جيل "الأنا" وإدمان التقانة

People holding mobile phones are silhouetted against a backdrop projected with the Twitter logo in this illustration picture taken in Warsaw September 27, 2013. REUTERS/Kacper Pempel
undefined

د. محمد أنس طويلة

من القصص المضحكة المبكية التي سمعتها مؤخراً أن طاقم القيادة في طائرة متجهة من مدينة نيويورك إلى مدينة أطلانطا قد اضطر إلى طرد عدد من طلاب المدارس من على متن الطائرة بعد رفضهم الانصياع لتعليمات السلامة أثناء الإقلاع والتي تتطلب من جميع الركاب إغلاق أجهزتهم الإلكترونية، بما فيها الهواتف النقالة.

لكن القصة لم تنته عند ذلك، إذ سرعان ما استشاط هؤلاء الطلبة الذين يقارب عددهم مائة غضبا وانهالوا بسيل من الشتائم والسباب على طاقم الطائرة وشركة الطيران على شبكات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك فيما وصفوه بأنه "مؤامرة" حيكت ضدهم!

بعيداً عن طرافة هذه القصة، فإن لجانبها الآخر وجهين، أحدهما يتجلى في ما آلت إليه العلاقة بين بني البشر، والمراهقين منهم خاصة، مع تقنيات المعلومات والاتصالات المحيطة بهم، وثانيهما يتعلق بمدى اللامبالاة وحب الذات والإحساس بالأحقية بكل شيء لدى الجيل الصاعد، وهي ظاهرة استشرت في مجتمعات العالم مما دفع ببعض الباحثين بنعت هذا الجيل بـ"جيل الأنا".

أما إدمان التقانة فلن يحتاج إثباته إلا إلى نظرة سريعة على أحوال الناس أينما حلوا، فإذا أتاك زائر تراه ينفق جل وقت زيارته وعيناه متسمرتان بشاشة هاتفه الصغيرة، وإذا أمعنت النظر في زيارتك للمقهى قد تجد مجموعة من الشبان الجالسين على طاولة واحدة تحسبهم جماعة وهم أشتات، لأن في يد كل منهم جهاز آيباد يستخدمونه في اللعب أو تصفح الإنترنت أو التحدث مع أصدقاء آخرين.

كما قد تلحظ أثناء مرورك في موقع أثري جمعا من السياح الذين تكبدوا عناء ومشقة السفر من دول بعيدة لزيارة هذا الموقع، لكنهم لم يتمكنوا من ترك هاتفهم بعيدا، بل تراهم يتسابقون في استخدام هذا الهاتف لالتقاط الصور ومشاركتها مباشرة في مواقع التواصل الاجتماعي وكأنهم يسرون من عدد "إعجابات" الآخرين بصورهم هذه أكثر من استمتاعهم بزيارتهم نفسها.

وكأي إدمان فقد ظهرت عدة تسميات لأمراض أو عقد نفسية ترتبط بإدمان التقانة، منها على سبيل المثال "متلازمة إدمان الإنترنت" و"متلازمة الخشية مما فات" (FOMO) و"التصرفات الإدمانية". بل أن خبراء علم النفس بدؤوا بتطوير قياسات وعلاجات لهذه الأمراض والعقد لتخليص المدمنين من إدمانهم المحدث، وافتتحت عدة مراكز متخصصة بعلاج هذا النوع من الإدمان.

يتجلى إدمان التقانة في أوضح صوره لدى جيل اليافعين والمراهقين (جيل الأنا)، ولعل قصة رحلة الطائرة خير مثال على تضافر التعلق المفرط بتقنيات التواصل والمعلومات مع الإحساس المتزايد بحب الذات واللامبالاة التي باتت تظهر أكثر فأكثر في الأجيال الصاعدة.

وتسمية جيل الأنا لم تأت من فراغ، بل سبقتها دراسات تلو أخرى بحثت في تحولات الجوانب النفسية عبر الأجيال. من هذه الدراسات مثلا بحث أعدته معاهد الصحة الوطنية في الولايات المتحدة الأميركية أظهرت نتائجه أن الأمراض المتعلقة بالنرجسية أكثر ثلاث مرات في جيل من هم في العشرينيات من عمرهم مقارنة بالجيل الذي تتجاوز أعماره 65 عاما.

وفي دراسة أخرى أجراها فريق من الباحثين في جامعة سان دييغو لطلاب المدارس الثانوية خلص هؤلاء إلى أن الرغبة في اقتناء الماديات لدى هؤلاء الطلاب تفوق أي جيل سبقهم في التاريخ، ومع ذلك فإن استعدادهم لتكبد مشقة العمل أقل من سابقيهم.

تبدو مشكلة الإدمان أكبر لدى جيل الأنا لأن النرجسية المرتفعة لدى أبناء هذا الجيل تولد لديهم رد فعل معاندا يمنعهم من الاعتراف بالمشكلة وبالتالي يصعب البدء بمعالجتها

نرجسية جيل الأنا
وتبدو مشكلة الإدمان أكبر لدى جيل الأنا لأن النرجسية المرتفعة لدى أبناء هذا الجيل تولد لديهم رد فعل معاندا يمنعهم من الاعتراف بالمشكلة وبالتالي يصعب البدء بمعالجتها. ومن القصص المشابهة مثلا لقصة رفض المراهقين لإغلاق هواتفهم النقالة على متن الطائرة ظهور ما يسمى بالتراسل أثناء النوم حيث يتبادل المراهقون الرسائل عبر هواتفهم المحمولة وهم نصف نيام!.

ولهذا الإدمان عند الأجيال الجديدة عواقب وخيمة، إذ خلصت دراسة بريطانية بأن إدمان الهواتف النقالة لدى المراهقين يهدد نسيج المجتمع بأكمله لأن أبناء هذه الأجيال لن يتمكنوا من بناء علاقات اجتماعية سليمة في المستقبل دون مساعدة الهاتف النقال، عدا تغيير فكرة التواصل الاجتماعي حيث سيطغى التواصل السطحي والغث على المحادثات الهادفة الحقة، مما سينعكس سلبا على نوعية العلاقات الاجتماعية وعمقها واستمراريتها. لأن بناء علاقات وصداقات متينة وصحية يتطلب استثمار كم كبير من الوقت في التفاعل مع الآخرين.

وبالإضافة إلى العواقب الاجتماعية، يؤدي إدمان تقنيات التواصل لدى الأطفال والمراهقين أيضا إلى إضعاف المهارات الفردية الأخرى كالقراءة والكتابة والدراسة. وهو ما بدأت بوادره تلوح فعليا، فقد أظهرت دراسة أجرتها شركة فوادفون أن ثلث المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و20 عاما يفضلون إرسال الرسائل النصية عبر الهاتف النقال على أي أسلوب تواصل كتابي آخر.

لكن بريقا من الأمل ما زال يلوح في الأفق، ولنا في التاريخ خير شاهد، فعندما ظهرت صناعة السيارات وبدء بناء الطرق السريعة مثلا لم تكن هناك قوانين لتحديد السرعة القصوى على هذه الطرق، وتطلب الأمر كثيرا من الحوادث والوفيات لإقناع المجتمع وصناع القرار بضرورة فرض حد أعلى لسرعة السيارات للتخفيف من هذه الحوادث.

كذلك الأمر مع صناعة التبغ والسجائر، التي كانت تنشر إعلاناتها دون رقيب أو حسيب وتباع في كل مكان إلى أن اكتشفت الآثار السلبية الكبيرة للتدخين وتغير موقف المجتمع منه ليعمل على فرض قوانين تمنع الإعلان عن منتجات التبغ والسجائر وتحدد مبيعاتها بشروط صارمة.

والسؤال يبقى: ما الثمن الذي سندفعه قبل أن ندرك أن للتقانة أيضا إدمانا قد لا يقل خطورة عن غيره من أشكال الإدمان (لا سيما أن جيل المستقبل هو الأكثر عرضة للوقوع ضحية له)؟ ومتى سنعمل سوية على تجنيب مجتمعاتنا إدماناً جديدة لن تحمد عواقبه؟
________________________
* باحث أكاديمي وخبير في مجال أمن ونظم المعلومات

المصدر : الجزيرة