"ساعة التخلّي".. حرب الإخوة وكشف المخبوء

غلاف رواية "ساعة التخلي" للروائي اللبناني عباس بيضون
undefined
هيثم حسين
 
يعود الروائي اللبناني عباس بيضون في روايته "ساعة التخلي" إلى مرحلة مفصلية هامة في تاريخ لبنان الحديث، وهي المرحلة التي شهدت دخول الجيش الإسرائيلي إلى لبنان وانسحاب المنظمات الفلسطينية نحو العاصمة، مما أدى إلى إحداث شرخ في العلاقة المكانية من جهة، والعلاقات الاجتماعية والحزبية والسياسية من جهة أخرى.
 
يقارب بيضون في روايته الصادرة عن "دار الساقي" في بيروت مرحلة مترعة بالمتناقضات، يكون التخبط سمتها البارزة، من مختلف الأطراف، ذلك أن الانسحاب الذي أفسح المجال لقوى ناشئة تهيمن على الساحة مؤقّتا بارتجالية، وبنوع من الطفولية الثورية التي تضر أكثر مما تنفع.
 
أمام تلك الحالة المعقدة يجد عدد من الأصدقاء المتنورين اليساريين أنفسهم في مواجهة واقع مؤلم، يعدمون وسائل تغييره، وهم الذين كانوا مسكونين بأوهام كبرى لتغيير العالم. يتخبطون في تحليلاتهم ورؤاهم وتحبطهم قرارات قادتهم، يتغلغل إليهم التشكيك ويجدون أنفسهم في مواجهة مفتوحة مع أنفسهم وبين بعضهم وبعض.

تحدّ الوقائع التي تجري بوتائر متسارعة من طاقات الأفراد وإمكاناتهم، تشتتهم في دواخلهم، وتدفعهم إلى هاوية الفتنة واليأس والتنازع والاختلاف. تبرز جماعة متطرّفة تطلق على نفسها اسم "اليقظة"، تفرض بقوة السلاح سيطرتها على الشوارع، وتدور رحى حرب وفتن داخلية أشد شراسة وإيذاء من العدو نفسه.

يكتسب السرد عبر تعدّد الساردين سعة ومرونة، يساهم في إعطاء نظرة متعدّدة الأبعاد عن المكان والمرحلة، نظرة تتسم بنوع من الشمولية، التي تنعكس في تنوع الشخصيات وتنوع مشاربها وانتماءاتها

طبقات
يقسم بيضون روايته إلى قسمين، القسم الأول يسميه حصارا، والثاني يسميه تقاطعات. ويثبت في البداية كعادة الكثير من الروائيين ملاحظة ينوه فيها إلى "أن الرواية من نسج الخيال، وإذا اتفق أنها شابهت وقائع وشخصيات فإن هذا من غريب المصادفات".

ينوع الكاتب في مستويات طبقات السرد التي يعتمدها في روايته، ويأتي التنويع في أكثر من اتجاه وطريقة، بداية من حيث تعدد الرواة، يقوم الرواة باستلام زمام السرد، في كل فصل راو، يتعاقب الرواة من غير ترتيب واضح، يقدّمون إفاداتهم عن المرحلة الحرجة، وكأنهم بصدد تقديم شهادات تاريخية للقراء والتاريخ معا عن أحرج المراحل وأكثرها التباسا في منطقة بعينها، ومن الرواة فوّاز أسعد، ونديم السيّد، وبيار مَدْوَر، وصلاح السايس، ومنال حسّون وغيرهم.

ويكتسب السرد عبر تعدد الساردين سعة ومرونة، يساهم في إعطاء نظرة متعدّدة الأبعاد عن المكان والمرحلة، نظرة تتسم بنوع من الشمولية، التي تنعكس في تنوع الشخصيات وتنوع مشاربها وانتماءاتها.

وهذه بدورها تفسح المجال للقارئ للوقوف على تفاصيل الأحداث التي جرت كأنه يستعيدها بدقائقها، دون أن يقع في محاكمة أي طرف على حساب الآخر، لأن كل طرف يحاجج من وجهة نظره، ويقدّم دوافعه ومرافعته، ويشرح مراده بنوع من السجال الفكري الموازي للممارسة العنفية.

المستوى الآخر من التنويع الذي يحضر في الرواية هو التنويع في لغة السرد، علاوة على إنهاض كلّ راو بمهمّة تقديم نفسه بطريقة مختلفة، ويقدم تلك الشهادات أو الوقائع بلغة متنوعة أيضا، تكون الفصول مطعّمة بكلمات من اللهجة المحكيّة وذلك يضفي جوا من الحميمية على الرواية، ويضع القارئ في صلب الصراع الدائر والنقاش المحتدم.

أما تنويع الطبقات فيحتل بدوره مكانة بارزة في الرواية، فيحضر الحديث عن الصراع الطبقي، والصراع ضمن الطبقة نفسها، وبل وتحويل المنزل نفسه إلى مجتمع طبقات، كما في حالة "صلاح السايس"، القائد في الحزب الشيوعي، إذ تتبدى قصة والده ووالدته ذروة في الصراع، وتمثل تاريخا من القمع والعسف ظل يؤثر في نفس صلاح، ويحجمه في داخله، ويرجعه إلى منبتّ يكون خليطا من أكثر من طبقة.

كما تكون التقطعات بدورها حمالة للكثير من الهموم والصراعات، تمارس تحقيبا وتعرية وتقريعا، وذلك في مواجهة علنية ومكاشفة تاريخية. وتكون المصائر المتقاطعة والانتقال إلى بيروت، بعد سلسلة من تصفية الحسابات والخطف والاغتيال تجليا آخر من تجليات الغربة التي تعيشها الشخصيات.

كأنما يرمز الكاتب بعنوانه إلى ساعة التجلي المنشودة، حين يتعرّف كل امرئ أو فريق إلى نفسه في مرآته الداخليّة، قبل أن يدخل في حروب مفجعة مع المحيطين به

مستويات الخطاب 
لا يقتصر اشتغال بيضون على التنويع في مستويات السرد، بل يعتمد تنويعا آخر، وهو التنويع في الخطاب، إذ إن الساردين الذين ينهضون بأدوارهم، يمارسون في الوقت نفسه سلطة الخطاب أيضا، لا يكتفون بالتعبير عن هواجسهم الشخصية، بل يكون كل واحد منهم الناطق باسم فئة أو شريحة، وهنا يكون التلاقي والتنافر بين المخاطبين، كل منهم يستهدف شريحة مجتمعيّة بعينها.

يبلغ التنازع أوجه على مسائل السلاح والانسحاب والمواجهة والمقاومة والخداع والجنس والمستقبل، وتكتسب المفردة نقيضها في واقع مفعم بالتناقضات، يكون دوي الكلمة فيه أكثر تدميرا من قنبلة أحيانا، تنتعش الاتهامات والإشاعات، يتجاوز فيه الناس الأعراف الاجتماعية وتكون اللحظات الحرجة مختبرا للنوايا والسلوكيات معا.

كأن كل امرئ يعيد اكتشاف نفسه والآخرين المحيطين به من جديد، أو كأنه يتعرف إليهم توا، لأن المفارقة تكمن في التصرفات المتباينة.

تتطور الشخصيات، تسير كل منها في اتجاه. يكون الانتقال من المكان ميسمها، لكنها تبقى مرتبطة بتلك الساعة التي تستبطن أبعادا دينية غيبية تشير إلى التخلي عن النجدة والإغاثة من جهة، وترك الآخرين يلاقون مصيرهم دون أي تدخل من جهة أخرى. أي تلك الساعة تبقى زمنا مؤثرا، ولا يقل تأثيرها أو يخبو لأن تداعياتها المريرة تظل فاعلة عبر السنين.

كأنما يرمز الكاتب بعنوانه إلى ساعة التجلي المنشودة، حين يتعرف كل امرئ أو فريق إلى نفسه في مرآته الداخلية، قبل أن يدخل في حروب مفجعة مع المحيطين به، عسى أن تتحول تلك الساعة إلى مواجهة وتصاف لا مجابهة نارية بقصد إدامة التخلي.

المصدر : الجزيرة