثال اختُبِر في البداية كعلاج للسل، ثم تبين فيما بعد أن مادة الآيبرونيازيد (iproniazid)، وهي إحدى مشتقاته، فعّالة في علاج الاكتئاب.
إن إتاحة المجال للأخطاء الملهمة أمر ضروري لتحقيق تلك الاختراقات الإبداعية التي تحفز التقدم العلمي، وقد آن لمؤسسات التمويل أن تدرك هذه الحقيقة.
___________________
** متخصص في الفيزياء الفلكية بمعهد علوم تلسكوب الفضاء في بالتيمور بولاية ميريلاند. وكتاب "أخطاء مُلهمة" هو أحدث مؤلفاته.