بم تنذر الاحتجاجات الأخيرة في المغرب؟

النقابات العمالية بالمغرب تطالب برفع الحد الأدنى للأجور 29 نوفمبر 2015..

ثورة الشموع
خدمة صحية إجبارية
الأساتذة المتدربون
نظام التقاعد
مناخ الديمقراطية

لو كان ثمة خيط ناظم لمجريات ما وقع بالمغرب أواخر العام 2015، فسيكون حتما بصدر لافتة الاحتجاج. الاحتجاج على ما آلت إليه الأوضاع العامة، والاحتجاج على ما هو مزمع اعتماده من قرارات قد تزيد ذات الأوضاع تأزما، والشرائح الاجتماعية التي تطالها هشاشة وسوء حال.

والواقع أن الذي باشرته الحكومة الحالية، حكومة العدالة والتنمية، من سياسات وما سنته من قرارات منذ أكثر من أربع سنوات من تنصيبها، لم ينعكس كثيرا على الحياة اليومية للأفراد والجماعات، حتى وإن كان له انعكاس قوي على مستوى الترتيبات المالية الكبرى، ومستوى ضبط التوازنات الماكرو/اقتصادية الحساسة.

ومع أن لهيب هذه السياسات العامة قد طال شرائح اجتماعية واسعة وطيلة هذه السنوات الأربع، فإن "إعادة الثقة" في مكونات الأغلبية الحكومية بالانتخابات الجماعية والجهوية لصيف العام 2015، جعل ذات الأغلبية تنتشي بالنصر وتعتبره شيكا على بياض للاستمرار، فتمادت في اتخاذ ما يعن لها من قرارات، غير عابئة بتبعات ذلك بميزان الاحتقان الاقتصادي والتذمر الاجتماعي، وانسداد الأفق أمام معارضات هشة لم يبق لها من وظيفة المعارضة إلا الاسم.

بيد أن الذي لم يخلد بحسبان الحكومة هو أن ثمة أشكالا احتجاجية باتت تتجاوز المعارضات التقليدية، وقد يكون لضغطها على أرض الواقع وقع كبير، لا تستطيع الحكومة تجاهله أو التبرم عنه، فما بالك غض الطرف عن تداعياته:

في أكتوبر/تشرين الأول الماضي انفجرت "ثورة الشموع" بمدينة طنجة وبكل مدن شمال البلاد احتجاجا على سلوك شركة أجنبية فُوض لها أمر تدبير قطاعي الماء والكهرباء والتطهير فطغت وتجبرت

ثورة الشموع
ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انفجرت "ثورة الشموع" بمدينة طنجة وبكل مدن شمال البلاد احتجاجا على سلوك شركة أجنبية فُوض لها أمر تدبير قطاعي الماء والكهرباء والتطهير، فطغت وتجبرت وفرضت على السكان فواتير شهرية ما أنزل الله بها من سلطان.

لم تلجأ الجماهير بالشمال إلى الأحزاب السياسية، ولا استعطفت النقابات المهنية، بل أنشأت لنفسها تنسيقيات مدنية، ركبت ناصية مواقع التواصل الاجتماعي، لتتحول بالتدريج إلى كرة ثلج لم يتوقف تجوالها بكل شوارع مدن الشمال لحد الساعة، في سابقة لم يعهد المغرب مثيلا لها منذ احتجاجات 20 فبراير/شباط من العام 2011، والتي تزامنت في حينه مع انتفاضات "الربيع العربي".

لم يعر رئيس الحكومة كبير اعتبار لهذه الاحتجاجات، حتى في نجاحها في تحويل ليل هذه المدن إلى ظلام دامس ولأسابيع طويلة، بل تفاخر بأنه هو الذي ثوى خلف الزيادة في الفواتير عندما أوعز للمكتب الوطني للماء والكهرباء برفع كلفة البيع للشركة، وأشار لهذه الأخيرة من أجل تبني منظومة الأشطر التي برعت الشركة الأجنبية (أمانديس سيئة الذكر) في التلاعب بها، ليتحول شطر صاحب المصباح الوحيد ضمن أشطر الشركات والفنادق ذات الحاجة إلى الضغط الكهربائي العالي.

وامتدادا لذلك، لم يتنازل رئيس الحكومة عن موقفه بخصوص مطلب رحيل الشركة وإعادة النظر في فواتير الآلاف من العوائل، إلا عندما أيقظه الملك من نومه ذات صباح باكر وأمره بـ"إيجاد حل للمشكل في أسرع وقت". ومع أن رئيس الحكومة نجح في طمأنة السكان ووعدهم بتدارك اختلالات عدادات الشركة، فإن تراجع الجماهير قد خفف من وطأة النازلة، لكن دون أن يجفف ينابيع الاحتقان الذي لا تزال الشركة وفروعها بباقي المدن، تذكيه.

خرج الآلاف من طلبة كليات الطب بالشوارع احتجاجا على مسودة قانون في الخدمة الصحية الإجبارية يخضع بمقتضاه خريج الطب لضرورة العمل سنتين متتاليتين بالمناطق النائية

خدمة صحية إجبارية
في نفس الشهر، شهر أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة، خرج الآلاف من طلبة كليات الطب، أمام مدرجاتهم ثم بالشوارع الحساسة بالعاصمة الرباط، احتجاجا على مسودة قانون في الخدمة الإجبارية صاغه وزير الصحة بمفرده، واعتمدته الحكومة بإحدى اجتماعاتها الأسبوعية، لتخرج به للملأ ولكأنه قدر منزل.

يتمثل مضمون الوثيقة الأساس في سن وزارة الصحة لقانون يعتبر الخدمة المدنية الصحية "واجبا وطنيا إجباريا" على الطبيب/الخريج أن يخضع بمقتضاه لضرورة العمل، ولمدة سنتين متتاليتين، بالمناطق النائية، غير المجهزة، مع تمتعهم بنفس الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها نظراؤهم في القطاع العام.

لم يرفض طلبة كليات الطب مضامين المسودة لأنها صيغت في معزل عنهم، وبتغييب لممثليهم ودون حتى استشارتهم، ولكن أيضا لتخوفهم من الحيف والزبونية والمحسوبية والمحاباة عند التعيين لدى التخرج، وخشيتهم من أن تتحول "الخريطة الصحية الجديدة" إلى أداة للتمييز أو للعقاب أو للانتقام.

لم يعبأ رئيس الحكومة، كما في حالة شركة أمانديس، باحتجاجات الطلبة ولا بوقفاتهم السلمية أمام البرلمان، بل أمر قواته العمومية باقتحام بعض الكليات وتعنيف الطلبة المضربين لثنيهم بالقوة على التراجع. ولما تبين له، أو أشير إليه بأن أسلوب معالجته خشن وغير ناجع، انتهى به الأمر إلى استقبال تنسيقية كليات الطب، متعهدا بمراجعة المشروع، لكن دون أن يقطع على نفسه وعدا بسحبه أو التنازل عن مفاصله الكبرى.

بهذه اللقطة أيضا، يبدو أن الاحتجاج قد أعطى أكله، لكنه لم يحل المشكل من جذوره، لتبقى بذور الاحتقان هنا أيضا حية ولو إلى حين.

تظاهر الأساتذة المتدربون احتجاجا على مرسومين لوزير التربية ينصان على أن يخضع الأساتذة المتدربون لمسابقة لقبولهم في أسلاك الوظيفة العمومية بعد قضائهم سنتين في مراكز التكوين

الأساتذة المتدربون
لم يسلم الأساتذة المتدربون بدورهم من تعالي رئيس الحكومة واستخفافه بردة فعلهم. إذ في شهر أكتوبر أيضا من ذات السنة، خرجت مظاهرات الأساتذة المتدربين في أكثر من مدينة حيث توجد مراكز تكوين الأساتذة احتجاجا على مرسومين لوزير التربية الوطنية ينصان على أن "يخضع الأساتذة المتدربون لمسابقة لقبولهم في أسلاك الوظيفة العمومية بعد قضائهم سنتين في مراكز التكوين، وذلك بحسب المناصب الشاغرة في قطاع التعليم".

الأساتذة هنا خضعوا لمسابقة ولوج مراكز التكوين، بما يعني أنهم اختيروا للتكوين والتوظيف تحت الطلب. ومع ذلك يطلب منهم اجتياز مسابقة أخرى بعد التخرج للالتحاق بالوظيفة. وهو ما دعا التنسيقية إلى التساؤل: هل هذا معقول؟

ليس هذا فحسب، بل عمد وزير التربية الوطنية إلى خفض منح الأساتذة المتدربين إلى النصف، في سابقة لا يستطيع المرء استساغة خلفياتها، وفقا لما ذكرته التنسيقية. ولذلك، لم يجد الأساتذة بدا من النزول إلى الشارع، بل عمدوا إلى مقاطعة التكوينات في مراكزهم، والمرابطة بالعاصمة لحين سحب المرسومين، حتى أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة بأن هذه الأخيرة "لن تسحب المرسومين" كما فعلت مع مسودة قانون الخدمة الإجبارية للطلبة الأطباء.

بهذا الملف أيضا، يبدو أن الاحتقان سيكون على أشده بداية هذه السنة، لا سيما وأن الحكومة أغلقت باب الحوار، واستلطفت أسلوب شد الحبل حتى يتراجع الضغط، أو يستسلم من له نفس قصير للأمر الواقع.

الحكومة غير مبالية بتهديد النقابات بتنفيذ إضرابات لمواجهة مشروع إصلاح نظام التقاعد، وغير آبهة بتصعيد الموقف لدرجة تهديد النقابات إياها باحتمال مقاضاة الحكومة في المحافل الدولية ذات الاختصاص

نظام التقاعد
لم تركب الحكومة ناصية هذا الأسلوب مع التنسيقيات فحسب، بل عمدت إلى نهجه من جديد بوجه النقابات، لا سيما في مشروع إصلاح نظام التقاعد. يتعلق الأمر هنا بمنظومة في التقاعد متهالكة ومفلسة، جراء سنين طويلة من تعرضها لعمليات الفساد والنهب التي تشير المعطيات بخصوصها ألا سبيل لصرف معاشات الموظفين في أفق العام 2020 لو استمر النزيف دون معالجة مستعجلة.

ومع أن بعض دورات الحوار الاجتماعي قد تمت بين النقابات المعنية والحكومة لإخراج صيغ في الإصلاح متوافق عليها، فإن تباين مواقف طرفي المعادلة دفع برئيس الحكومة إلى أن يصوغ مشروعا أحاديا اعتمدته حكومته على عجل، وتعتزم إرساله لمجلس النواب بغرض مناقشته والتصديق عليه.

بهذه القضية الإشكالية أيضا يبدو أن الحكومة غير مبالية بتهديد النقابات بتنفيذ إضرابات لمواجهة المشروع، وغير آبهة بتصعيد الموقف لدرجة تهديد النقابات إياها باحتمال مقاضاة الحكومة في المحافل الدولية ذات الاختصاص.

تربة الاحتقان مواتية هنا أيضا لإفراز تشنجات قد لا يسلم منها موظفو الإدارات العمومية ولا نسيج الاستثمار والمال والأعمال.

لو أضفنا إلى كل ما سبق، المطالب الشعبية المتزايدة بجهة إلغاء معاشات الوزراء ونواب البرلمان، واستفزاز بعض الوزراء في خرجات إعلامية غير مدروسة، لو أضفنا كل ذلك إلى بعضه البعض، لتبينت لنا بجلاء الهندسة العامة للمشهد الاحتجاجي في المغرب للعام 2016، لا سيما وأن نهاية هذه السنة تتزامن مع تنظيم انتخابات تشريعية لا يستطيع المرء التكهن بطبيعة ومكونات مخرجاتها.

الجو الديمقراطي في المغرب مختلف تماما عما تعيشه الدول الديمقراطية العريقة. المشهد عندنا محتقن لأن القرارات الكبرى لا تتخذ دائما من بين ظهراني الحكومة، بل من لدن مستويات أخرى لا تمثل الحكومة بوجهها إلا أداة الإخراج والتصريف على أرض الواقع

مناخ الديمقراطية
لقائل أن يقول: بصرف النظر عن صواب هذه المطالب من عدمه، أفلا يدل هذا الجو العام على سيادة مناخ من الديمقراطية تتدافع من بين ظهرانيها الأطراف كلها وبكل ما أوتيت من قوة، فتحصد انتصارات أو تتكبد هزائم حسب موازين القوى القائمة؟

أليست هذه هي الصورة التي نراها بالدول الديمقراطية حيث الحكومة تحكم والمعارضة تعارض والشارع ينتصر بالمحصلة لهذه الجهة أو تلك؟ أليس هذا هو ما يجري بالمغرب؟

قد نتلمس لهذا القول بعضا من التفهم، إذ الحركات الاحتجاجية جزء من العملية الديمقراطية، كما أن وجود أحزاب ونقابات ومنظمات أهلية هو أيضا جزء من ذات العملية.

بيد أن ذات القول لا يستقيم إلا بسياق معين، ولا يمكن له أن يقوم -فما بالك أن يستقيم- في سياق مختلف آخر:

– أولا لأن "الجو الديمقراطي" الذي نعيشه في المغرب مختلف تماما عما تعيشه الدول الديمقراطية العريقة. المشهد عندنا محتقن لأن القرارات الكبرى لا تتخذ دائما من بين ظهراني الحكومة، بل من لدن مستويات أخرى لا تمثل الحكومة بوجهها إلا أداة الإخراج  والتصريف على أرض الواقع. فما معنى مثلا أن يتخذ وزير التربية الوطنية قرارا بفرنسة بعض المواد العلمية، وينهال عليه رئيس الحكومة تأنيبا على القرار وبغرفة البرلمان دون أن يعمد الوزير إياه إلى سحبه، بل يتشدد في التوجيهات بخصوص تطبيقه بأدق تفاصيله؟ معناه أن القرار اتخذ بجهة ما، ولم يعمد وزير التربية الوطنية إلا على إخراجه حتى وإن ادعى رئيس الحكومة مناهضته له أمام الملأ.

– ثانيا لأن الآلية الديمقراطية في المغرب طالها العطب بقوة، ليس فقط بسبب ما أوردناه بالاعتبار الأول، ولكن أيضا لانقطاع سبل الحوار بين طرفي الآلية الأساسيين: الحكومة من جهة والفرقاء السياسيين والاجتماعيين من جهة أخرى. ولعل عطب هذه الآلية متأت من ترهل أحزاب المعارضة وعدم قدرتها على استنبات مشاريع تقارع بها ما تأتي به الحكومة من مشاريع. كما أن النقابات بدورها ترهلت ولم يعد لها من ناصية تمتطيها إلا ناصية الإضراب العام أو القطاعي، والذي لم يعد يسايره أحد لمحدودية نتائجه ولعدم قدرته على تجديد آليات فعله.

– ثالثا بسبب غياب النخب عن الساحة، وتراجع مصداقية بعض عناصر ما تبقى منها جراء انزوائهم أو استقطابهم من لدن أركان الدولة العميقة، أو اكتفائهم بمتابعة تموجات واقع لم يعد بإمكانهم فهمه، فما بالك اقتراح البدائل لتجاوزه.

ولذلك كله، فإننا نعتبر أن بروز هذه التنسيقيات إنما هو رد فعل طبيعي على ترهل كل هذه المستويات، بل ونتاج غياب المستويات الوسيطة التي تضمن السير العادي والسليم "للعبة الديمقراطية".

لكن، من ذا الذي يضمن سلوك أو يتحمل مسؤولية تجاوز الجماهير المجندة من لدن التنسيقيات؟ أليس من المجازفة ترك الشارع "لتنظيمات" قد لا يشكك المرء في أحقية مطالبها ونظافة أيادي من يثوون خلفها، لكنه لا يستطيع التكهن بإمكانية انزلاقها وتحولها إلى أداة يذهب بجريرتها الأخضر واليابس؟

إننا هنا إنما ننبه إلى تداعيات الاحتقان… ولا نحذر منه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.