الثورة.. أسئلة عالقة

الثورة.. أسئلة عالقة

undefined

في الأساطير العربية يموت الغول -وهو ساحر الجن- بضربة سيف واحدة تقسم وسطه، وفيها أيضا أنه يعود إلى الحياة لو ضرب مرة أخرى في المكان نفسه، أي أن الضربة الناجعة يجب أن تكون واحدة، وقاطعة.

وفي الأساطير أيضا، نجد التنين متعدد الرؤوس، الذي نبت له رأس جديد محل ذلك الذي قطع، ولا يموت إلا إذا قطعت رؤوسه المتعددة معا، وهذا مطلب صعب، أو تلقى طعنة في القلب الذي يغذي الرؤوس جميعا، فهكذا يقتله الشجعان.

الأسطورتان معا تصدقان على حال الثورة المصرية، إذ لم تكن ضربتها قاطعة كما ينبغي، ولا كانت في القلب حيث ينبغي.

ومع تأكيد أن الثورة تغيير كامل، وحال، لجميع المؤسسات والسلطات في نظام سابق، نحو إقامة نظام آخر، حدثنا مزيفو الوعي عن "خصوصية مصر" تلك الفرية التي تُستدعى غالبا للمصادرة على المطلوب.

ثورة يناير تحققت لها أربعة عوامل: أزمات بلغت غايتها، وانعدام الأمل في الحل، وصراع بين مؤسسات الحكم، وكلفة الثورة ليست أكثر من ثمن الصمت

لمصر -كما لأية جماعة بشرية- خصوصية. نعم، لكن من نافلة القول إن الخصوصية لا تنفي وجود القواعد الإنسانية العامة ولا صحتها.

أما الأسئلة التي أخفقت الثورة المصرية في الإجابة عنها، فهي -بالضبط- الأسئلة التي استدرجها أعداؤها نحو إجابتهم هم عنها، وهي أسئلة من أربع ثنائيات:

– أولاها: لماذا نثور؟ وكيف؟
– وثانيتها: ما الذي نهدمه؟ وكيف؟
– وثالثتها: ما الذي نريد إقامته؟ وكيف؟
– وآخرها: من أعداء الثورة؟ وكيف نتعامل معهم؟

كان هناك غضب ثوري بكل تأكيد، كنا نعرف لماذا نثور، ونملك لائحة مطالب واضحة بقدر كبير، لكننا لم نضبط "الكيفية" كما يجب، وكنا في غمار ثورة تحققت لها في يناير/كانون الثاني 2011عواملها الأربعة:

– أزمات بلغت غايتها.
– انعدام الأمل في الحل.
– صراع بين مؤسسات الحكم.
– كلفة الثورة ليست أكثر من ثمن الصمت.

لكن "الوعي" بالثورة ظل مختلفا عن "إدراك" عناصرها، كان الجميع يهتف: "الشعب يريد تغيير النظام"، لكن ما هو "النظام" بالضبط؟ هنا ستختلف الإجابات، وليست هذه هي المشكلة الأكبر، فالأسوأ أن الإجابات المطروحة -رغم اختلافها في الصياغة والمحتوى والبواعث- خلت تماما من الإجابة الصحيحة.

وهي حقيقة وصل السكوت عليها إلى حالة تجاوزت "التواطؤ العام" نحو "التربص العام"، إذ أدرك كل فصيل أن إجابته تختلف عن الآخر، فاعتصم بالصمت، تاركا الشعار على عمومه "تغيير النظام"، وأيضا "إسقاط النظام"، من دون تفصيل المعنى ولا تحديد المصطلح، متواطئا بإخفاء المعنى الذي يقصده، ومتربصا بأنه لا مانع لديه من الفتك بالآخرين -إذا أمكنه- عند احتدام الصراع بين المفاهيم المختلفة.

تواطؤ وتربص، لم يقل فيه أحد إن النظام هو "بنية الدولة"، وإن "حكم العسكر" المهيمن على حكم مصر هو بنية "قروسطية" تناقض الحداثة، ما يقطع الطريق على إمكانية تحقيق أي تقدم. بنية تحبسنا في عالم القرن الـ16، وتقوم -منذ أسس "محمد علي" الجيش المصري في 1821- على ثلاثة أركان:

– القوة العسكرية، "الجنرال" في القلب.
– أقليات متساندة من حوله، وهي أقليات لا قيمة لأي منها على حدة، وهي تعي هذا فتظل متساندة مهما بلغ حجم تناقضاتها، ولا قدرة لها على الاستغناء عن الجنرال، ولهذا تميل إلى العودة للتمسك به مهما قسا عليها.
– استبعاد الأغلبية.

ومن أبرز سمات هذا النظام:

– نظام استبدادي طبقي.
– سرعة انتشار الفساد، نتيجة استبداد الجنرال، والصراع الدائم بين الأقليات، وضعف الرقابة الشعبية في ظل استبعاد الأغلبية.
– استمرار تدهور وتفكك البنى الاقتصادية والإدارية.
– سرعة انتشار السخط الاجتماعي والطائفي جراء زيادة الفوارق والتناقضات.
– كثرة الثورات والاحتجاجات التي يتعرض لها.

نثور لإسقاط حكم العسكر:
بناء عليه، فإن "تغيير النظام" يعني -بالضرورة- إسقاط حكم العسكر، قلب النظام الذي تسقط بسقوطه الرؤوس المتعددة، أو الأقليات المتساندة مهما بدت قوية، وأية إجابة أخرى تعني أننا -في أفضل الأحوال- بصدد حركة إصلاحية، تحسن الشروط ولا تغير الواقع، ولسنا في غمار ثورة.

لا أهمية للوقوف كي نؤكد أن إسقاط "حكم العسكر" لا يعني أبدا إسقاط "العسكرية" نفسها، إذ لا بد لكل دولة من جيش يدافع عن حدودها، بالضبط كما أن إسقاط حكم "رجال الكنيسة" في أوروبا لم يعن إسقاط "الكنيسة" نفسها

وهكذا، فإن "يسقط حكم العسكر" ليست مجرد شعار احتجاجي، ولا هتاف هجائي، لكنها هدف ثوري، يقتضيه مطلب "الحرية" الذي يستوجب الخلاص من طغيان القبضة القوية، ويقتضيه مطلبا "العيش" و"العدالة الاجتماعية"، وتحقيقهما -مع الكرامة- يستوجب الخلاص من نظام طبقي بالضرورة، يسيطر "الجنرال" على معظم موارده، ويوزع الباقي منها على أقلياته المتساندة.

أما الشعب -في أغلبيته- فإن بقاءه فقيرا معوزا ليس مجرد ناتج حتمي من نتائج دولة الجنرال، بل أكثر من ذلك، هو مطلب من مطالب الجنرال، الذي ينفي الشعب ويحبسه في فقره ليظل مستبعدا، ما يضمن استقرار الركن الثالث من أركان النظام "استبعاد الأغلبية"، وقديما قالوا "الفقر في الوطن غربة".

وقبل هذا وذاك، فإن "يسقط حكم العسكر" هدف يقتضيه مطلب التقدم، الذي لا يتحقق -مطردا- إلا في إطار دولة تحكمها مؤسسات منتخبة.

وفي هذا السياق، لا أهمية للوقوف كي نؤكد أن إسقاط "حكم العسكر" لا يعني أبدا إسقاط "العسكرية" نفسها، إذ لا بد لكل دولة من جيش يدافع عن حدودها، بالضبط كما أن إسقاط حكم "رجال الكنيسة" في أوروبا لم يعن إسقاط "الكنيسة" نفسها.

لا أهمية -وربما لا قيمة- لمثل هذا التأكيد، فالمعنى واضح من جهة، والجنرال وأقلياته لن يتوقفوا عن المغالطة من جهة أخرى.

كيف نثور؟
كان الركن الثالث من أركان دولة الجنرال "استبعاد الأغلبية" ومازال هو "كعب أخيل" أو نقطة الضعف الأساسية في النظام بكامله.

هذا الركن الذي أمكن خلخلته أكثر من مرة، في كل منها كان "الجنرال" يترنح، مثل ثورة "25 يناير" وقبلها ما عرف بـ"أزمة مارس 1954″، لكن غياب الرؤية كان يمنح الجنرال الوقت الكافي لينهض من عثرته، وينجح -بمساعدة أقلياته المتساندة إضافة إلى مساندة دولية- في العودة إلى موقعه في قلب نظامه.

والواقع أن انتقال الأغلبية الشعبية من الغياب إلى الحضور، ومن الاستبعاد إلى صدارة المشهد تم في كل مرة بفضل التناقض البنيوي في طبيعة الأقليات.

فهي -على الأصل أو بمرور الأيام وكرّ الأعوام- جزء من الشعب أو مرتبطة به، وأحيانا تتوافق مصالح بعضها مع مصلحة الأغلبية، ما يجعله يتخلى عن فلك "الأقلية" الذي يدور فيه حول جنراله، أو على الأقل يضطرب مداره، ويحدث الأمر نفسه عندما تتعرض بعض الأقليات لعسف الجنرال، على نحو يدفعها بعيدا عنه.

وفي المقابل، فإن التنافر هو ما يحكم العلاقة بين الأقليات بعضها البعض، وهي تتساند فحسب، فلا هي تتماسك ولا هي تتآزر، إدراكا منها لاستحالة بقاء أي منها منفردة، لكن هذا الإدراك لا ينفي أنها تظل في حالة صراع مستمر، وإن كان خفيا في كثير من الأحوال، يعكس ما بينها من اختلافات عقائدية، واختلاف في طبيعة الدور الذي يؤديه كل منها.

وكما أن انفراط -أو اختلال- عقد الأقليات، سواء بخروجها من دوائر التساند مع بعضها، أو ميولها عن فلك الخضوع للجنرال، هدد عرش الجنرال، وفتح الطريق أمام الثورة، فإن الجنرال كان يتمكن كل مرة من استعادتها أشد خضوعا مما سبق، وذلك عبر التأكيد على الخلافات بينها وبين الأغلبية، ما ينقل جانبا من الصراع بعيدا عنه، ويضع الأقليات في مواجهة "حياة أو موت" -أو هكذا تبدو- فتدافع عن الجنرال باستماتة، وترى فيه "الأمل" و"المنقذ".

نجح "التنين" في أن يشغل "الأغلبية" بالصراع مع رؤوسه المتعددة، حتى لا تطعنه في قلبه، وكانت الرؤوس تعود للنمو، كلما قطع واحدا بعد الآخر، لينبت الرأس الجديد محملا بحقد دموي ورغبة أكيدة في الثأر من الأغلبية التي قطعته من قبل، وفي الوقت نفسه يكون قد نسي تماما خلافه مع الجنرال، الذي يتدحرج بعيدا مع كل رأس مقطوع.

وبهذا يحول الجنرال الصراع بعيدا عنه، فلا يكون (أغلبية/جنرال) بل (أغلبية/أقليات) والخطوة التالية -بعد أن يلعق جراحه- هي أن يقوم مدعيا الحكمة، ومطالبا بإنقاذ "الوطن" من "الحرب الأهلية". إلى آخر المشهد العبثي الذي رأيناه يتكرر بتفاصيله في 1954 وفي 2013.

وحتى لا يتكرر العبث ثانية، يجب إدراك أن "احتواء الأقليات" ضمانة مركزية لنجاح الثورة، وعندما نقول "احتواء" فإننا نعني أجواء من الحرية الحقيقية، تتيح للجميع أن يجد في وطنه المجتمع الذي يحبه وينتمي إليه، وتدرك أن الوطن هو مجموع "الخصوصيات" وأن "الخلاف" أصل من أصول الحياة، وأنه حتى في الأمور التي تخضع لمنطق "إما… أو" ويجب فيها الاستقرار على خيار واحد، تحدده إرادة الأغلبية، فإنها لا "تستأثر" به، بل تراعي إرادة الأقلية ومصالحها وحقوقها.

لا سبيل لإقامة علاقات موازية مع الدول المرتبطة بالجنرال، فهي لن تتخلى عنه إلا إذا أصبح وجوده عبئا لا يمكنها احتماله، أو أيقنت بأنه سقط وانتهى الأمر

وليكن واضحا أن أغلبية الشعب هي "الكتلة التي تعبر عن توازن مصالح أبنائه"، وأن كل من يعبر عما يخالف هذا التوازن يخرج من الأغلبية متحولا -فورا- إلى أقلية، كبر حجم هذه الأقلية أم صغر.

إن الفرق الواضح الآن بين معسكري "الثورة" و"الثورة المضادة" ليس في اختلاف الفصائل، بل في اختلاف البنية الحاكمة لكل فصيل، ففي المعسكرين نجد الإسلامي والقومي والليبرالي واليساري والقبطي.

والفرق هو أن قاطرة الإسلاميين وحدها تقف في معسكر الثورة، وإن كانت بعض عرباتها في معسكر الثورة المضادة، والعكس بالنسبة للفصائل الأخرى. ومع أن وجود البنية نفسها هنا وهناك ينفي وجود صراع أصولي بين هذه الفصائل، فإن تعاكس حركة القاطرات والعربات في كل فصيل، وتعاكس حركة قاطرة الإسلاميين مع غيرهم من الفصائل يعكس نجاح الجنرال في تحويل مجرى الصراع إلى انقسام مجتمعي يبدد طاقة الثورة عليه.

وفي سياق كيفية الثورة، يلزم الوعي بعلاقات "حكم العسكر" الدولية، التي تعادي -بالضرورة- أغلبية الشعب المستبعدة.

لهذا، فإن هذه العلاقات الدولية، وبرغم كل التقارير الحقوقية وما إليها، لن يزعجها الدم في ذاته، ولا ستسقطها التضحيات مهما بلغت، كما أنه لا سبيل إلى إقامة علاقات موازية مع الدول المرتبطة بالجنرال، وهي لن تتخلى عنه إلا إذا أصبح وجوده عبئا لا يمكنها احتماله، أو أيقنت بأنه سقط وانتهى الأمر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.