فيلم "الميدان" وكل هذا الجدل

الكاتب أمير العمري..فيلم "الميدان" من الناحية الفنية ليس فيلما مفككا أو ضعيفا بل عمل قوي ومتماسك، يعبر بكل صدق عن أحداث الثورة المصرية ولا ينحاز أبدا إلى طرف على حساب طرف آخر، ولعل هنا تحديدا تكمن مشكلته
undefined
أمير العمري
 
بمجرد ترشيحه لجائزة الأوسكار لأحسن فيلم وثائقي طويل مع أربعة أفلام أخرى، سرعان ما أثار الفيلم الوثائقي "الميدان" الكثير من الجدل الحاد والصاخب سواء على صفحات موقع فيسبوك للتواصل الاجتماعي، أو عبر الصحف ووسائل الإعلام المصرية.

فقد تعرض الفيلم ومخرجته المصرية التي تقيم في الولايات المتحدة، لحملة ضارية تنتقص من قيمة الفيلم وتقلل من أهميته وتعتبره جزءا من "مؤامرة" أميركية ضد الثورة المصرية والثوار، بل بلغت الاتهامات حد اتهام المخرجة بالخضوع للتوجهات السياسية الأميركية، وهو ما يعني العمالة.

بل إن حصول الفيلم على عدد كبير من الجوائز واهتمام إعلامي كبير في مهرجانات سينمائية مرموقة مثل "صندانص" و"تورنتو" و"نيويورك"، استخدم سلاحا ضد الفيلم، ودليلا على فكرة أنه جزء من مؤامرة غربية لتشويه الثورة المصرية!

هذه الاتهامات لم تأت فقط في سياق تعليقات من بعض الشباب، منهم من يزعم أن الفيلم لا يعبر عن ثورة يناير 2011 بل أن "لا أحد يمكنه التعبير عن الثورة"، بل تورط فيها أيضا عدد من النقاد أو الصحفيين.

المفاهيم السائدة المرتبطة بثقافة المؤامرة تقتضي وحدها تحليلا للسيكولوجية الجماعية وكيف يتلبسها هاجس المؤامرة كلما وقعت في ارتباك فكري وسياسي تغذيه يوميا آلاف المرات أجهزة الإعلام السائدة

وأود هنا أن أقرر أنني شاهدت الكثير من الأفلام التي صنعت عن الثورة المصرية، سواء من التي صنعها مصريون أو أجانب، وسواء عبر شاشات التلفزيون (كما في الفيلم الذي أنتجه تلفزيون بي بي سي البريطاني)، أو خلال عرضها في مهرجانات سينمائية عالمية، ولم ألحظ وجود أي اتهام وجه لهذه الأفلام حينما عرضت في الغرب.

أما "الميدان" الذي فاز بجائزة أحسن فيلم وثائقي في مهرجان دبي السينمائي، فلم يثر فوزه في حينه (ديسمبر/كانون الأول 2013) أي رد فعل مستغرب أو مندهش بل سرعان ما قام كثيرون في الصحافة المصرية بالترحيب بفوزه واعتباره -كالعادة- فوزا لـ"مصر"، وليس فقط لمخرجته ومنتجته جيهان نجيم التي تابعت أحداث الثورة المصرية وتفاعلاتها بدءا من ميدان التحرير منذ 25 يناير/كانون الثاني 2011، وعادت لاستكمال التفاعلات التي حدثت في مصر بعد تولي محمد مرسي رئاسة الدولة وما أعقب ذلك، وصولا إلى 30 يونيو/حزيران وعزل مرسي بعد خروج جماهير غفيرة تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة وتدخل الجيش.

أول الاعتراضات تقول إن ترشيح فيلم "الميدان" للأوسكار وراءه نوع من المؤامرة، فلماذا ترشيح هذا الفيلم تحديدا، وخصوصا أن المؤسسة الأميركية التي تنظم وتمنح جوائز الأوسكار لم يسبق لها قط أن رحبت بفيلم مصري أو توجته بالجوائز، وكانت هناك أفلام يوسف شاهين "العظيمة" لكن أحدا منهم لم ينتبه لها.

هنا يدخل على الخط طرف آخر يصب في نفس اتجاه التشكيك في الفيلم، يقدمون إجابتهم الخاصة على التساؤل السابق التي تتلخص في أن هذا الفيلم فيلم "أميركي" "يتوجه للجمهور الأميركي"، مصنوع على الطريقة الأميركية ويتبع في عرضه لموضوعه منهجا أميركيا، أو في أفضل الأحوال منهجا غربيا، وبالتالي لا يعبر عن الثورة المصرية من وجهة نظر مصرية، بل من خلال تصور أميركي.

ولا بد أنه يحمل -بالضرورة- رسالة سياسية مغرضة مشوهة تدعم الفكرة السائدة في الإعلام الأمريكي والغربي التي ترى أن ما وقع في 30 يونيو/حزيران هو انقلاب وليس ثورة، خصوصا أن مخرجته سبق لها أن صنعت فيلما بعنوان "غرفة التحكم" عن دور قناة الجزيرة في حرب العراق.

الاهتمام الأميركي وغير الأميركي، "السياسي" بما يحدث في مصر وفي المنطقة العربية عموما، كان الدافع الرئيسي وراء الترحيب بمشاركة عدد كبير من الأفلام المصرية والفلسطينية وغيرها في مهرجانات السينما الدولية

هذا ما يقوله كثيرون الآن، ولكن الطريف أن هؤلاء أنفسهم -أي أصحاب نظرية المؤامرة الغربية ضد مصر- يرحبون بفيلم "بي بي سي" البريطاني ويعتبرونه "أفضل ما عبر عن الثورة المصرية"!

المفاهيم السائدة المرتبطة بثقافة المؤامرة تقتضي وحدها تحليلا للسيكولوجية الجماعية، وكيف يتلبسها هاجس المؤامرة كلما وقعت في ارتباك فكري وسياسي تغذيه يوميا آلاف المرات أجهزة الإعلام السائدة التي تردد فكرة واحدة ربما تتناقض مع ما يحدث بالفعل على أرض الواقع، أما الحكم على الأفلام وتقييمها فموضوع آخر!

إن فيلم "الميدان" اختير لجائزة أحسن فيلم وثائقي (وليس روائيا أو قصصيا أو دراميا) في مسابقة الأوسكار باعتباره: أولا فيلما جيدا وثانيا هو فيلم ناطق باللغة الإنجليزية أو يحمل ترجمة بالإنجليزية على شريطه، عرض في الولايات المتحدة خلال عام 2013 (العام موضع التقييم في مسابقة الأوسكار).

ولم يكن حديث بعض الشخصيات التي تظهر فيه باللغة الإنجليزية، مثل الممثل المصري خالد عبد الله -ابن الطبيب المصري اليساري حسام عبد الله المقيم في بريطانيا (وليس في الصين الشعبية!)- أو المخرجة الشابة عايدة الكاشف -ابنة المخرج السينمائي الراحل (اليساري) رضوان الكاشف- بدعة تستحق أن يوصف الفيلم -كما حدث في تعليقات البعض- بأنه فيلم "استشراقي".

فالاستشراق موضوع أكبر كثيرا من موضوع اللغة، بل هو رؤية فكرية وثقافية شاملة تسعى بحسب إدوارد سعيد إلى "تكريس السيطرة الغربية على الشرق". فهل يشكك الفيلم في قيمة وأهمية ما وقع في مصر؟ السبب الذي يسوقه هؤلاء المشغولون بتوزيع الاتهامات هو أن الفيلم يتوجه للمشاهد الأميركي والغربي عموما، وما العيب في ذلك؟

بل إن هذا هو المطلوب من كل الأفلام التي توثق وتتناول موضوع الثورة المصرية، ولم يكن الهدف بطبيعة الحال، أن يعرض الفيلم على الشباب الذين شاركوا في الثورة، فليست هناك أي فائدة من هذا، بل إننا في هذه الحالة سنبدو وكأننا نسير على هدى المثل القائل "بضاعتنا ردت إلينا"!

هناك أيضا -بلا شك- ذلك الاهتمام الأميركي وغير الأميركي، "السياسي" بما يحدث في مصر وفي المنطقة العربية عموما، وكان هذا الاهتمام السياسي الدافع الرئيسي وراء الترحيب بمشاركة عدد كبير من الأفلام المصرية والفلسطينية وغيرها في مهرجانات السينما الدولية (الأوروبية والأميركية) خلال السنوات الثلاث الأخيرة (الشتا اللي فات، الطيب والشرس والسياسي، 18 يوما، فرش وغطا، الخروج للنهار، عمر، يوم ما شفتك..). وقد شاركت هذه الأفلام في مهرجانات: كان وفينيسيا وبرلين وتورنتو ولندن وترايبكا، وذلك دون أن يرتفع أي صوت يتحدث عن "مؤامرة".

وفي ظل هذا الاهتمام السياسي ليس غريبا أن يصل "الميدان" إلى الأوسكار، وليس معنى هذا أنه سيفوز بالجائزة، وحتى في حالة فوزه فلن تكون في الأمر أية مؤامرة، وإلا فهل نعتبر فوز فيلم فانيسا ريدجريف عام 1978 بالأوسكار كأحسن ممثلة -وهي التي عارضت إسرائيل بشدة- نوعا من المؤامرة أيضا؟! بل إن الأمر خضع تماما لآراء نخبة من العاملين في حقل صناعة السينما في هوليوود هم أعضاء الأكاديمية الأميركية الذين يصوتون على اختيار الأفلام بدافع من قناعاتهم وليس بأوامر من "البنتاغون"!

ثانيا: أرى بعين محايدة تماما أن فيلم "الميدان" من أفضل الأفلام الوثائقية التي صنعت عن الثورة المصرية، أساسا، بسبب توازنه الدقيق وموضوعيته وحياديته في عرض موضوعه (وهذه الموضوعية سمة رئيسية من سمات المدرسة الغربية في السينما الوثائقية، وهي بالمناسبة التي تميز مدرسة البي بي سي).

إذن، فما يراه البعض عيبا هو ميزة أساسية من مميزات الفيلم، فالموضوعية أو الحيادية ليست مطلوبة حاليا في ظل أجواء الهستيريا والارتباك والتخبط القائمة حاليا في مصر بين المثقفين ومن هم محسوبون عليهم.

فالمطلوب من وجهة نظر معسكر ما حاليا الانحياز بالكامل لما يحدث في مصر حاليا، فإذا لم يحدث ذلك توجه الاتهامات التي تسعى للتقليل من شأن الفيلم ومستوى مخرجته بدعوى أن فيلمها "ضعيف" و"مفكك" ومجرد "قص ولصق"

ثالثا: يقدم الفيلم موضوعه من خلال ثلاث شخصيات رئيسية لشباب شاركوا في الثورة وأصبحوا الآن يتساءلون بحيرة عن مصيرها ومسارها: الشاب الإخواني (مجدي)، والشاب الذي ينتمي لأسرة يسارية تاريخيا وهو قادم للمشاركة من مجتمع مفتوح ديمقراطي عريق هو المجتمع البريطاني وهو خالد عبد الله، والشاب الثالث وهو أحمد الذي يمثل شريحة الشباب الذي لا ينطلق من منطلقات أيديولوجية معينة بل تشغله فقط فكرة التغيير للأفضل، الحلم بأن ترى مصر نظاما يحقق العدالة الاجتماعية ويحترم الإنسان الفرد، لا مكان فيه للفساد والمفسدين.. أي تحقيق ما قامت من أجله الثورة في يناير 2011.

الشاب الإخواني ثائر على الإخوان، يتهم قياداتهم بالتخلي عن الثورة ومبادئها من أجل السلطة، لا يرضى بتوجيه الاتهامات إلى زملائه الذين رافقوه في "الميدان" ويرفض اعتقالهم، واليساري متفائل بأن التغيير قادم لا محالة بينما يبدو والده -الذي يحادثه من لندن وهو على فراش المرض في المستشفى- متشائما يرى الثورة وقد تراجعت وسقطت إلى الخلف. والثوري الأقرب إلى الطوباوية، يرى أن كل ما يحدث مجرد مرحلة سيعقبها مزيد من الموجات الثورية المتتالية إلى أن تتحقق أهداف الثورة.

غير أن شخصية أحمد هي أكثر الشخصيات تأثيرا وبروزا في الفيلم، فهو ابن الطبقة الفقيرة، ينتمي لأسرة تقيم في أحد الأحياء الهامشية، يرفض الإخوان لكنه يرفض أيضا الحكم العسكري، ولعل هذا الجانب في الفيلم تحديدا، أي رفض وجود الجيش في السلطة أو عودته إليها، هو الذي أقلق الكثيرين ممن شاهدوا الفيلم، فاعتبروا أنه يعبر عن رؤية معينة تدين الجيش، في حين أن الفيلم بالفعل يصور بعض الممارسات القمعية المعروفة التي قام بها الجيش خاصة أثناء حكم المجلس العسكري (في أحداث محمد محمود وماسبيرو وغير ذلك).

الأحداث موثقة بالصوت والصورة هنا ولا يختلف حولها أحد، لكنه يصور بموضوعية تامة ما حدث في 30 يونيو/حزيران، وإن كان يتساءل وماذا بعد، أي ماذا بعد أن وقع ذلك الانقسام، بعد أن أصبح الإخواني الثائر على جماعته مضطرا لأن يذهب إلى "رابعة" حيث يعتقد أنه يقف ضد "القتل"، ويقتنع اليساري بأن المرحلة الجديدة تفرض أيضا أشكالا جديدة في النضال، ويلوح لنا الثوري المثالي الذي يرفض كلا من الإخوان والعسكر، بأن موجة أخرى ستأتي لا محالة.

فيلم "الميدان" من الناحية الفنية ليس فيلما مفككا أو ضعيفا بل عمل قوي، متماسك، يعبر بكل صدق عن أحداث الثورة المصرية، لا ينحاز أبدا إلى طرف على حساب طرف آخر، ولعل هنا تحديدا تكمن مشكلته التي جعلت البعض يوجه له سهام الاتهام.

فالمطلوب من وجهة نظر معسكر ما حاليا الانحياز بالكامل لما يحدث في مصر حاليا، فإذا لم يحدث ذلك توجه الاتهامات التي تسعى للتقليل من شأن الفيلم ومستوى مخرجته بدعوى أن فيلمها "ضعيف" و"مفكك" ومجرد "قص ولصق"، وهو ما يعكس تدنيا لا مثيل له في فهم السينما وفي فهم النقد!
_______________
كاتب وناقد سينمائي مصري

المصدر : الجزيرة