مكفوفون بالمغرب.. قلوب تبصر وأنامل تبدع

سناء القويطي-الرباط

 
ينهمك المغربي سعيد خيرات في تثبيت ألياف جريد النخل على طرفي هيكل خشبي لطاولة، يتحسس مسار الألياف بيديه، بينما عيناه تائهتان في الفراغ اللامتناهي.
بهمة ونشاط، يعكف هذا الشاب الثلاثيني الكفيف على صناعة الكراسي والطاولات من جريد النخل داخل مقر تعاونية العَيْش الكريم للصانع الكفيف بالدار البيضاء، معتمدا على يديه وخياله ومساعدة باقي زملائه، يسابق الزمن من أجل إنهاء الطلبية وتسليمها للزبون في الوقت المتفق عليه.

تتزاحم الكلمات في فم سعيد خيرات وهو يتذكر في حديثه للجزيرة نت، أيام دراسته التي توَّجها ببكالوريوس في الأدب العربي وشهادات من معاهد خاصة في التقديم الإذاعي والصحافة المكتوبة، إلا أن صاحبة الجلالة التي تمناها أدارت له ظهرها.

‪سعيد خيرات يشرح للجزيرة نت طريقة عمله‬ (الجزيرة)
‪سعيد خيرات يشرح للجزيرة نت طريقة عمله‬ (الجزيرة)

ومع ذلك، لم يأكل اليأس شيئا من روح سعيد المتوثبة والتواقة للتعلم، بل انضم منذ سنتين إلى هذه التعاونية المتخصصة في صناعة المنتجات النباتية، وفيها تعلم حرفة صارت هوايته ومورد رزقه.

البدايات والتأسيس
انطلقت فكرة تأسيس تعاونية العيش الكريم للصانع الكفيف سنة 2011 عندما تمكن محمد لشهب -رئيسها وهو كفيف وأب لتوأمين- من الظفر بلقب أفضل صانع تقليدي بالمملكة المغربية في فئة المنتجات النباتية في برنامج "صنعة بلادي" الذي تبثه القناة المغربية الثانية، وبعد هذا التتويج قرر محمد وبعض رفاقه المكفوفين تأسيس تعاونية بالنظر لقلة فرص الشغل المتاحة أمام هذه الفئة في القطاعين العام والخاص.

بدأ المشروع الصغير في حي درب مولاي الشريف بالدار البيضاء برأسمال تضامني لا يتجاوز 32 ألف درهم (نحو 3500 دولار)، واستفاد من دعم عبارة عن مقر العمل وأدوات الإنتاج من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهو برنامج حكومي أطلقه الملك محمد السادس سنة 2005 لتشجيع الأنشطة المدرة للدخل المستمر والموفرة لفرص العمل.

‪محمد لشهب تمكن من الظفر بلقب أفضل صانع تقليدي‬  (الجزيرة)
‪محمد لشهب تمكن من الظفر بلقب أفضل صانع تقليدي‬ (الجزيرة)

كان أعضاء التعاونية في بدايتها من المكفوفين فقط، يقول محمد لشهب، إلا أن توسع العمل أظهر الحاجة إلى حرفيين في النجارة والنجادة، وهي حرف تتطلب عيونا ناظرة، لينضم إليهم بعض ضعاف البصر.

فقدان البصر إمكانية من إمكانيات الحياة، يقول عبد الحكيم رواس، الذي اشتغل مساعد صيدلي لسنوات، لكنه فقد عمله بعدما ضعف بصره، فانخرط هذا الشاب في التعاونية عاملا في الصباغة.

خيال ولمس
وإذا كان سعيد خيرات عاش جل حياته كفيفا، فإن مراد معمر وعبد الرحيم عبقري انطفأت عيونهما بعدما أخذا نصيبا من العالم، وخزنت ذاكرتهما الأشكال والألوان والأشخاص، كلاهما فقد البصر في العقد الثاني من عمرهما، فشحذا باقي الحواس في حرفة تتطلب نباهة وتركيزا وأيادي تتلمس طريقها بإصرار وعناد، وهي صناعة المنتجات النباتية.

‪بعض منتجات تعاونية العيش الكريم للصانع الكفيف‬ (الجزيرة)
‪بعض منتجات تعاونية العيش الكريم للصانع الكفيف‬ (الجزيرة)

يتوفر الكفيف على شيئين أساسين: المخيلة واللمس، يقول مراد معمر ويداه تعبثان بعصاه، فهذا الشاب -الذي فقد بصره في سن 27- وجد في تعاونية العيش الكريم ذاته التائهة، ولم يعد عالة على الغير، بل أصبح يعتمد على نفسه وينتج ما ينفع الناس، وفق تعبيره.

بواسطة مواد نباتية مثل ألياف الدوم والشيح والحلفاء والقصب والخيزران، تنتج التعاونية قففا وكراسي وحصائر وطاولات وكنبات وأطباقا وغيرها، ويعمل أعضاؤها بجهد وخيال مبتكر من أجل إرضاء الزبون الذي يجد في منتجاتهم الإتقان الذي قد لا يجده في منتجات أشخاص مبصرين، كما يقول مراد. 

‪سعيد خيرات يحمل كرسيا من جريد النخل اشتغل عليه سابقا‬ (الجزيرة)
‪سعيد خيرات يحمل كرسيا من جريد النخل اشتغل عليه سابقا‬ (الجزيرة)

ويواجه المكفوفون المغاربة البالغ عددهم 54 ألفا و620 حسب نتائج الإحصاء العام للسكان، صعوبات في الاندماج في سوق العمل، وهي الصعوبات التي تواجه جميع الأشخاص في وضعية إعاقة.

وحسب ما أظهره البحث الوطني الثاني حول الإعاقة الذي أنجزته وزارة الأسرة والتضامن، فإن الشخص في هذه الوضعية يضطر غالبا إلى بذل مجهود كبير من أجل الحصول على فرصة عمل.

ومن بين ما يزيد على 15 ألف تعاونية بالمغرب، توجد تسع تعاونيات أسسها مكفوفون، وفق عبد الكريم أزنفار مدير مكتب تنمية التعاون بوزارة الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي، وتنشط أغلبها في مجالات الصناعة التقليدية والخدمات.

‪بعض أعضاء التعاونية‬ (الجزيرة)
‪بعض أعضاء التعاونية‬ (الجزيرة)

صعوبات التسويق
بصبر وتؤدة، يطور هؤلاء الشباب مشروعهم الذي دخل عامه السابع، ويعتبرونه ابنهم الذي يحتاج صبرا ونفسا طويلا ليكبر. ورغم صعوبات التسويق التي تواجهها التعاونية -مثل باقي التعاونيات بالمغرب- فإن أعضاءها الـ15 راضون بما يحققونه من دخل شهري يختلف حسب المواسم.

ويتراوح بين ألفين وأربعة آلاف درهم شهريا (بين 220 دولارا و440 دولارا)، وهو مبلغ -يقول محمد لشهب رئيس التعاونية- يوفر لهم العيش الكريم ويكفيهم ذُل السؤال.

وتعتبر المعارض التي تنظمها وزارة الصناعة التقليدية والسوق التضامني بالدار البيضاء أهم قنوات تسويق منتجات التعاونية. ولا يُخفي محمد عاطر مسؤولها التجاري أن ضعف رأس المال يحول دون قبولهم تنفيذ الطلبيات الكبيرة التي يتلقونها وتوسيع لائحة المنخرطين.

‪عبد الرحيم عبقري أحد أعضاء التعاونية منهمك في عمله‬ (الجزيرة)
‪عبد الرحيم عبقري أحد أعضاء التعاونية منهمك في عمله‬ (الجزيرة)

بغصة مغلفة بأسى، يحكي عاطر كيف باءت محاولتهم الحصول على سلفة من البنوك بالفشل، والسبب أن أعضاء التعاونية مكفوفون.

ومع ذلك لا يجد اليأس طريقه إليهم، فقد حصلوا العام الماضي على شارة الجودة من وزارة الصناعة التقليدية، وهم مصرون على المضي في تحقيق اسم التعاونية وهدفها وهو العيش الكريم؛ "لدينا خيال واسع وأربع حواس، وسنستثمرها في هذا المشروع لإنجاحه"، يقول محمد لشهب بابتسامة واثقة.

المصدر : الجزيرة