"سائق الحرب الأعمى".. محطات الوحشية بالعراق

غلاف كتاب - رواية "سائق الحرب الأعمى" للعراقي أسعد الجبوري
هيثم حسين

يقدم العراقي أسعد الجبوري في روايته "سائق الحرب الأعمى" جانبا من النظرة المقيّدة التي ينظر بها الغربي إلى العالم العربي في أزمنة الحرب والسلم، وكيف أنه يقوم بتأطير العربي في عالم الوحشية والصحراء غالبا، ويسبغ عليه تهويلاته وتهويماته في الوقت نفسه، ذلك أن عالمه يكون مبنيا على الخشية والخوف من الآخر.

يسرد الجبوري المقيم بالدانمارك في روايته -التي نشرتها دار نوفاليس بالكويت (2015)- على لسان جندي أميركي مختطَف في العراق يستعيد شريط حياته، ويحاول التلهي عن مأساته بخلق عوالم متخيلة، وتصوير نفسه منقذا للبلد من جهة، ومتسببا في نكباته ومصائبه من جهة أخرى، ويوقن بأنه في ساعته الأخيرة، فيحاول تطهير نفسه بالاعترافات، ويتخيل كيف كان يبقي إصبعه على الزناد، متربصا بأية حركة، مذعورا من فكرة الفتك المحتمل به.

عنف الرمال
يصور الروائي الحرب كأنها حافلة يقودها سائق أعمى يسير بالبلاد إلى الهلاك، والسائق يتشعب رمزيا بين أكثر من جهة، فهو يرمز إلى ابن البلد الذي ينساق وراء الثأر والانتقام، وينخرط في حروب متناسلة لا تهدأ، وهو الزعيم الذي يدفع بالشعب إلى الاقتتال ويشحن بعضهم ضد بعضهم الآخر، كما أنه يرمز إلى الغازي الذي يقود البلاد إلى مستنقع الفتن والدمار.

الروائي يصور الحرب كأنها حافلة يقودها سائق أعمى يسير بالبلاد إلى الهلاك، والسائق يتشعب رمزيا بين أكثر من جهة، فهو يرمز إلى ابن البلد الذي ينساق وراء الثأر والانتقام، وينخرط في حروب متناسلة لا تهدأ، وهو الزعيم الذي يدفع بالشعب إلى الاقتتال

ويرصد صاحب "ديسكولاند" واقع أسرة أميركية صغيرة، ينشغل فيها كل فرد بنفسه، ويكون هناك شرخ في العلاقة بين أفرادها في كثير من الأحيان، وإن كانت المظاهر توحي بأنهم في تكاتف وتآلف، لكن الوقائع تؤكد أنهم في اغتراب عن بعضهم بعضا، وكل فرد ينأى بنفسه في عالمه بعيدا عن الآخرين.

تتمحور حياة الأسرة حول ولديها، أديث وزولا، فأديث فتاة انقلابية، ربطت حياتها بالمزاج والعبث والفوضى، درست الأساطير رغبة منها للبحث في تاريخ الشخصيات الأسطورية التي لا تزال تلقي بظلالها على بعض جوانب الحياة المعاصرة. يصفها الراوي، الذي يتماهى مع أخيها زولا في كثير من المقاطع، أن عقلها مركّب بفظائع، ومخيلتها فياضة بالأساطير إلى حد أنها تقوم باختلاق شخصيات وهمية يمكن أن تضيفها إلى تاريخ الأساطير افتراضيا.

الجندي زولا الذي يجد نفسه في حرب تقضي على الأخضر واليابس، يبقى محاصرا بوساوسه القاهرة، ويتخيل موته المحتم على يد مختطفيه، ولا يفتأ يكيل لهم التهم، ويبقيهم أسيري النظرة المقيدة والأحكام المسبقة التي تؤجج العداء وتديم الاستعداء. يخوض رحلة الحرب الكابوسية في صحراء الخليج، يعاني عنف الرمال المتحركة، وسطوة الخوف، وأسطورة الحفاظ على الحياة وسط دوامات الموت والجنون.

ويبحث بطل الرواية الأميركي عن أسطورته الشخصية، فيحاول خوض تجربته الخاصة المختلفة ويكون مسكونا ببعض أوهام أخته حول أساطير الشرق، وينضم إلى الجيش الأميركي في حرب الخليج الأولى، ساعيا لاكتشاف العراق عبر منظار القوات العسكرية الأميركية، ويروي كيف كان يتم التعامل مع البلد وأهله ومعالمه كأهداف عسكرية، ثم اختلافه عن غيره وبحثه في عالم الصحراء واكتشاف أنواع مميزة فريدة من الحشرات، ثم نشره بحثا علميا عن ذلك، ليغدو مستكشفا في حين أنه جاء غازيا ومحاربا، ما يدفع السلطة العراقية إلى الاستعانة به لإجراء بعض التجارب العلمية.

يتلقى الأميركي صدمة قاصمة، فيجد أن كل ما استخلصته المختبرات العراقية من نتائج بحوثها على تلك الزواحف قامت بتطبيقه على البشر مباشرة. لم يكن نجاح التطبيقات على البشر هي النقطة الفاصلة، بقدر ما أن الأهم بالموضوع كله، هو إنتاج مخلوقات من طراز جديد، لا يمكن لأحد التفاهم معها بشكل طبيعي.

ثم في النهاية يكتشف أن الشريط الذي مر بخياله سرعان ما احترق بداخله فجأة، عندما وجد المختطفين يحررونه من قيوده، بعد أن تم تعليقه بواسطة ملاقط حديدية عملاقة على حبل غسيل في كهف مظلم، وأغلقوا الباب عليه وذهبوا تاركين معه أفظع أنواع الوحوش ضراوة: الصمت ومجموعة من الزواحف التي أتوا بها من الصحراء.

وحول الفتن
يحدد صاحب "اغتيال نوبل" الزمن بداية بنهايات فبراير/شباط 1991، ثم يكون الاستطراد والتركيز بعد ذلك على توصيف أجواء حرب "عاصفة الصحراء" إبان الغزو العراقي للكويت، مرورا بالأهوال التي شهدها العراق تاليا، وصولا إلى اللحظة الراهنة التي كانت مقدماتها ألغاما موقوتة في بنية المجتمع العراقي.  

بطل الرواية حاول التعاطي بواقعية مع أحلامه وأوهامه، وفي لفتة منه إلى المقارنة بين الأمل والأمن وضرورة كل منهما للعالم، يقول كنا نتحدث عن الأمل فقط، وذلك الأمل ليس له وجود بالأصل، لا في العراق ولا في أميركا. فما ينقص البشرية هو الأمن ليس إلا

ويصف الغازي الأميركي بغداد بأنها كانت تشتد حرا واختناقا بجميع صنوف القهر والإرهاب والبؤس. ويشير إلى أن العراقيين لم يتخلصوا من جهنميات الحروب بعد، ولكنهم من الشعوب النادرة التي جعلت الموت طريقا للحياة، وليست قبرا لها. وعن العراقي يقول "كل الفلزات التي أنفقتها الحروبُ حديدا وفولاذا ورصاصا، وكأنها دخلت في تكوين عموده الفقري ليكون مصفحا، ويتحمل أعنف الأهوال وأشد العواصف خرقا للقوة".

يحضر التحذير على لسان أحد العراقيين، منذرا من مغبة القادم وفظاعته، ومشيرا إلى أن الدكتاتور سقاهم من الكأس التي شرب منها، وينذر من استمرار الاحتراب والاقتتال بشتى السبل، ولا سيما بالبصاق الذي يصفه بأنه سيكون أهم من النفط، وذلك في إشارة إلى تخلي كثيرين عن الارتباط بالأرض والقيم، والانسياق وراء شهوات القتل والجنون والثأر، في محاولة لتشويه مستقبل البلد، ومفترضا أن ذلك يستوجب المعاقبة، وأن المذنب يستحق أن يكون في مرمى بصاق الآخرين، ولكن الفجيعة تكمن في تعمم الذنب وتفشي الخطايا، بحيث أن الجميع يغرق في وحول الفتن ومقدماتها وأذيالها وتشعباتها.

ويصغي الأميركي متأخرا إلى محدثه الذي يتهمه وبلاده بأنها في حروبها شوهت التربة والعقل والعواطف بالأسلحة الكيميائية المحرمة وسواها، ولم تنج نخلة أو سمكة أو جنين أو حجر أثري من التشوه الجيني، وأن بلاده لاحقا ضربت العصب المركزي لجميع السلالات النباتية والحيوانية والآدمية بالخلل.

يحاول بطل الرواية التعاطي بواقعية مع أحلامه وأوهامه، وفي لفتة منه إلى المقارنة بين الأمل والأمن، وضرورة كل منهما للعالم، يقول كنا نتحدث عن الأمل فقط، وذلك الأمل ليس له وجود بالأصل، لا في العراق ولا في أميركا. فما ينقص البشرية هو الأمن ليس إلا.

ويربط الروائي بين الداء والدواء، وحالة أن دواء المعتدي يكون داء في حقيقته، يفتك بالأجساد والأرواح، ويزرع الفتن بين الناس، وتدخل معه البلاد نفقا من الأنانية والاستعداء، وينقاد الجميع وراء جنون الحرب والتنكيل بغيرهم. 

المصدر : الجزيرة