الموت البطيء لحقوق الإنسان

الاقتباس: أكاديميون وحقوقيون وصفوا النظام الدولي لحقوق الإنسان اليوم بأنه فضفاض في نطاقه وواهن في قوته وليس له أي تأثير حقيقي على الأرض. الكاتب وليد الماجد

وليد الماجد*

لن يكون من الزيف أو التهويل تدوين المحرقة التي يتعرض لها السوريون اليوم منذ أكثر من أربع سنوات على أنها الأبشع والأعنف في التاريخ الحديث، إذ يستيقظ العالم صباح كل يوم على أحداث يضج منها ليس الإنسان فقط بل حتى الحجر والشجر.

لقد كشفت التقارير الحقوقية أن عدد السوريين الذين قتلوا منذ بدء الثورة عام 2011 تجاوز 250 ألف شهيد، 80% منهم مدنيون، في حين أن المدنيين من ضحايا الحرب العالمية الثانية لم يتجاوز 57%، وهذا يعني -بلغة القانون الدولي المعاصر- أننا أمام جرائم حرب ضد الإنسانية لم يعرفها التاريخ المعاصر. تشير الإحصائيات المنشورة من قبل مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية إلى إصابة أكثر من 500 ألف سوري، وأن عدد المعتقلين يزيد عن ثلاثمئة معتقل، وهناك أكثر من مائة ألف سوري مفقود.

وأفادت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) بأن أكثر من خمسة ملايين طفل سوري تأثر جراء الأحداث، وأكثر من 15 ألف طفل سوري لقى حتفه، وهناك مليون طفل نازح دون سن الخامسة من مجموع أكثر من عشرة ملايين نازح سوري حتى الآن. كما تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن عدد المسجلين السوريين من اللاجئين تجاوز عدد اللاجئين الأفغان والذين كانوا -قبل الثورة السورية- يعدون الأعلى نسبة بين عدد اللاجئين في العالم. ناهيك عن عدد المجازر التي ارتكبها النظام السوري، حيث قتل في الغوطة في ريف دمشق لوحدها من خلال هجوم كيمائي -وأثناء وجود فريق المفتشين الدوليين التابع للأمم المتحدة في دمشق- أكثر من 1400 سوري، منهم 423 طفلا تناقل العالم كله صور جثثهم ملقاة في ممرات وغرف المستشفيات. أما مجزرة دوما في حمص، فذهب ضحيتها أكثر من 108 شهداء جلهم من الأطفال والنساء، عدا مجازر مريعة رصدت في الترميسة في حماة وداريا بريف دمشق والحولة ومجازر كثيره أخرى لم تسترع الانتباه والتعاطف الدولي.

وأمام هذه الإبادة البشرية والتطهير العرقي للشعب السوري، أنشأت لجنة التحقيق الدولية المستقلة في 22 أغسطس/آب 2011 بموجب قرار من مجلس حقوق الإنسان. وقد عهد إليها بالتحقيق في جميع الانتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان منذ مارس/آذار 2011 في سوريا، وقدمت اللجنة تقريرها الأول إلى مجلس حقوق الإنسان في 2 ديسمبر/كانون الأول 2011 وتقريرا لاحقا في 12 مارس/آذار 2012. ثم جرى تمديد ولاية اللجنة لفترة إضافية حتى سبتمبر/أيلول 2012. وفي الأول من يونيو/حزيران 2012، كلف مجلس حقوق الإنسان اللجنة بأن يجري التحقيق على وجه السرعة. وعلى إثره، لم تقدم اللجنة تقريرا أوليا بشأن مجزرة الحولة إلا في 26 يونيو/حزيران، وأطلعت المجلس على النتائج التي توصلت إليها، ثم مدد المجلس مرة أخرى ولاية اللجنة لفترة إضافية لتشمل التحقيق في جميع المذابح.

ستيفن هوبجود في مقال له بعنوان "انتهاء حقوق الإنسان" وصف عمل هيومن رايتس ووتش وباقي عمل منظمات حقوق الإنسان العالمية بأنه أشبه بالوعظ الأخلاقي

وعظ كنسي
عند مراجعة تقارير هيومن رايتس ووتش المتعلقة بالأزمة السورية سيجد المراقب أن اللجنة في مواجهة كل أعمال القتل والتعذيب والخطف الممنهجة من قبل النظام أصدرت تقريبا ثلاثة تقارير وأربعة تحديثات دورية فقط، في 2012 و2013 و2015.

الأكاديمي والحقوقي البريطاني ستيفن هوبجود في مقال له بعنوان "انتهاء حقوق الإنسان" وصف عمل هيومن رايتس ووتش السالف ذكره وباقي عمل منظمات حقوق الإنسان العالمية بأنه أشبه بالوعظ الأخلاقي (الكنسي). وفي مقالة أخرى للباحث البارز إيرك بوزنر بعنوان "الشفقة على قانون حقوق الإنسان" وصف النظام الدولي لحقوق الإنسان بأنه فضفاض في نطاقه وواهن في قوته، وليس له أي تأثير حقيقي على الأرض، فعمل منظمة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بكل تقاريرها ولجانها ومؤتمراتها وتصريحاتها لا تقوم بأي دور حقيقي وجذري لتخفيف المعاناة الإنسانية للشعب السوري أو لغيره في العالم.

على أن هذه الديناميكية الواهنة لفعالية النظام الدولي لحقوق الإنسان قد تنشط في أماكن أخرى نتيجة لما سماها روبرت بيرنشتاين في أكثر من مناسبة (والذي رأس منظمة حقوق الإنسان في الفترة بين 1978 و1998) بإملاءات وضغوط الحكومات القوية وسياساتها، يأتي في مقدمتها حكومات الولايات المتحدة الأميركية. ولذلك، ورغم التغييرات الجوهرية على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في فنزويلا، تصف التقارير الحقوقية العالمية فنزويلا على الدوام بـ"التعصب السياسي وتضييع الفرص للنهوض بحقوق الإنسان الفنزويلي". وقد أشار الكاتب البارز في الفورن بوليسي روبرت نيمان إلى أن هذه التقارير تكشف بوضوح سياسة التحيز الشديد ضد دول أميركا اللاتينية التي تعادي سياسات أميركا وتدخلاتها.

فساد المنظمات الحقوقية
في العام الماضي 2014، نشر أكثر من مئة من العلماء والباحثين رسالة بعنوان "فساد منظمة هيومن رايتس ووتش"، أشارت الرسالة إلى ارتباط المنظمة الوثيق بالولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يهدد استقلاليتها وبالتالي مصداقيتها. يعزز هذا الاتهام وجود طاقم فني واستشاري كبير يعمل في المنظمة لا يحمل فقط الجنسية الأميركية بل ومنخرط تماما في العمل السياسي الأميركي، من أمثال التنفيذي في المنظمة توم مالونكسي حيث سبق أن عمل مساعدا خاصا للرئيس كلينتون وعمل أيضا كاتب تقارير لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، وقد ترك المنظمة في العام 2013 بعد تعيينه مساعدا لوزير الخارجية الأميركية جون كيري. كما تصف سوزان مانيلو نائب رئيس مجلس إدارة هيومن رايتس ووتش علاقتها ببيل كلينتون بالمتينة جدا.

في هذا السياق أيضا وبالنظر إلى لجنة الخبراء في مجلس حقوق الإنسان، نلحظ أيضا أسماء أميركية متعددة تضم متخصصين في مناطق محددة من العالم، مثل مايلز فريشيت سفير الولايات المتحدة السابق لدى كولومبيا، ومايكل شيفتر مدير الصندوق الوطني لأميركا اللاتينية ومدير مشروع نشر الديمقراطية في أميركا اللاتينية المدعوم من قبل الحكومة الأميركية مباشرة، وكذلك ميغيل دياز. وقد عمل ميغيل محللا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في العام 1990 بالإضافة إلى تقارير مختلفة تشير إلى وجود عناصر من الوكالة يعملون ناشطين ومراقبين في المنظمة.

المفارقة هنا أن أميركا تملك أضخم مشروع سري للاغتيال العالمي وسلوكها الشائن موثق في العراق وأفغانستان وغيرهما. ومع ذلك، هي عضو حاليا في مجلس حقوق الإنسان المناط به الرقابة والإشراف على تطبيق وتعزيز وحماية حقوق الإنسان في العالم

مفارقة
والمفارقة هنا أن أميركا تملك أضخم مشروع سري للاغتيال العالمي وسلوكها الشائن موثق في العراق وأفغانستان وغيرهما. ومع ذلك، هي عضو حاليا في مجلس حقوق الإنسان المناط به الرقابة والإشراف على تطبيق وتعزيز وحماية حقوق الإنسان في العالم. ولذلك، يصف كثير من المراقبين -ومنهم الحقوقي الأرجنتيني البارز والحائز على جائزة نوبل للسلام أدولفو بيريرز- بأن مجلس حقوق الإنسان مجرد "أداة حرب في يد أميركا".

ورغم أن منظمة هيومن رايتس ووتش -على سبيل المثال- تشير بوضوح إلى أنها منظمة لا تتلقى الدعم المالي من الدول إطلاقا، بل من خلال الأفراد والمؤسسات والجمعيات المدنية فقط، فإن هناك تقارير وشهادات متعددة تشير إلى تلقي المنظمة تبرعات مالية سخية من دول غنية -خليجية أحيانا- مقابل السكوت عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وفي هذا السياق، يمكن استحضار تصريحات سارا ويتسون (رئيسة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لهيومن رايتس ووتش) الشهيرة والتي وصفت فيها سيف الإسلام القذافي بـ"الإصلاحي". وسبق أن أعلن الملياردير الأميركي (جورج سوروس) في العام 2010 تبرعه السخي للمنظمة بمبلغ 100 مليون دولار، وهو ما مهد له القيام بتأثير حاسم على كثير من قرارات المنظمة، وذلك رغم الدور السياسي الذي يمارسه الرجل في دول العالم المختلفة وعدائه الشديد والصريح للدول التي تعمل بجد نحو فك ارتهان قرارها السياسي والاقتصادي والسيادي عن العالمية الرأسمالية المتوحشة.

ولعل ما أنهك وحجم دور حماية حقوق الإنسان في العالم أيضا هو هذا التبجح الذي لا ينقضي من التأكيد على الجذر الغربي لمنظومة حقوق الإنسان العالمي، ابتداء بالرومان وفلاسفة عصر التنوير وما تم بعد هذا العصر في ماجنا كارتا وإعلان حقوق الإنسان الأميركي والفرنسي الشهيرين، إذ مهد هذا التحيز التاريخي نحو المركزية الإثنية (ethnocentrism) أي دوران الجهود الدولية الحقوقية في فلك وثقافة وتاريخ الأمة الغربية وما يخدم مصالحها فقط لتلعب أداة حرب ناعمة لعولمة القيم والمصالح والثقافة الغربية على باقي العالم في مقابل إهمال مصالح الشعوب والأمم الأخرى. يعزز هذا التفسير تركيز منظمات حقوق الانسان على بقاع من العالم بعينها كما حصل في جنوب السودان وشطر إندونيسيا ومسيحيي العراق وغيرها، في حين يتم إغفال وتناسي الكثير من آلام وأوجاع الأقليات الإثنية الأخرى كما هو حال الأقلية المسلمة في الروهينغا وغيرها. وكما هو جلي أيضا في الاهتمام المبالغ فيه بحماية "حقوق المثليين" رغم ما في ذلك من تغافل وانتهاك شديدين للأطر الثقافية والاجتماعية والدينية للأمم والجماعات الأخرى البشرية.

يحتاج النظام العالمي الراهن لحقوق الإنسان إلى "ثورة" حقيقية جدية بحيث تعاد صياغة نصوصه وتبلور آليات أكثر فعالية من البيانات والشجب والاستنكار، مع ضرورة مراعاة البعد الفلسفي لحقوق الإنسان المتكئ على المركزية الإنسانية أو البشرية (anthropocentric) وهو ما يفرض عدم محاباة أمة بعينها وتجاوز ثقافات وخلفيات أمم أخرى. إن الدعوة إلى "عولمة الحقوق" لا يعني الإسراف في حلم خلق "تجمع سحري" لكافة النظم الأخلاقية والفلسفية في العالم، أو فرض التوحيد وتجاوز كل الخلافات الفلسفية والثقافية والدينية بين الشعوب بالقوة والغصب والقهر الاقتصادي تارة والعسكري تارة أخرى، بل يكفي تشكيل مبادئ حقوقية "قدسية" لا تتعارض جذريا مع مثل وتطلعات المجتمعات البشرية دون استثناء.

المصدر : الجزيرة