ثقافة بالتنقيط

ما زلنا نزين بيوتنا ببعض الرفوف الأنيقة ونملؤها بالكتب، وبين حين وآخر نقرأ بعض السطور أو الصفحات لنعتبر أنفسنا قراء مثقفين دون أن ننتبه إلى أننا نعتمد ثقافة التنقيط.

علي البتيري

أستسمح المهندسين الزراعيين إذا ما دخلت في مقالتي هذه اختصاصهم، وقلت إن عدوى الحضانة الزراعية في البيوت البلاستيكية، المعتمدة على الريّ بالتنقيط من خلال أنابيب مليئة بالثقوب قد انتقلت إلى بيوتنا الإسمنتية.

فما زلنا نزين بيوتنا الكبيرة والصغيرة ببعض الرفوف الأنيقة التي نملؤها بالكتب، وبين حين وآخر يمكن أن نعمل على تهوية تلك الكتب، ونفض الغبار عن أغلفتها، ومن ثم نقرأ بعض السطور أو الصفحات في أحدها لنعتبر أنفسنا قراء مثقفين دون أن ننتبه إلى أننا نعتمد ثقافة التنقيط.

ولولا حرص البعض على أن يظهروا أمام ضيوفهم مظهر المثقفين المحبين للقراءة واكتساب المعرفة، لما فتحوا كتابًا من الكتب والمجلدات التي اتخذوا منها زينة معاصرة يحلون بها صالوناتهم أو يتحلون بها أمام ضيوفهم.

ربما تكون الصراحة في الحديث حول هذه المسألة مزعجة أو محرجة، ولكنها الحقيقة المقيمة في معظم بيوتنا العربية، ما دامت العقول متكاسلة، والرغبة في القراءة الحرة معدومة أو شبه معدومة.

يبدو أن التقنية المعمارية الحديثة في بناء الفلل والبيوت لدينا استفادت مظهريًّا من حضارة الأمم المحبة للقراءة، فعمدت لتصميم خزانة حائط لمكتبة الأسرة، تكون ممتلئة بما هب ودب من الكتب والمجلات، وتعكس مظهرا ثقافيا تقليديا يوحي بأن الأسرة في مجتمعاتنا العربية أصبحت مثقفة واعية تعشق المطالعة وتهتم بمسألة البحث عن المعارف والمعلومات في بطون الكتب.

إذا كان الهدف من تصميم واجهات الكتب الأنيقة في بيوتنا التظاهر بالقراءة وتثقيف الذات، فتلك مصيبة ثقافية، وعدم وجود هذه الواجهات المتبرجة بالمعرفة الغامضة ربما يكون مصيبة أقل

أين المفتاح؟
وإذا ما لاحظ أحد الضيوف أو الزوار أو حتى الأقارب تركيب أقفال على خزانة الكتب وإقفالها بإحكام كانت الحجة جائزة، حيث التذرع بحمايتها من عبث الأولاد والبنات، والمهم في هذا الأمر أين يوضع المفتاح ومع من؟ وكم عدد المرات التي يستعمل فيها لإخراج كتاب وكم عدد أفراد الأسرة الذين يسألون عن المفتاح.

إذا كان الهدف من تصميم واجهات الكتب الأنيقة في بيوتنا التظاهر بالقراءة وتثقيف الذات، فتلك مصيبة ثقافية، وعدم وجود هذه الواجهات المتبرجة بالمعرفة الغامضة ربما يكون مصيبة أقل، بامتناعنا عن التباهي الزائف والادعاء الثقافي الفارغ.

لقد شبهنا هذه الحالة بالمزارع الذي يعتمد تقنية التنقيط لري مزروعات البيوت البلاستيكية، وما دمنا في معرض التشبيه لا بد من المقارنة، فلعل في الأمر وجه خلاف أو اختلاف لا بد من معاينته أو إلقاء بعض الإضاءة عليه.

وبشيء من التأمل والتروي نكتشف أن هناك فرقًا بين صاحب الصالون المعرفي في بيته، الذي غالبًا ما يعتمد التثقيف بالتنقيط البطيء والمتقطع، وبين المهندس الزراعي الذي يتعهد مزرعته في البيوت البلاستيكية بالتسميد والسقي المتواصل بطريقة التنقيط وإزالة الأعشاب الضارة، وحمايتها من الحشرات والآفات الزراعية التي قد تضر بمحصوله أو تقضي عليه.

شهية القراءة
ولو كان المثقف العربي الذي يثقف نفسه بالتنقيط يبذل من الجهد ما يبذله المهندس الزراعي، ويتعهد خزانة كتبه بالتهوية والقراءة وجني ما فيها من ثمار معرفية، لاستقام الأمر، ولصلح الحال، ولما بقي لثقافة التنقيط المتواصلة مشكلةٌ أو إشكال.

عندها سيرى صاحبنا الضيوف المبهورين برفوفه المكتنزة بالكتب والمجلات، متشوقين لإمتاع أسماعهم بما عند مضيفهم من ألوان الثقافة والأدب وسائر أنواع المعرفة، وحين يحصل ذلك سيكبر في نظرهم، وتقوى شخصيته لديهم، ويزيد احترامهم وتقديرهم له، لا بل سيكون في نظرهم بمثابة الرسول الثقافي الأمين الذي يثير لديهم شهية القراءة واقتناء الكتب.

وفي هذه الحالة الإيجابية المنشودة سيتحول صاحبنا المثقف بالتنقيط المتواصل والسليم داعيةً يحمل عدوى ثقافية جميلة تشجع معارفه ومن حوله على القراءة والمعرفة، ولسان حاله يقول:

في طريق العلم لا خوف على
أمّة تقرأ ما خط القلم

إنما الخوف من الجهل على
أمّة تجهل ما تدري الأمم

بقي أن نقول إن حالة انعدام الوزن الثقافي القابلة للتعديل أو الإصلاح أفضل، وأقل خطورة من حالة الادعاء الثقافي القائمة على المظاهر والمساحيق والتحايل الثقافي.

المصدر : الجزيرة