ما حققه دان براون وما حققناه

تصميمي مقال - أمير تاج السر / لن أمل ولن يمل غيري من تأكيد ضرورة الانتباه لصناعة الكتاب في الوطن العربي، وضرورة التركيز على الكتابة الراقية وتشجيع القراءة ببرامج دورية ومكافآت مجزية

أمير تاج السر*

كما هو معروف، فقد استضاف معرض الشارقة للكتاب في دورته الحالية -التي تستمر حتى منتصف هذا الشهر- الكاتب الأميركي المشهور دان براون صاحب رواية شيفرة دافنتشي وغيرها من روايات البحث الثرية في مضمونها ومنحها للمعرفة، وأيضا إيقادها الخيال في دروب مفخخة ووعرة، لم تكن مطروقة من قبل.

لقد قرأ الملايين في كل الدنيا تقريبا -وبمعظم اللغات- روايات دان براون، وكانت ولا تزال من الأعمال التي تتبختر مختالة في سوق الكتاب، مقيمة تحت عناوين الأكثر مبيعا دائما، وأذكر أنني شاهدت في العام قبل الماضي أمام مركز لبيع الكتب في ميلانو زحاما شديدا، استطلعته لأكتشف أنهم قراء اصطفوا هكذا، وسيقفون زمنا طويلا، من أجل شراء رواية الجحيم لبراون ورواية الأفغاني خالد حسيني الأخيرة "وردّدت الجبال الصدى"، حين صدرتا حديثا باللغة الإيطالية في ذلك الحين.

الذين قرؤوا شيفرة دافنتشي التي صدرت منذ سنوات عدة، كعمل أول، ورسخت كاتبها في درب الكتابة بعد ذلك، يلاحظون مدى دقة الكتابة وإتقانها، حين توضع أشياء كثيرة لعلها من نقش الخيال كوقائع تاريخية حقيقية.. تلك الطوائف الدينية القاسية، والأسرار التي لا يعرفها سوى القلة، ويبحث عنها أهل الشر، من أجل الشر وحده.

شيفرة النجاح
هناك كثير من التشويق وكثير من الملامح البوليسية، داخل نص معقد أشد التعقيد، ويجد القارئ نفسه في النهاية يلهث أيضا من أجل أن يسبق الكاتب في وضعه لنهاية النص. صفحات كثيرة مليئة بالحكايات، لكن التشويق لا يزال قائما حتى النهاية.

كانت شيفرة دافنتشي، بلا شك وبما حققته من شبه اكتمال في صنعة الرواية التي يحبها معظم القراء، هي المصيدة التي ألقاها براون من أجل مستقبل كتابته، حتى أصبح هناك من ينتظر كتبه بفارغ الصبر

لقد كانت شيفرة دافنتشي، بلا شك، وبما حققته من شبه اكتمال في صنعة الرواية التي يحبها معظم القراء، هي المصيدة التي ألقاها براون من أجل مستقبل كتابته، حتى أصبح هناك من ينتظر كتبه بفارغ الصبر، ومن يقف في طوابير طويلة لاقتنائها، وهناك في العربية من يكتبون لدور النشر أن تسرع بترجمة أي كتاب يصدر له، وهذا ما يحدث دائما.

إذن كان براون في الشارقة هذا العام، وخاطب جمهورا لا يتوفر لأي كاتب عربي مهما بلغ ثقله، ومهما صنع من تاريخ، وكتب ما لا يكتب، لقد تحدث عن طقوسه، وأنه يكتب بشكل يومي، يستيقظ في الرابعة صباحا، التي يعتبرها وقت الإلهام، ويظل يكتب ساعات الصباح. نعم معظمنا يستيقظ في تلك الساعة، ولكن لأغراض أخرى لا علاقة لها بالإلهام. براون هنا يستيقظ من أجل وظيفة لها عائدها بالتأكيد، حين تكون الكتابة وظيفة حقيقية ومنصفة فلن تمرغ صاحبها في الوحل، وتملأه بالديون، وتجعله يصارع ناشري إبداعه من أجل حقوق لن تسمى حقوقا على الإطلاق لو أدخلت في ذلك التصنيف في أي بلد غربي.

ما حققه دان براون يقودني للحديث عن أهمية كتابته من الناحية الإبداعية، البعيدة عن البهرجة، ومنتجعات "الأكثر مبيعا" التي يعتبر أحد زبائنها الدائمين، فأنا أعتقد أن كتابته مهمة فعلا، ولكنها ليست أهم من كتابات أخرى لعدد من مجايليه، لم يحققوا ما حققه، سواء أكان ذلك في أميركا أو أي بلد آخر، هناك كتابات تغوص في أعماق النفس أكثر، كتابات تحتفي باللغة أكثر، وكتابات لا تنتهج التشويق فقط من أجل متعة القارئ، بل تضع التشويق، وبهارات أخرى، في نفس النص.

فن التسويق
وأستطيع القول إنه يوجد دائما في كل عصر كتّاب هم في الأصل جيدون، يتم انتقاءهم، وتسويقهم بطريقة جبارة منذ نصوصهم الأولى، فيظلون بعد ذلك في ذاكرة القراء لا يبرحونها، بينما آخرون بنفس الجودة أو أفضل، يتم نسيانهم تماما.

لقد شعرت بالأسى فعلا حين أخبرني كاتب صديق ورسالته تنز ابتهاجا، أن روايته الأخيرة باعت ثلاثين نسخة في معرض الشارقة، نفس المعرض الذي يحضره دان براون وخاطب جمهوره

ومشكلة الآداب والفنون أنها ليست الصنعة الأكثر شعبية في المجتمعات، كصنعة الرياضة مثلا، لذلك قلة هم من يصبحون نجوما، بينما في الرياضة تجد مئات النجوم الذين يعرفهم الجميع.

كما أن تذوق القراء يصبح مثل العدوى أحيانا، فتجد رواية مثل الخيميائي لباولو كويلو، على بساطتها، وإحساس القارئ أنها تخاطبه بلغة أقل من لغته، أو تخاطب ابنه الصغير، قد أصبحت في يوم من الأيام، هي الرواية المفضلة، لجميع القراء في العالم.

بالتأكيد إذن كان براون مبتهجا وهو يخاطب جمهورا عربيا لأول مرة في الشارقة، ويكتشف، أو لعله يعرف من قبل، أنه مقروء في بلاد العرب بصورة هستيرية، وقطعا أراد الجميع مخاطبته وجها لوجه، والتقاط الصور معه، وسنجد في ذلك الجمهور المنبهر كتّابا من المفترض أنهم محميون من الانبهار، بوصفهم أنجزوا شيئا في ذلك المجال.

ولأن المقارنات رغم ما تحمله من سطحية وتجهم وسلوك طائش أحيانا، فإنها ضرورية في مثل هذه الأمور، من أجل أن نصنع لكتابتنا العربية مجدا، فلن أمل ولن يمل غيري من الذين يكتبون من ترديد ضرورة الانتباه لصناعة الكتاب في الوطن العربي، وضرورة التركيز على الكتابة الراقية التي تتضمن مجهودا علميا ومعرفيا لإبرازها على كل الأصعدة، وتشجيع القراءة ببرامج دورية ومكافآت مجزية، مثلما فعلت شركة أرامكو السعودية في تخصيص مسابقات للقراءة حققت مردودا عظيما من حب القراءة لدى الشباب في موسمها الثاني الذي شاركتُ فيه.

أخيرا، لقد شعرت بالأسى فعلا حين أخبرني كاتب صديق ورسالته تنز ابتهاجا، أن روايته الأخيرة باعت ثلاثين نسخة في معرض الشارقة، نفس المعرض الذي يحضره دان براون، وخاطب جمهوره.

هنا ثلاثون نسخة تصنع الفرحة في بلاد هي أحق بأن تصنع طقوس القراءة من غيرها، ولكن!

 _______________

* روائي وكاتب سوداني

المصدر : الجزيرة