عودة الاهتمام بالصحف

تصميم للصحف الأمريكية

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي القادم الجديد على الحي، وفي عام 2016 بدت منصات مثل تويتر وفيسبوك وكأنها على وشك دفع الصحف التقليدية إلى عالَم النسيان والزوال. وفي أعقاب فوز الرئيس دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة، بدا الأمر وكأن وسائل الإعلام الرئيسية لم تفقد خريطتها وأرضها فحسب، بل خسرت أهميتها أيضا.

تولى ترمب قيادة الهجوم المتعدد الأدوات على وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية، والصحف على وجه الخصوص. ولكن العديد من المنتمين إلى عالَم الصحافة سارعوا أيضا إلى الإعلان عن توصلهم -هم أيضا- إلى حد أقصى لعدد الأحرف.

فمع اتهامها بالنخبوية وعدم التزامن مع القراء؛ تراوحت ردود فِعل الصحف إزاء نتائج الانتخابات من جلد الذات إلى الندم والتوبة. وفي خضم ارتباكهم -بسبب الهزيمة من كل الجوانب- تنبأ الخبراء -الذين لم يتمكنوا من فهم انتخاب ترمب على الوجه الصحيح- بأن تراجع المبيعات، وانخفاض عدد القراء، وضعف المصداقية، كل هذا ينذر بزوال الصحيفة كما نعرفها.

تراوحت ردود فِعل الصحف إزاء نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية من جلد الذات إلى الندم والتوبة. وفي خضم ارتباكهم -بسبب الهزيمة من كل الجوانب- تنبأ الخبراء -الذين لم يتمكنوا من فهم انتخاب ترمب على الوجه الصحيح- بأن تراجع المبيعات، وانخفاض عدد القراء، وضعف المصداقية، كل هذا ينذر بزوال الصحيفة كما نعرفها

ولكن بعد مرور أكثر من عام كامل؛ بات من الواضح أن انتصار ترمب لم يكن يعني أي شيء من هذا. بل على العكس من ذلك، تسبب تفوق ترمب في جعل صناعة الصحف أكثر أهمية من أي وقت مضى. ولعل القصة الأكثر لفتا للنظر في وسائل الإعلام عام 2017 هي كيف جعل ترمب -بلا قصد- الصحفَ عظيمة مرة أخرى.

حققت الصحف هذا التحول اللافت للنظر عبر القيام بأفضل ما تجيده: الصحافة الاستقصائية والتقارير العاجلة. فمنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وخاصة منذ تنصيب ترمب في يناير/كانون الثاني من العام المنصرم؛ كانت الصحف في الطليعة بقصص تتراوح بين تضارب المصالح (الذي تورط فيه جاريد كوشنر زوج ابنة ترمب)، وأدلة تشير إلى أن مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي سابقا مايكل فلين اجتمع بالسفير الروسي السابق سيرجي كيسلياك.

دارت منافسة حامية الوطيس بين القصص العديدة حول التواطؤ والمكائد السياسية للفوز بالاهتمام، في ظل مزاعم صارخة تتعلق بسوء السلوك الجنسي أطلقها المنتج هارفي وينشتاين من هوليود، والمرشح السابق للرئاسة الأميركية روي مور، وغير ذلك من الرجال الأقوياء. ولم تقتصر الضربات الموجهة إلى ترمب على الحقائق المزعجة بشأن تدخل روسيا في الانتخابات.

من الأهمية بمكان أن نتذكر أن استثمار الصحف في فِرَق التحقيق السريعة الاستجابة، والقصص المطولة، والصحافة القائمة على البيانات؛ لم يصبح في حكم الممكن إلا لأن المزيد من الناس يدفعون ثمن الأخبار التي تصل إليهم، وخاصة من خلال الاشتراكات الرقمية.

ويساعد جيل الألفية في الغرب -الذي أصابه الجزع من ارتفاع موجة "الأخبار المزيفة"- في عكس اتجاه تراجع أرقام التوزيع في الأسواق الرئيسية. وكانت اتجاهات النمو أشد وضوحا في منطقة آسيا والمحيط الهادي، حيث يتصدر القراء في الصين والهند طليعة العودة إلى الصحف التقليدية.

بطبيعة الحال، لم يكن انتعاش الصحف بعد الانتخابات راجعا بالكامل إلى تدابير من جانبها؛ بل كان أيضا فشلُ وسائل التواصل الاجتماعي في ترسيخ مكاسبها من الأسباب التي سهلت ذلك الانتعاش. ووسط الغموض الناجم عن وهم النجاح في انتزاع كل نفوذ أو تأثير كانت تفرضه الصحف؛ قام خبراء وسائل التواصل هذه بمحاولات خرقاء وغير متقنة للإطاحة بالوسائل القديمة من عرشها.

وبدلا من التقارير العاجلة، اتجهوا إلى صياغة البيانات والتصريحات، مثل مناحة 5700 كلمة التي نشرها مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ حول لا شيء على وجه التحديد. وفي حين مر وقت كانت فيه كتابة 140 حرفا قد تعدّ أكثر جاذبية من كتابة 700 كلمة كمقال رأي، لم يعد الإيجاز كافيا. (أو الإطناب في عدم التماسك والاتساق).

وبعد أن اختُطفت الحقيقة؛ أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي في حيرة من أمرها بشأن ما ينبغي لها أن تفعل بها. فهي لم تبدع مثلا على غرار "باز فيد"، الذي كان ذات يوم مصنعا سيئ السمعة للمحتوى على شبكة الإنترنت، لكنه سرعان ما توسع ليتحول إلى تقديم تحقيقات صحفية جادة وصحافة تحليلية مطولة.

بعد الانتخابات الأميركية، زعزع موقع "باز فيد" أركان صناعة الإعلام بنشره ملف ستيل، الذي يتضمن مجموعة من المعلومات الاستخباراتية الخاصة عن ترمب، جمعها ضابط سابق في جهاز الاستخبارات البريطانية.

ترمب يقود المعركة ضد كهنة الإعلام، مدعوما برفيق مزعج يتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن الحملة التي يشنها ترمب خاسرة؛ فقد اكتسبت الصحف حلفاء حتى في كابيتول هِل (الكونغرس الأميركي). فعندما يشوي الكونغرس المسؤولين التنفيذيين في فيسبوك وتويتر وغوغل، تُصبِح الغبطة واضحة في عناوين الأخبار الرئيسية

وبعد بضعة أشهر، أنتج الموقع مقالا من 8500 كلمة لفضح مايلو يانوبولوس، المعلق النجم السابق لدى قناة بريتبارت نيوز. ووصفت مجلة كولومبيا جورناليزم المقال بأنه "مقال رائد"، وإن كانت المشاجرات الأخيرة مع "سي أن أن" تشير إلى عزوف مؤكد عن قبول "باز فيد" بوصفها منظمة إخبارية شرعية، بل وربما حتى نشوب حرب إعلامية جديدة.

من ناحية أخرى، استمرت أغلبية وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى في إبراز أي هراء رئاسي يهم أو يسلّي مستخدميها، كتحليل كلمة خاوية من أي معنى مثل "كوففيف". وقد دفع هذا كثيرين إلى افتراضٍ مفادُه أن ترمب ذاته يحرك أجندة وسائل التواصل الاجتماعي.

ولعل الأمر كذلك، لكن تغريدات ترمب التي لا تنتهي عن الصحف الفاشلة والأخبار الزائفة، حفزت أيضا المستهلكين الأكثر اعتدالا على تبني الصحف باعتبارها معقلا لمكافحة ترمب. وبعبارة أخرى، كان إحياء الصحف استجابة غريزية -وإن كانت حزبية- لوسائل التواصل الاجتماعي في عهد ترمب.

والواقع أن ترمب -المدعي والمحدث النعمة- يقود المعركة ضد كهنة الإعلام، مدعوما برفيق مزعج يتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن الحملة التي يشنها ترمب خاسرة؛ فقد اكتسبت الصحف حلفاء حتى في كابيتول هِل (الكونغرس الأميركي). فعندما يشوي الكونغرس المسؤولين التنفيذيين في فيسبوك وتويتر وغوغل، تُصبِح الغبطة واضحة في عناوين الأخبار الرئيسية.

ومما يزيد مهانة وسائل التواصل الاجتماعي أن مقالات الصحف هي التي يُقتَبَس منها ويستشهد بها بلا انقطاع في إفادات الكونغرس. فمثلا، جرى تسريب مذكرة مدير مكتب التحقيقات الفدرالي السابق جيمس كوني بشأن تواصله مع ترمب -التي أدت إلى استئجار مدع خاص للتحقيق في ارتباطات حملة ترمب بروسيا- إلى صحيفة نيويورك تايمز.

ومع تنامي النداءات التي تطالب بكبح جماح وسائل التواصل الاجتماعي؛ كانت صحف العالم -التي كان من المتصور حتى عهد قريب للغاية أنها على وشك الانهيار- هي التي وفرت التقارير اللازمة لإقناع صناع السياسات بالتحرك.

ولأن شركات وسائل التواصل الاجتماعي -رغم كل قوتها وإمكاناتها- لم تعمل قَط على تطوير قدراتها الصحفية اللازمة لتمكينها من الحلول محل وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية، فقد تغيَّر الاتجاه لصالح الأخيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.