القرار القطري وعهد التحدي الخليجي
تزامنا مع ذكرى توليه السلطة في 27 يونيو/حزيران 1995 أُعلن أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني اليوم 25 يونيو/حزيران تنازله عن السلطة بقرار بل بإصرار منه على تحقيق هذا القرار في صحته وحياته لتحقيق انتقال سلمي للسلطة وتوافقي لولي العهد نجله الشيخ تميم بن حمد, ويأتي القرار في ذروة حصاد الشيخ حمد لعهد متفاعل وضخم سجّل بكل تأكيد ما سمي بالتأسيس الثاني للإمارة القطرية التي تأسست على يد الشيخ قاسم آل ثاني عام 1876.
فقد قفزت الإمارة في عهد الشيخ حمد إلى مدارات متقدمة في حضورها كمحور مؤثر وصانع للتغيير في مسارات إقليمية وعربية ودولية ارتبطت بخطة تصور شاملة لدى الأمير القطري الذي أُحيط عهده أيضا بمدارات تحد كبيرة واجهتها قطر من الأشقاء والأصدقاء بحسب التعبير الدارج للعلاقات الدبلوماسية والسياسية مع المحيط القريب والبعيد.
رغم كل مواسم الهجوم الإعلامية الشرسة والشكاوى والضغوط السياسية التي استهدفت الأمير حمد وعهده الجديد آنذاك، فإنه أثبت قوة عزيمه في تحقيق نقلة نوعية لقطر داخلياً وخارجيا |
ورغم كل مواسم الهجوم الإعلامية الشرسة والشكاوى والضغوط السياسية التي استهدفت الأمير حمد وعهده الجديد، فإنّ ما برز بوضوح قوة عزيمته في تحقيق هذه النقلة لقطر داخلياً وخارجيا, وكثيراً ما شكك الإعلام الخصم في الدور القطري الجديد وفي إمكانية واستمرارية صعود مشروع الشيخ حمد، ووُجه بحملات إعلامية شرسة تطعن في قدراته وتسخر منها حتى استيقظ الوعي الشعبي في الوطن العربي على حقيقة أدركها المقربون من مفكرين أو مثقفين أو ساسة أن ما عاشته قطر كان سياسة رسمها الأمير بنفسه وقناعته مع وجود فريق عمل من أسرته والأسرة القطرية الكبيرة لكن كان فيها الأمير المحرك الأساسي.
وأضحى تنازله عن السلطة، الذي تحدث عنه سابقاً لضيوفه كقرار مركزي يتخذه في حياته، دليلاً حاسماً لكل ما جرى من رحلة مثيرة وتجديدية في حياته السياسية, وما يهم في هذا المسار أن الأمير تزايد لديه دافع التغيير بعد حركة الربيع العربي, وصرح بأن رسائل التغيير والطموح يجب أن يتفاعل معها الخليج العربي في مؤسسات الحكم مع بقاء العهد الوراثي لكن بتطوير دستوري وتجديدي, يغير برنامج نقل السلطات بالتنازل الطوعي لولاية العهد الدستورية وفق الدستور القطري إلى جيل شاب قادر على حمل رسالة القيادة السياسية للشعوب الخليجية بصورة أكبر من جيل الحكم السابق رغم أن الشيخ حمد يُعتبر الأصغر سناً بين حكام الخليج.
هذه القفزة التغييرية تأتي في ظل تاريخ متوتر أو دموي في بعض الأحيان في سجل أسر الحكم العديدة في الخليج العربي وربطها إما بصراع يُعزل فيه الحاكم وإما بوفاته وإما بتقدم في العمر ليعاني من أمراض أو تبعات إدارة السلطة لظروف السن, وبقاء أسئلة الخلافة في هذه الدولة وتلك محل جدل كبير ومواسم وإثارة وإشاعة, وإن كان ذلك كله كطبيعة للحكم في المنطقة الخليجية يأتي وفقاً لتوافقات الأسر الحاكمة دون أي دور للشعوب في ترجيح كفة مرشح أو تزكيته.
لكن المبادرة القطرية بتحقيق هذه النقلة في تسليم الحكم للشاب الشيخ تميم، وهو في قمة حيويته العمرية بعد أن تم تكليفه بمهام تدريبية وتأهيلية, تُجسد حالة جديدة مؤكدة في منطقة الخليج العربي تقدمت فيها قطر لتكسب خيار التحدي التجديدي لانتقال السلطات، وقد تُشجع دولاً أخرى على خطوات مقاربة للخطوة القطرية.
ورغم أن الشيخ حمد يُسلم السلطات في وقت مبكر من حصاد نتائج مشروعه، فإن هذا الاستباق سيساعد الأمير الجديد في الإفادة من هذا الرصيد الذي سيكون أرشيفا وواقعا مهماً له يساعده مع وجود أبيه في موقع المستشار، وهي حالة فريدة في تاريخ الخليج حيث سيُسمى الأمير الأب الشيخ حمد وسيُسمى الأمير الجد وهو الشيخ خليفة الحاكم الأسبق المحتضن حاليا في الدوحة لدى بنيه وأسرته، في حين سيحكم قطر أميرها الشاب الشيخ تميم ذو الثلاثة والثلاثين عاما, وهي صورة حيوية في الانتقال السلمي للسطلة ونقل الإمارة للأجيال في مرحلة معقدة من الظروف السياسية والإقليمية لمنطقة الخليج.
الأمير يسلم السلطة ومستوى دخل الفرد ينافس عالمياً على المراكز الثلاثة الأولى، وحجم فرص العمل أو التوظيف للقطريين والقطريات يرتفع في استيعابه ومستواه المادي والتدريبي |
يُسلم الأمير الشيخ حمد إلى نجله تميم العهدة متضمنة مشروع الجزيرة الكبير, الذي أعطى لقطر قوة ناعمة رغم التحديات, ويعود اليوم إلى قصره منعوتا بالأمير الأب الذي سلم السلطة طواعية |
وتبقى الجزيرة القناة والمشروع أحد معالم التاريخ الإعلامي العربي الحديث التي ارتبطت بقطر عبر أميرها الأب الشيخ حمد، ولا يوجد مجال لحصر ما حققته الجزيرة من تغيير نوعي شامل في المنطقة, ويكفي دلالة حجم متابعة الرأي العام العربي ودلائل تأثيرها في موقف الشعوب وكذلك ما تعرضت له قطر من عروض إغراء وتهديد في مسيرتها التأسيسية للجزيرة من عرض مادي مفتوح وضخم أسطوري لشراء الجزيرة إلى إدراج الرئيس بوش مقر الجزيرة الجغرافي في قطر كهدف عسكري للقوات الأميركية عند احتلال العراق, وهي جملة تختصر كيف أن هذا المشروع، الذي وإن كان يدار مستقلاً عن السلطة التنفيذية في قطر إلا أنه كان رهانا، ثبّت قاعدة قدرة الخليج العربي وشخصياته على التأثير والبناء المواجه لآلة الغرب الإعلامية الشرسة والعربية الرسمية المستبدة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.