"نجمة" لكاتب ياسين.. بحث مستمر عن الهوية الجزائرية

غلاف نجمة لكاتب ياسين

هيثم حسين

بعد 58 سنة على صدورها بالفرنسية سنة 1956، ما تزال رواية "نجمة" للجزائري كاتب ياسين (1929 – 1989) متجددة مثيرة للكثير من الأسئلة عن الثورة والتمرّد والهوية والتركيبة الاجتماعية والحب والبغض والجنون، عن الجزائر التي تظلّ نجمته الأثيرة.

يرسم ياسين في روايته "منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف" ترجمة السعيد بوطاجين، وجوهاً مختلفة للحب، "يؤسطر" محبوبته، لا يحاول إسباغ صفات القداسة عليها ولا تنزيهها من الأخطاء والشوائب، بل تراه يذكر بعض صفاتها الأخرى، تلك التي تجعل منها أسطورة شخصيّة تختزل التقديس دون أن تكون مطهّرة من التدنيس أيضاً.

المراد والمشتهى
مَن هي نجمة..؟ هل قدّم ياسين عبرها الصورة الملعونة أم المعظمة..؟ هل هي حقّاً امرأة أحبّها الكاتب أم أنها جزائره الخاصّة التي يرسمها في مخيّلته..؟ ألا تجسد نجمة سؤال الهوية والوجود بالموازاة مع صحراء العدم..؟ هل كانت صورة الضحية في هيئة جلاد أم أنها رهينة الجهل والتخلف واللامبالاة..؟

يستهل ياسين أحداث روايته بهرب بطله لَخضر من السجن، وعدم اكتراثه بما قد يتعرض له من ملاحقة ومحاسبة ومحاكمة، لأنه يكون مسكوناً بهاجس أكبر وأهم يتلبسه ويتحكم به ويقوده إلى غده، نابشا طيات ماضيه، باحثا عن تلك التي سلبت الألباب والقلوب، عن "نجمة" التي تكون المراد والمشتهى، المرأة التي تأسر عشاقها، ولا تسلّم نفسها لأحد.

الجزائر بجميع مكوناتها، بعطائها وجمالها وتنوعها، تكون النجمة التي يهيم بها عشاقها ولا يقدرونها حق قدرها، فتبتعد النجمة، وقد تنتقل من حضن إلى حضن، سواء من محتلّ إلى مستعمر، أو من مستعمر إلى مستبد

بضعة شباب (مراد، لخضر، رشيد، مصطفى) تجمعهم روابط الدم، تتقاطع دروب حياتهم وهم يدورون في دائرة الهوية والجذور والأحلام معا، مع أن كل واحد منهم يحاول أن يختط لنفسه سبيله الخاص وسط ألغام الماضي والواقع والمستقبل. يجدون بعض العزاء والمواساة في الهروب إلى عالم الكحول والحشيش، لكنهم يظلون متشبثين بحلمهم الذي يقض مضاجعهم ويدفعهم إلى أقصى درجات التمرد والثورة.

نجمة تكون ابنة امرأة فرنسية يهودية يتم اغتصابها من قبل أحدهم، ويظل الشك يحوم حول شخصيته التي تظل مجهولة، ويحار أبطال الرواية من منهم يكون أخاها، وتراهم يغرمون بها كنموذج للمرأة المشتهاة، لكنها تظل عصية على التقييد، ويأتي اختطافها من قبل زنجي يدخلها في نساء قبيلة "كبلوت" كتحصين من جهة وإبعاد من جهة ثانية، مع ما يوحي به من فشل في إقامة علاقة سليمة بعيدا عن سفاح القربى وما قد يخلفه من تشوهات نفسية وجسدية.

شخصيات الرواية تعكس وجوه البلاد، سواء من جهة الشباب الثائر، أو المحطّم، أو المتوجه إلى هاوية اليأس، وكل شخصية بدورها تكون مرآة للأخرى، تراها تتكامل لترسم خريطة بلاد يتناهبها الاستعمار، ويحرص على إدامة تأليب أهلها ضد بعضهم بعضا، مستخدما أدواته للهدم والتدمير وخلق نماذج بحسب رغبته ومشيئته وتخطيطه.

الجزائر بجميع مكوناتها، بعطائها وجمالها وتنوعها، تكون النجمة التي يهيم بها عشاقها، ولا يقدرونها حق قدرها، لذلك يتخبطون في قواقع مقيدة، فتبتعد النجمة، وقد تنتقل من حضن إلى حضن، سواء من محتلّ إلى مستعمر، أو من مستعمر إلى مستبد. هكذا يكون تحذير ياسين بمثابة صرخة روائية مدوية في فضاء الواقع والتاريخ والمستقبل.

الأحلام والآلام
يستحوذ البحث عن الهوية الوطنية على اهتمام ياسين الذي كتب بالفرنسية التي عدّها "غنيمة حرب"، وتفوق بها محققا إنجازات لافتة في عالم الأدب، وأوصل رسائله إلى الآخرين.

يرنو ياسين إلى الجزائر التي تكون حلمه الأعظم، ولا يتغاضى عن الكوابيس الواقعية، يشير إلى مواطن الآلام والأدواء، يشخص العلل روائيا وأدبيا، ويوجب استنفار القوى للحيلولة دون التخبط في مستنقعات اليأس والضياع.

لا ينقل ياسين القتل الذي كان المستعمر يمارسه بشكل مباشر، بل صوّر تداعياته ومخلّفاته، وبخاصة التشويه الذي طال البشر والمدن، وهدد بتفتيت التركيبة الاجتماعية

لا يمكن لأي دارس إغفال السياق التاريخي الذي كتب فيه ياسين "نجمته"، ولاسيما حال الثورة الجزائرية المستمرة حينذاك، والتضحيات الكثيرة التي كانت تقدمها، وواقع التشرد والهجرة لديه، واشتغاله لسنوات عليها، مع ما يرافقه من تغيرات عالمية كبيرة كان لها تأثير واسع على بلاده. ومن هنا تنفتح الرواية على أبعاد تأريخية، لكن بطريقة لماحة، بعيدة عن المباشرة والتسجيل.

لا ينقل ياسين القتل الذي كان المستعمر يمارسه بشكل مباشر، بل صوّر تداعياته ومخلّفاته، وبخاصة التشويه الذي طال البشر والمدن، وهدد بتفتيت التركيبة الاجتماعية، بحيث أن آثار المستعمر الإجرامية تجلت في كثير من التفاصيل الحياتية، وكأن حالة السفاح تعممت لتنخر بنية المجتمع وتنسفها. وتكون الرواية بالنسبة إليه وسيلة مقاومة ومجابهة وصمود وتحدّ، ولاسيّما من خلال الإخلاص للقيم الوطنية، والتشبث بالحلم ببلاد تليق بتضحيات أبنائها.

في الإطار الفني، يقسّم ياسين روايته إلى عدّة أقسام، وكلّ قسم إلى عدّة فصول متفاوتة الطول. يبدو بعضها مكتوباً بطريقة ممسرحة، حيث الجمل القصيرة المعبرة، والتتابع والتعاقب، وسرعة الانتقال والتبدل، في حين يحضر في بعضها الآخر اشتغال على السرد وتهجينه بالشعر، وبث المناجيَات ذات الدلالات الواقعية والإشارات المنطلقة في أكثر من اتجاه.

يصهر ياسين الفنون في سياق روايته، إذ يوظّف الشعر والمسرح والدراما والموسيقى والتشكيل، بالإضافة إلى التاريخ والجغرافيا والأنساب، ليحبك الأحداث، ويوظّف المعارف، ويخلق عوالمه الفريدة التي تكون مزيجا من واقع وحلم وأمل، وإن كان عبر فصول صاخبة، هادرة، متمرّدة، مطعّمة بالعبرة والإيلام معا.

المصدر : الجزيرة