أدباء عرب مهاجرون وأوطان من كلمات

كومبو يجمع نعيم عبد مهلهل العراق ووليد السابق سوريا وهناء عبيد فلسطين
وليد السابق (يمين) ونعيم عبد مهلهل ونسرين بلوط وهناء عبيد (يسار) تحدثوا عن تجارب مختلفة في علاقة الإبداع بالمهجر (الجزيرة)

هيثم حسين

ألقت الظروف القاسية التي مرت وتمر بها بعض الدول العربية، بالعديد من أبنائها المبدعين في أحضان ملاجئ ومهاجر آوتهم ومنحتهم ملاذات آمنة هيأت لهم ظروفا مناسبة للكتابة والإبداع.

بالعودة لتاريخ الأدب العربي، نجد أنه في بدايات القرن العشرين شكّل عدد من شعراء وأدباء المهجر تيارا أدبيا أصبح حجر زاوية في الكتابات والأعمال المهجرية اللاحقة، ذلك لأنّ المَهاجر باتت جزءا من تركيبة حياة كثير من الأدباء العرب المنتشرين في مشارق الأرض ومغاربها اليوم. 

في عصرنا الحديث، كيف تتجلى تأثيرات المَهجر في كتابات الأدباء المهاجرين؟ هل هنالك انسلاخ عن قضايا الوطن وانشغال بالحياة الجديدة في المهجر أم أن الوطن بقضاياه وهمومه وذكرياته يظل متصدر الاهتمام الأول بالنسبة لهم؟ هل تقتصر نتاجات الأدباء المهاجرين على مواضيع الشوق والحنين والغربة أم أن الظروف التي مرّوا بها والتي يعيشونها تفترض موضوعات جديدة؟ هل يسعى الأدباء إلى ترويض المنفى والملجأ من خلال الكتابة والإبداع؟

تصالح مع الماضي
الروائي العراقي نعيم عبد مهلهل؛ المقيم بألمانيا، يعتقد أن النأي يأخذ شكله الإنساني من خلال الابتعاد عن أعشاش الوجود في الوطن، ويظن أن الأمر يتمظهر بتفاصيل أدق لدى محترفي الكتابة في اشتغالهم الحياتي والأدبي.

يقول مهلهل إن "المهجر يسكن حواسي، وأحاول جاهدا أن أجعله مفيدا بالنسبة لي، بالرغم من أكداس الذكريات التي تركتها هناك وأشتاق إليها، لكنني بفعل التطبع والسكون إلى القدرية الحياتية ومتطلبات الحياة الجديدة، خصوصا عندما يكون لك بيت وأولاد اختلفت معهم بوصلة العيش والتطبع؛ فإن ما أفعله بالنسبة لمنجزي الإبداعي هو محاولة التصالح بين الذاكرة البعيدة المتمثلة في الوطن، والمكان الجديد المتجسد في المهجر".

نسرين بلوط تشبّه الكتابة في المهجر بالإزميل الذي يحفر في أعماق القلب(الجزيرة)
نسرين بلوط تشبّه الكتابة في المهجر بالإزميل الذي يحفر في أعماق القلب(الجزيرة)

يعتقد صاحب "الذكريات وغلاف مجلة" أن "المهجر قد منح الكثيرين فرصة متسعة من حرية التعبير بعيدا عن تابوهات مخيفة يحملها العسس ومن يأمرهم ليكونوا متلصّصين وحاملي سياط. لهذا أشعر أن المهجر يمنح حرية التفكير ويضاعف المنتج، والدليل بالنسبة لي أنني أمتلك الهاجس والرغبة والمناخ الملائم لأكتب أكثر من ثلاثة أعمال في العام، فيما قد لا تسعف ظروف الروائي الذي بقي في أتون محنة البلد، لكتابة عمل واحد يخضعه لظروف قسرية حتى لا يطاله مقص الرقيب بالحذف والمساءلة".

أما الروائية والشاعرة اللبنانية نسرين بلوط، فتشبّه الكتابة في المهجر بالإزميل الذي يحفر في أعماق القلب، يغشى صداه الحنين، يرتدّ في روح الكاتب نفسه، لتسود حالة الفراغ التام، وكأنّ هوّة سحيقة تجذبه إلى الانحدار، وهو يسعى أن يرتقي منه ليعود إلى وطنه. كما تشبّه بلوط الكاتب المغترب بالطير المهاجر الذي يأنس للدفء في أوطان آخرى في الشتاء، ولكنه لا يلبث أن يُهرَع عائدا إلى موطنه نادما عازفا لحن الانتماء.

تذكر بلوط -التي عاشت في كندا حوالي 12 عاما- أنه تولد في أعماقها إحساس هائل بالغربة، فاتجهت كتابتها تلقائيا للتأمل الفلسفي، والتوحد الإنساني مع الآخرين، في نزعة إنسانية صافية تتماهى مع العصر ومقتضياته.

بالحديث عن أعمالها التي أنتجتها في المهجر، تقول صاحبة رواية "الخطيئة": كتبت ديواني الأول "أرجوان الشاطئ" في كندا، وعندما عدتُ إلى الوطن، كنتُ كمن يطلّ على كهوف ومغاور تضيق طورا وتتشعّب طورا آخر، مفعمة بعطر الماضي ومثقلة برائحة الحاضر. كانت هناك تحدّيات جديدة على قلمي أن يخوضها، منها التأقلم مع الواقع الجديد الذي ألمّ بالأوطان العربية بعد الحرب واختلاف طبائع الناس عن السابق، فجاء ديوانيّ: "مهربة كلماتي إليك" و"رؤيا في بحر الشوق". وقد قادني عشقي للرواية أن أكتب روايتين هما: "مساؤك ألم" و"الخطيئة"، وكنتُ أنبش فيهما في التاريخ وكأنّي أسترجعُ الزمن الذي ضاع مني.

‪وليد السابق يعترف أن الوطن والاغتراب حاضران في كل ما يكتبه‬ (الجزيرة)
‪وليد السابق يعترف أن الوطن والاغتراب حاضران في كل ما يكتبه‬ (الجزيرة)

تراجيديا صامتة
أما الروائي السوري وليد السابق، المقيم في كندا، فيقول إنه يحيا على تخوم عالمين، حين استُبدلت شمس دمشق بثلوج كندا، روح في دمشق وجسد في كندا، ويذكر أنه أصبح لمناجاة المدينة بكل زواياها وشوارعها وذكراها -حتى الحزينة- بُعد صوفي يختزل رفض النفس انفصالها القسري عن مساكنها، رفض اللسان والعين والقلب اغترابها. رفض يغدو مع الزمن، كشكوى الحبيب إلى الحبيب.

عن تجليات الغربة في أعماله وتأثيرها عليه، يقول السابق إن الوطن والاغتراب ظهرا في نصوصه عموما بحيث يكاد لا يخلو نص شعري من ذكر دمشق، وسهل الجنوب. وظهر أيضا في رواية "أصل العالم" حيث يغترب يوسف عن البلدة إلى المدينة، يكون اغترابه قسريا هاربا، ناجيا بحياتهِ، وفي رواية  "ما بعد الخطيئة الأولى" التي يغترب فيها جابر بين الريف والمدينة.

تتحدث الشاعرة والروائية الفلسطينية هناء عبيد -المقيمة في الولايات المتحدة– عن المهجر باعتباره يمثل للبعض مكانا لتحقيق الأحلام وحرية من سجن الوطن، وقد يكون هناك من يجد ضالته في اكتشاف الآخر، بينما يكون لآخرين مصدر غربة موحشة ووحدة قاتلة وحرمان  من الأهل والأرض.

أما على الصعيد الشخصي، فتقول عبيد "كان للغربة تأثيرها الكبير على روحي، فحملت القلم ثانية بعد أن أهملته في ربوع الوطن. لقد بكى القلم الأماكن التي رحلت عنها، وعبقت مفرداتي بالشوق إلى الأحبة الذين فارقتهم. كيف لقلمي ألا ينبش الذاكرة والحنين إلى كل ركن كانت تعج به شقاوة طفولتي؟! وكأن في البعد عن الوطن انفتاح جراحات، وتدفق حنين وانفجار شوق".

المصدر : الجزيرة