المشهد الثقافي العربي والاستقطاب المزمن

كتب ومراجع تناقش إشكالات الثقافة العربية
undefined

عبد الغني المقرمي
 
تبقى إشكالية التراث والحداثة مسألة مؤرقة في الفكر السياسي والديني العربي، وقد فرضت نفسها بقوة على النخبة العربية بعيد الاحتكاك المباشر بين الثقافة العربية والغربية، وما زاد في حدة هذه الإشكالية أن المؤسسة الثقافية الرسمية العربية ساهمت إلى حد كبير في نقلها إلى دائرة التخندق الفكري.
 
ويعيد سؤال التراث والحداثة طرح نفسه بقوة في المشهد الثقافي العربي من خلال حالة الاستقطاب الكبيرة الراهنة على الصعيد السياسي، كأحد إفرازات مرحلة ما بعد الربيع العربي، حيث بدا التمترس الأيديولوجي الحاد وسط متغيرات السياسة حالة طبيعية لانقسام مزمن واشتباك فكري يعود لعقود.
 
‪طارق باكير: التجليات المتباينة للحداثة أظهرت أن التجديد هو مشروع ضدي‬ (الجزيرة)
‪طارق باكير: التجليات المتباينة للحداثة أظهرت أن التجديد هو مشروع ضدي‬ (الجزيرة)

ملامح عميقة
ويرى الأكاديمي السوري طارق باكير المحاضر بجامعة الباحة في المملكة العربية السعودية أن ملامحَ الانقسام بين هاتين الثقافتين وإن ظهرت على السطح بصورة غير واضحة إلا أنها باتت عميقة، وخاصة لدى النخب المشتغلة في كلا المسارين.

ويؤكد باكير -في حديثه للجزيرة نت- أن التجليات المتباينة للحداثة وخاصة في جانبها السلبي تقف وراء هذا الانقسام، حيث أظهرت التجديد على أنه ليس مشروعا مغايرا فقط، بل وضديا أيضا، مما ولد لدى الطرف الآخر موقفا لا يقل سلبية عن ذلك برفضه لكل جديد حتى وإن لم يتناف مع التاريخ والهوية.

ومن جانبه يرى الأكاديمي التونسي الدكتور محمد الطاهر السبيطلي -في حديثه للجزيرة نت- أن هذا الانقسام يختلف من بلد إلى آخر بحسب المسارات التاريخية للأقطار العربية في علاقتها بالغرب، وبالاستعمار على وجه التحديد.

وتبدو ملامح الانقسام -بحسب السبيطلي، الذي يشغل منصب نائب رئيس تحرير مجلة الإسلام والعالم المعاصر- في مفردات المنتج الثقافي، وحتى في سلوكيات الأفراد وسياسات بعض الحكومات، وذلك بحسب ثقافة النخب المهيمنة، كما أنه وراء الكثير من الظواهر الاجتماعية والسلوكية، وحتى الأزمات التي تمر بها المجتمعات العربية، والتي هي في الغالب أزمات هوية.

ففي حين يغترب الحداثيون ثقافيا عن الهوية، يغترب التراثيون بعيدا عن معطيات العصر -حسب الباحث التونسي- ولذلك ظهر الطرفان جزرا ثقافية معزولة، لا ترى إمكانية تفعيل مشاريعها الكبيرة والصغيرة إلا من خلال العلاقة بحاكم مستبد وخدمته، أو التعامل مع مشاريع ومنظمات وجهات أجنبية.

الانقسام سيزداد اتساعا بسبب الاستقطاب الحاد الذي تشهده الساحة الثقافية بين الفريقين، وبسبب المستجدات السياسية الأخيرة في الشارع العربي والتي لا شك ستنعكس على مجمل الأنساق الفكرية

استلابان
ويرى الباحث اليمني مجيب الحميدي -مؤلف كتاب في فكر الإمام الشوكاني- أن هذا الانقسام من نواتج غياب ثقافة الحرية الحقيقية التي تثمر الإحساس الجاد بمشاكل الواقع ومحاولة معالجتها بعيدا عن الحلول، التي فرضت على الحالة الثقافية نوعين من الاستلاب.

استلاب تاريخي من ضمن أمثلته الخطاب الماضوي الذي يفضّل أن يعيش في التاريخ وبطولاته ومثالياته، هروبا من إحباطات الواقع وخيباته، والثاني يمكن أن نجده لدى المثقف الحديث في اغترابه عن واقعه نحو التجارب  الغربية المعاصرة المتجاوزة لواقعنا والتي ربما لا تتشابه ظروفُها وإشكالياتها مع ظروفنا وإشكالياتنا بصورة مطلقة.

فالمتدين الذي يعيش حالة استلابية تجاه تجربة السلف التاريخية -كما يقول الحميدي- هو الوجه الآخر للمتمدن العربي الذي يعيش حالة استلاب تجاه التجربة الأوروبية، والمشترك بين الطرفين ضعف ثقافة الحرية ورواسب التربية الأبوية والتعليم التلقيني الذي يضعف القدرة على التفكير.

وبينما يرى كل من باكير والحميدي أن هذا الانقسام سيزداد اتساعا بسبب الاستقطاب الحاد الذي تشهده الساحة الثقافية بين الفريقين، وبسبب المستجدات السياسية الأخيرة في الشارع العربي والتي لا شك ستنعكس على مجمل الأنساق الفكرية، مما يؤدي إلى إرباك واضطراب في الأداء الثقافي العربي كله، يبدي الدكتور السبيطلي تفاؤلا بالمستقبل مؤكدا أن الشعوب العربية تتجه في حاضرها نحو توليفة فكرية تنجزها هي في حياتها، تجمع فيها بين العصرنة والوفاء للهوية والتاريخ.

ويقترح باكير للتقريب بين الطرفين تجاوز معرة المصطلحات التي أرهقت الفكر العربي المعاصر كثيرا، وحجبت ما وراءها من منجز إنساني رائع، والعمل على فهم الآخر بعيدا عن العقلية الاستعلائية، والالتقاء في مساحة مشتركة تحترم الهوية وتجل تراثها الفاعل، وتلبي في الآن نفسه أشواق التحديث والعصرنة بما لا يتعارض مع الهوية.

ويشترط السبيطلي لردم الفجوة بين الفريقين اتساع مجال الحرية وبما يمكن الشعوب العربية من فرض تصورها الخاص للعلاقة بين الهوية التاريخية والزمن الذي تعيشه فعلا.

ويرتبط تجاوز هذه المشكلة -بحسب الحميدي- بدقة التشخيص للظاهرة نفسها، فإن كان التعليم التلقيني بشقيه الديني والمدني السبب المباشر لهذه الكارثة فإن بداية العلاج من تصحيح التعليم وتعزيز الجانب الإبداعي منه، وتنمية الفكر الناقد الذي يمنح المثقف الحقيقي حصانة ضد القولبة الميتة والتخندق العابث.

المصدر : الجزيرة