هل داعش حقا صنيعة أميركية؟

مقاتلو داعش في الفلوجة بالعراق

تورط أميركي
تحول إستراتيجي
تواطؤ إقليمي

عديدة ومثيرة، هي التساؤلات التي يفجرها التباطؤ الأميركي في تصفية تهديد "داعش" وأقرانه من التنظيمات الراديكالية الجهادية التي تتزيا برداء الإسلام رغم قيادة واشنطن لتحالف دولي وإقليمي يتخطى الستين دولة يضم أعتى القوى العسكرية وأكثرها تطورا على مستوى العالم.

وقد كان من شأن تلك التساؤلات المثيرة والمحيرة في آن، أن فتحت أبوابا على مصاريعيها أمام تأويلات وتفسيرات تصب في مجرى نظرية المؤامرة، حيث ضلوع واشنطن في مخطط للعبث بوحدة واستقرار الدول والشعوب العربية بتواطؤ أوروبي ودعم من قوى وأطراف إقليمية، توطئة لإعادة هندستها جيوإستراتيجيا وفقا لاعتبارات إثنية وعلى أسس جيواقتصادية.

تورط أميركي
ربما تراءى لخبراء ومراقبين كثر أن إستراتيجية التحالف الدولي، في التعاطي مع تنظيم "داعش" وأعوانه، قد اقتصرت على صدهم واحتوائهم والحد من تقدمهم ولكن دون إنهاء خطرهم وتهديدهم كلية عبر القضاء عليهم قضاء مبرما.

بدا جليا تقاعس واشنطن في محاربة "داعش" بل تزويد مقاتليه بالسلاح والمؤن عن طريق الخطأ، وكذا تسريب إدارة أوباما للخطط والمشاريع المزمعة لتحرير مدينة الموصل العراقية، كيما يتحسب الأخير لها ويُعِّد العدة لمواجهتها

ويرتكز هؤلاء على مرتكزات شتى، لعل أبرزها الدور التاريخي لواشنطن في تجييش الحركات الجهادية الإسلامية بغية توظيفها لخدمة المشاريع الإستراتيجية الأميركية في مختلف بقاع العالم.

فإذا كانت بريطانيا هي المسؤول الأول عن احتضان جماعة الإخوان المسلمين في مصر منذ العقد الثالث من القرن المنصرم، فإن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية إنتاج ورعاية التنظيمات الإسلامية التكفيرية الجهادية التي انبثقت من عباءتها لاحقا وتباعا لتبدأ نشاطها العالمي منذ العام ١٩٧٩ حيث الغزو السوفياتي لأفغانستان في أوج الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. فهنالك اعتمدت وكالة الاستخبارات الأميركية إستراتيجية إثارة العامل الديني في نفوس الشباب المسلم وتوظيفه لمحاربة السوفيات في أفغانستان.

فلطالما دأبت الدوائر الأميركية على الترويج لفكرة مفادها أن الغزو السوفياتي لأفغانستان إنما هو في حقيقته عدوان من دولة ملحدة على شعب مؤمن، الأمر الذي يستوجب استنفارا عالميا للمؤمنين والمجاهدين بقصد تحرير الشعب الأفغاني المؤمن من براثن الغزو السوفياتي البربري الملحد.

وأبرمت لأجل ذلك المقصد في حينها صفقة بين المخابرات الأميركية وأجهزة استخباراتية شرق أوسطية وعربية، لتشكيل ما سمي وقتذاك بتنظيم "المجاهدون الأفغان" بعد أن تم استنفار الشباب المسلم من مختلف الأصقاع العربية والإسلامية، وإمدادهم بالسلاح الناجز بما في ذلك صواريخ أرض جو الأميركية المتطورة من طراز "ستينجر" التي لعبت دورا كبيرا في الحد من فعالية الطيران الحربي السوفياتي.

وما إن وضعت الحرب أوزارها في العام 1990 بانتصار المعسكر الغربي وحلفائه ووكلائه وهزيمة القوات السوفياتية وإعلان الرئيس السوفياتي آنذاك ميخائيل جورباتشوف سحب قوات بلاده من أفغانستان، حتى أوقفت واشنطن نشاطها وقررت مغادرة المنطقة تاركة المجاهدين الإسلاميين يتصارعون ويقتتلون إلى حين ظهور حركة طالبان وسيطرتها على المشهد الأفغاني واستضافتها تنظيم القاعدة، الذي حملته واشنطن مسؤولية اعتداءات (هجمات) الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ٢٠٠١، والتي غزا على إثرها الأميركيون أفغانستان.

وبرغم الكلفة، التي لا يمكن تجاهلها، لإستراتيجية اللعب بالنار والرقص مع الجهاديين الإسلاميين، لم تتورع واشنطن عن معاودة الكرة في البوسنة وكوسوفو، ليعاني العالم ويلات جماعات العائدين من أفغانستان، باكستان، البوسنة، الشيشان وكوسوفو، توخيا لبلوغ غايات تتصل بتفكيك يوغسلافيا وتصفية النظام الصربي بعد أن أمسى عبئا على الأميركيين والإنسانية جمعاء في العام ١٩٩٩.

ومؤخرا، وفي مسعى منها لتوجيه دفة الحراك الثوري العربي الذي اندلعت شرارته الأولى في مطلع العام 2011، لم تتوان واشنطن في معاودة التنسيق مع تيارات الإسلام السياسي، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، حتى طالت الشبهات دوائر أميركية بالتفاهم مع تنظيمات أشد راديكالية على شاكلة "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية) وجبهة النصرة وغيرهما، بدعم من شركاء ووكلاء إقليميين بغية توظيفها في الإستراتيجية الأميركية الرامية إلى تغيير خارطة المنطقة بالكامل توطئة لنقل مركز الثقل في الإستراتيجية الأميركية من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا تحسبا للخطر الصيني المتفاقم.

وبينما كان أبو بكر البغدادي قائد التنظيم معتقلا في سجن "غوانتانامو" ثم أفرج عنه بعفو أميركي ليعلن بعدها بستة أشهر فقط بناء جيش جرار يحمل اسم "جيش الدولة الإسلامية بالعراق"، بدا جليا تقاعس واشنطن في محاربة "داعش" بل تزويد مقاتليه بالسلاح والمؤن عن طريق الخطأ، وكذا تسريب إدارة أوباما عبر وسائل الإعلام المختلفة للخطط والمشاريع المزمعة لتحرير مدينة الموصل العراقية، كيما يتحسب الأخير لها ويُعِّد العدة لمواجهتها.

ومن جانبها وتحت وطأة الضغوط الإعلامية والمساءلات السياسية، لم تجد وزيرة الخارجية الأميركية بدا من الإقرار بضلوع واشنطن في مثل هذه الأدوار والأنشطة، وذلك إبان إفادة سرية لها أمام الكونغرس أدلت بها في أبريل/نيسان من عام 2013، وتم تسريب جل محتوياتها لاحقا.
عمدت كل من واشنطن وتل أبيب إلى تبني إستراتيجية مضادة تقوم على اختلاق فاعلين عسكريين غير نظاميين على شاكلة "داعش" و"جبهة النصرة" و"الحوثيين" لمواجهة الجيوش العربية النظامية واستنزافها دون الاضطرار إلى انتهاك المعاهدات الدولية

تحول إستراتيجي
اقتضت خصوصية التحولات الجيوإستراتيجية التي ألمت بمنطقة الشرق الأوسط خلال الآونة الأخيرة أن تنحو واشنطن باتجاه تركيز الاعتماد الإستراتيجي خلال الفترة المقبلة على الفاعلين السياسيين دون الدولة في منطقة الشرق الأوسط، بدلا من الفاعلين التقليديين على مستوى الدول، ومن هنا جاءت فكرة دعم تنظيمات على شاكلة "الإخوان المسلمين"، "داعش" و"جبهة النصرة "و"الحوثيين" وغيرها تمهيدا لتوظيفها في عملية تنفيذ المشاريع الأميركية بمنطقة الشرق الأوسط وشرق آسيا.

ويستند هذا التحول الأميركي في التعاطي مع المنطقة إلى مرتكزات عدة من أهمها:

– أن دور وتأثير أولئك الفاعلين دون الدولة قد تنامى بشكل لافت خلال الآونة الأخيرة على حساب تراجع تأثير الدول الوطنية وانحسار دورها. فلربما تراءى لواشنطن أن انبعاث الأزمات البنيوية والهيكلية المزمنة التي تعاني منها الدولة الوطنية العربية منذ بدايات تأسيسها في أعقاب التحرر من الاستعمار الأجنبي، وبعدما وضعت الحربان الكونيتان الأولى والثانية أوزارهما مع تفجر الحراك الثوري العربي قبل أعوام قليلة خلت، قد نال من فاعلية أنظمة تلك الدولة لمصلحة صعود أدوار الفاعلين دون الدولة من أمثال "داعش" و"أنصار الله" الحوثيين الذين طفقوا يبسطون سيطرتهم على بلاد موغلة في القدم كالعراق واليمن برغم امتلاكها جيوشا نظامية عتيدة وأجهزة أمنية باطشة.

– اهتزاز الثقة ما بين المركز ممثلا في واشنطن والأطراف ممثلين في غالبية الأنظمة العربية الموالية لها بجريرة الحراك الثوري العربي، حيث بدا لتلك الأخيرة أن واشنطن قد تخلت عنها حماية لمصالحها وتأقلما مع التحولات الجديدة التي بدأت تعتري المنطقة، برغم ما قدمته لها من خدمات في حماية المصالح الأميركية وإنجاح الإستراتيجية الأميركية بالمنطقة، إلى الحد الذي أفضى إلى تفاقم الفجوة بين تلك الأنظمة وشعوبها.

– جنوح بعض الأنظمة العربية الوليدة، التي تمخض عنها الحراك الثوري العربي، لتبني نهج استقلالي إلى حد كبير عن الهيمنة الأميركية والتبعية المطلقة لواشنطن على خلاف ما كان سائدا فيما مضى. وهو ما جسدته بجلاء الحالة المصرية سواء في عهد الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي ومن بعده الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي.

غير أن اللافت والمثير في آن، هو اتجاه واشنطن إلى استبدال أولئك الفاعلين الجدد من دون الدولة، ليس فقط بالدول والأنظمة العربية وإنما بجيوشها النظامية التقليدية، حيث هرعت إدارة أوباما إلى تزويدها بالسلاح والعتاد وغض الطرف عن توسعها وبسط سيطرتها على مساحات شاسعة وحيوية بعدد من تلك الدول تضم موارد الطاقة والمرافئ الجيوإستراتيجية المهمة ومصادر المياه.

وإلى جانب عزمها توظيف تلك التنظيمات الجهادية التكفيرية لخدمة إستراتيجيتها في المنطقة، ترمي واشنطن من وراء إستراتيجيتها الجديدة إلى تقديم خدمة إستراتيجية مهمة لإسرائيل، التي باتت تعاني الأمرّين من تغير قواعد الاشتباك والمواجهة مع الدول العربية على أثر دخول تنظيمات أو حركات مقاومة مسلحة معادلة الصراع كبديل عن الجيوش النظامية التي لا يساور إسرائيل وأميركا أدنى شك في خروجها من معادلة المواجهات العسكرية مع إسرائيل لاعتبارات سياسية وعسكرية شتى.

فحركات المقاومة الفلسطينية المسلحة كحماس وكتائب القسام وغيرها إلى جانب نظيرتها اللبنانية كحزب الله، تعتبر أشد صمودا وجاهزية لمواجهة قوة إسرائيل العسكرية في حروب غير متماثلة أو غير متناظرة تعتمد على إستراتيجية حرب العصابات، وهو ما يشكل استنزافا حقيقيا وموجعا لما يسمى بجيش الدفاع الإسرائيلي.

لذا عمدت كل من واشنطن وتل أبيب إلى تبني إستراتيجية مضادة تقوم على اختلاق فاعلين عسكريين غير نظاميين على شاكلة "داعش" و"جبهة النصرة" و"الحوثيين" لمواجهة الجيوش العربية النظامية واستنزافها دون الاضطرار إلى انتهاك المعاهدات الدولية وتجاوز الشرعية الدولية عبر الدخول في حروب شاملة ضدها من خلال الجيوش النظامية.

لكَم يبدو مثيرا للتساؤل أن أكثر دول الإقليم أمنا من مخاطر وتهديدات تنظيم "داعش" الإرهابي وأعوانه ومن قبله تنظيم القاعدة، هي تلك الدول الثلاث (تركيا، إيران، إسرائيل) كما لم يجن ثمار إرهاب هذه التنظيمات الإرهابية إلا ذات الدول

تواطؤ إقليمي
ما كان لإستراتيجية واشنطن الجديدة حيال المنطقة أن تترجم إلى واقع فعلي أو أن تؤتي أكلها في غياب دعم ومساندة من قبل أطراف إقليمية فاعلة أو وكلاء إقليميين مؤثرين وثيقي الصلة بالمخططات والمشاريع الأميركية من أمثال دول الجوار الإقليمي الجغرافي العربي كإسرائيل وتركيا وإيران، وهي الدول التي طالما تشاركت مع القوى العالمية في مشاريع شتى فيما مضى بغية استعمار دول المنطقة أو استتباعها، توخيا لتقليص حجم خسائرها وتحقيق مكاسب قُطرية على حساب تعثر دول مجاورة أو ارتباك المنطقة برمتها.

ولكَم يبدو مثيرا للتساؤل أن أكثر دول الإقليم أمنا من مخاطر وتهديدات تنظيم "داعش" الإرهابي وأعوانه ومن قبله تنظيم القاعدة، هي تلك الدول الثلاث كما لم يجن ثمار إرهاب هذه التنظيمات الإرهابية إلا ذات الدول. فها هي إيران تحظى باعتراف أميركي بدورها في محاربة "داعش"، كما اضطرت واشنطن إلى إبداء مزيد من المرونة معها في المفاوضات النووية مع استبعاد الخيار العسكري وحمل إسرائيل هي الأخرى على السير في ذات الدرب.

ومن جانبها، كانت تركيا هي الدولة الوحيدة التي استعادت رهائنها الـ49 لدى "داعش" سالمين بعد توقيفهم بقنصليتها في الموصل في سبتمبر/أيلول الماضي.

كما تسنى لستمائة مقاتل تركي مدعومين بطائرات بدون طيار ومروحيات عسكرية ومستقلين مائة مركبة عسكرية تضم 39 دبابة عبور الأراضي التي يسيطر عليها "داعش" في سوريا قبل أيام، والتوغل لعمق 35 كيلومترا بغية الوصول إلى ضريح سليمان شاه جد عثمان غازي مؤسس الدولة العثمانية ونقله إلى قرية سورية أخرى قريبة من الحدود التركية وإجلاء 38 جنديا تركيا كانوا يعكفون على حراسته بأمان تام.

ومن خلال فزاعة "داعش "، سيتسنى لتركيا اتخاذ تدابير أشد صرامة لكبح جماح التطلعات الكردية السورية والعراقية في الاستقلال أو الحكم الذاتي على الحدود مع تركيا.

أما إسرائيل فستبقى كعادتها تمارس دورها التخريبي بكل ما يجري في الخفاء، متظاهرة بالنأي بالنفس والاكتفاء بمتابعة الأمور عن بعد بمنتهى الأمان مستمتعة بتفسخ الدول العربية المحيطة ومنتشية بتفكك جيوشها النظامية، استعدادا لإعادة هندسة المنطقة برمتها بما يخدم مصالحها وأطماعها التوسعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.