"إنسانية للمشاطرة".. بطاقة سفر نحو الآخر
نزار الفراوي-الرباط
ينأى الكاتب عن الأسلوب الحجاجي الجاف في تناول قضايا حارقة وشديدة الراهنية، بحيث تتخذ بعض النصوص طابع بطاقات سفر أو مذكرات شخصية لفاعل ثقافي نشيط في المشهد المغربي والمتوسطي. مشاهد، لقاءات، مصادفات، أشياء من اليومي والمعتاد، يقلب أحمد مسعية النظر فيها ويستنبط منها الأسئلة الأكثر عمقا وإحراجا على لسان مواطن قد يوجد في المغرب، في المتوسط، في العالم العربي والاسلامي، بل في مجمل مناطق العالم.
لحظة حضارية
وكما يقيم أحمد مسعية انسجاما بين الوقائع العادية والرؤى الفلسفية العميقة، تتجاور بشكل متميز في نصوصه لغة أدبية، سردية وشاعرية أحيانا، حين يصف ويحكي، مع نفس تقريري برهاني، حين يفكك ويرافع بشأن قضايا مصيرية، وجودية وقومية أحيانا، وإنسانية دائما.
عبر هذه النصوص تنجلي روح كاتب مهموم باللحظة الحضارية العصيبة التي يعيشها العالم، من خلال قضايا تتخذ طابعا محليا أو إقليميا (المتوسط، العالم العربي) أو كونيا. وهي قضايا يعرف مسعية كيف يقاربها من زاوية احتكاك شخصي مباشر ليبلورها في صيغة رؤى وتأملات عميقة، ذات نفس نقدي جذري واستشرافي. إنها قضايا العيش المشترك باختصار، في إطار العدالة والاعتراف المتبادل، التي يراها الكاتب صلب مستقبل العلاقات بين المجموعات البشرية التي تشطرها السياسات والإيديولوجيات، ويقسمها سوء الفهم والتطرف والرهاب.
داخل مطار أوروبي، يتأمل كيف أصبحت هذه الفضاءات التي شيدت لتربط عواصم العالم ومدنه وتختزل المسافات، بؤرة للخوف المركز والحذر المرضي. لا يطمئن المرء لطلب مساعدة من مسافر عابر، لا يأمن حقيقة حقيبة تحمل شبهة انفجار موقوت، لا يطمئن لوشوشة قد تنبئ عن عملية إرهابية قيد الإعداد، بل لا يسلم الواحد من الوصم، فقط لأنه ذو لون أو اسم يحيل إلى المنطقة التي تسبب "الصداع" للغرب. بحنين جارف، يتذكر الكاتب حقبة كان خلالها يتأبط حقيبة ظهر خفيفة ويذهب للقاء العالم.. بلا حدود ولا نقاط تفتيش.
في قاطرة ميترو بباريس، يوثق مسعية بحسٍّ لاقط تفاصيل مشهد شاب فرنسي من أصول مغاربية في حالة انفعال هستيري، يلعن فرنسا ويتوعد الفرنسيين أمام ذهول الجميع ورعبهم. يرى في ذلك نموذجا لفشل اندماج اجتماعي واقتصادي وثقافي أيضا. فرص العيش تضيق وحرب ثقافات تندلع في ذوات أبناء الجيل الثالث من المهاجرين العرب في أوروبا.
يعود الكاتب إلى ما يؤمن به دائما ويحضر في جل كتاباته: لا ملائكة على الأرض في جهة، ولا شياطين في جهة أخرى، بل أفراد وجماعات تقتسم ذاكرة كوكب ومستقبله |
ملائكة وشياطين؟
أما على سفينة تقل مثقفين ومبدعين متوسطيين في إطار مشروع ثقافي تحت عنوان "الأوديسا"، فإن الكاتب الذي شارك في الرحلة المهداة للسلام عبر موانئ المتوسط شمالا وجنوبا، يتأمل في الكيلومترات القليلة التي تفصل الضفتين. مسافة قصيرة لكنها مزروعة بالشك والتنافر والرهاب، حد فاصل بين عالم الرفاه وعالم الفقر، أريد له أن يعاكس إرثا تاريخيا وثقافيا مشتركا.
يحكي المؤلف ويحلل بأسلوب "بيداغوجي" سلس، يتحدث باسم ذات فردية وجماعية تعطلها الكوابح الداخلية والخارجية، لكنه لا يعفيها من المساءلة والنقد لتجاوز مأزقها الحضاري. يعرض في الوقت نفسه لذهنية الآخر وخلفيات وجهه المتمدن الذي يتداخل مع سلوكه العدواني أحيانا، فيعود إلى ما يؤمن به دائما ويحضر في جل كتاباته: لا ملائكة على الأرض في جهة، ولا شياطين في جهة أخرى، بل أفراد وجماعات تقتسم ذاكرة كوكب ومستقبله.
يضرب الكاتب إذن بمعول النقد في اتجاه مزدوج. وهو يقارب ظاهرة العولمة، يتناولها في وجهيها: وجه قرية كوكبية مفتوحة على التواصل والتعبير العابر للحدود، ووجه قوى مسيطرة في السياسة واحتكاريات كبرى في الاقتصاد وضغوط للهيمنة على إنتاج الثقافة والرموز. أمر لا يجدر أن يكون واقعا مسلما به، بل حالة للتجاوز عبر تحرير الطاقات الإبداعية والإيمان بقدرة الثقافة على صنع التغيير الإيجابي في حياة شعوب الجنوب.
يذكر أن أحمد مسعية معروف كناقد مسرحي وباحث جامعي، وقد شغل مهمة مدير معهد التكوين المسرحي والتنشيط الثقافي في الرباط، وصدر له سابقا مجموعة كتب من بينها "رغبة في الثقافة"
و"دليل المسرح المغربي" باللغتين العربية والفرنسية.