قراءة في التعديل الوزاري بمصر

قراءة في التعديل الوزاري بمصر

 undefined

 

بعد أن تخلص الرئيس المصري محمد مرسي -الذي جاءت به أول انتخابات رئاسية مصرية عقب ثورة 25 يناير- من المجلس العسكري وسطوته، واسترد كثيرا من سلطات الرئيس المختطفة، بدا أنه يسعى على المستوى السياسي والإداري إلى استكمال مؤسسات الدولة، واقتلاع بقايا النظام السابق من هيكلها المتورم بهم، ومحاكمة رموز نظام مبارك التي أسهمت في قتل الثوار، وفي كثير من قضايا الفساد السياسي والاقتصادي قبل الثورة وأثناءها.

كانت الأمور – في صورتها الظاهرة على الأقل- تتجه نحو تحقيق هدف النظام الجديد، خاصة بعد الخلاص من المجلس العسكري الذي خلف مبارك في إدارة شؤون البلاد في أغسطس/آب 2012، وإقرارِ الدستور في ديسمبر/كانون الأول 2012 باستفتاء شعبي محمي بإشراف قضائي كامل، وتحديد موعد لانتخابات البرلمان.

ثمة فريقان متضرران من نجاح النظام الجديد, الأول هو المعارضة التي أحست وقع أقدام السيطرة الإسلامية والإخوانية تحديدا على مفاصل الدولة، أما الثاني فهو فلول النظام السابق

وبدا أن هناك فريقين يتضرران بشدة من نجاح النظام في تحقيق أهدافه هذه، وهما:
– المعارضة التي أحست وقع أقدام السيطرة الإسلامية –والإخوانية تحديدا- على مفاصل الدولة، وأن الرئيس قادم بأيديولوجيته وجماعته لسد الطريق أمام الآخرين وإضعاف فرص تداول الحكم بين أطياف السياسة المصرية.

– أما الفريق الثاني فهو فلول النظام السابق ومَن مثّل له عهدُ مبارك مغنما وفرصة لتحقيق أغراضه وأهدافه الفكرية أو المصلحية بتعيين أقاربه في مؤسسات الدولة وأجهزتها بلا ضوابط أو شروط، أو أتيح له –في ظل الفساد المستشري– أن يعقد مع النظام وأركانه صفقات يلبي فيها مطالبه المخالفة للقوانين والدستور مقابل الحصول على أرض الدولة وأموالها ومنافعها بدون حق.

تأكد لدى الفريق الأول أن خطط الرئيس الجديد تهدد مستقبله السياسي برمته، وتُلاشي فرصه في المشاركة في السلطة وصناعة السياسة المصرية مباشرة (يلاحظ أن أكثر أقطاب المعارضة في مصر هم من كبار السن!) فوقع اختيارهم على سياسة العرقلة والتشويه والتشويش الإعلامي وصناعة العقبات في طريق الرئيس الذي كان وأعوانه –أصلا- في حاجة إلى وقت لاكتساب خبرة في إدارة الشأن المصري المعقد في حقيقته.

ولعل سخونة المواجهة التي قابلت بها المعارضة نظام الحكم الجديد في مصر قد سرّعت في إكسابه خبرة تزداد يوما بعد يوم، وهو ما يمكن أن نكتشفه بمقارنة بسيطة بين قرارات الرئيس مرسي وحواراته الإعلامية والشخصيات التي يختارها لشغل مناصب الدولة الآن وبين قراراته وحواراته ورجالاته في بداية حكمه لمصر.

وأما الفريق الثاني المتمثل في رجال عصر مبارك، فقد بدأ يحس بسكين العقاب القانوني تقترب من رقبته، خاصة في قضايا قتل الثوار، والاستيلاء على أرض الدولة، وإجراء الصفقات الاقتصادية المشبوهة (قضية تصدير الغاز إلى إسرائيل وقضية اللوحات المعدنية وقضية التلاعب بالبورصة، وغيرها) والإدارة العوجاء لمؤسسات الدولة، وغيرها.

إلى هنا لا يبدو أنني أقدم تحليلا يمكن أن نختلف عليه كثيرا، ولن أقول جديدا ولا مستغربا حين أشفع ما سبق بما نطق به بعض أقطاب المعارضة نفسها -وبصراحة تامة– في مقال له بإحدى الصحف الغربية (فايننشال تايمز) من أنهم يقفون في جبهة واحدة مع الأحزاب غير الإسلامية وأعضاء الحزب الوطني المنحل ضد المشروع الإسلامي لمرسي.

لكن على أي شيء يراهن طرفا المعادلة السياسية المصرية في عهد مرسي: النظام الجديد، والتحالف المضاد بين المعارضة ورموز العهد السابق؟

عقب الثورة عانت مصر كثيرا من الاضطراب الأمني والسياسي، ولم يكن تنحي مبارك انتصارا نهائيا للشعب على الجلادين –كما كان مأمولا- بل كان بداية لمجموعة من المواجهات الساخنة التي بلغت درجة خطيرة في بعض الأحيان كادت تعصف بالبلاد كلية، مثل أزمة بور سعيد، وحصار قصر الاتحادية، ومواجهات العباسية والتحرير ومحمد محمود، وغيرها.
 
التغيير الوزاري تكيف من النظام الحاكم مع واقع التمديد الاضطراري للفترة الانتقالية، والذي نجحت فيه المعارضة بعد أن عرقلت استكمال مؤسسات الدولة
لم يكن هذا غريبا ولا جديدا على دولة ترسخ فيها الفساد بكل ألوانه، وتشعب وتعمق في أوصالها طوال عقود من الزمن، إذ من الطبيعي أن تقاوم البؤر والخلايا الفاسدة الموت وأسبابه، لكن الذي لفت النظر في مسار الثورة المصرية خلال هذه الفترة هو التحالف المشار إليه آنفا بين بعض أطياف المعارضة وبقايا النظام السابق، إذ استقوى كلاهما بالآخر في مواجهة النظام الذي أفرزته أول انتخابات أعقبت الثورة المصرية.
 
وقد أصبح الرهان بين النظام الجديد وخصومه على الفترة الانتقالية التي لم يستطع فيها النظام عبور الأزمات الرئيسية لمصر، وإن كان قد أنجز إنجازات ملحوظة في بعضها، وفي الوقت نفسه لم تكف أساليب المعارضة المتنوعة لإسقاط النظام خلال هذه الفترة، فعمدت المعارضة إلى تمديد الفترة أكثر طمعا في أن تنجح الأزمات الخانقة في تحقيق أملها المنشود.

وهنا نستطيع أن نفهم التغيير الوزاري الجديد في مصر على أنه تكيف من النظام الحاكم مع واقع التمديد الاضطراري للفترة الانتقالية، والذي نجحت فيه المعارضة بعد أن عرقلت استكمال مؤسسات الدولة بانتخاب البرلمان وإقرار قانون السلطة القضائية.

لقد تيقن النظام من أن الوزارات التي تحقق إنجازا يحسه المواطن في حياته اليومية هو الرصيد الأكبر الذي لا يساعده فقط على تقصير أمد الفترة الانتقالية باضطراباتها المتنوعة، ولكنه أيضًا يرفع من أسهمه الجماهيرية، ويخفض من أسهم المعارضة التي توظف العنف في خلافاتها مع النظام، والمعارضة الأخرى التي اكتفت بالكلام والنقد لكل سياسات الحكومة والرئيس.

حقيقة كان الزمن –خلال الفترة الانتقالية التي ما زالت تعيشها مصر- جزءا من علاج مشكلة الأجهزة الأمنية، وذلك بسيطرة الرئيس على جانب كبير منها، وهو ما ساعده عليه خضوعها المباشر للسلطة التنفيذية باعتبارها أداة من أدواتها، فكان انكشاف أي فعل يناقض مشروع الرئيس أو يسعى إلى تعويقه من قبل هذه الأجهزة كفيلا بالإطاحة بأي رأس فيها مهما يكن حجمه (راجع التغيير الوزاري السابق الذي أطاح بوزير الداخلية أحمد جمال الدين).

ومن جهة أخرى نجح وزير التموين والتجارة الداخلية باسم عودة في مقاومة الفساد المتعلق بمنظومات الخبز والدقيق والقمح، مما أثار غيرة المعارضة من الوزير الشاب، ورفع أسهم الحكومة عند رجل الشارع العادي، الذي يهمه بالدرجة الأولى استقرار حياته وتوفر مطالبه وضرورياته.

وبعبارات محددة حول طبيعة التعديل الوزاري الجديد، فإن بقاء هشام قنديل في رئاسة الوزارة –على الرغم من النقد الشديد الموجه إليه والمطالب المتكررة بتغييره حتى من بعض حلفاء النظام– هو إصرار على الأسلوب الهادئ الذي يتبعه الرئيس، وعدم الخضوع لما يراه إملاءات من المعارضة التي قد تستهدف وجود شخصية منها في هذا المنصب (رئيس الوزراء) ما أتاحه له الدستور الجديد من سلطات كبيرة ومستقلة عن سلطات الرئيس.

وأما الدفع بالمستشار حاتم بجاتو (رئيس هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا) إلى وزارة الشؤون البرلمانية، فقد أحدث ارتباكا كبيرا في المحكمة الدستورية وفي مؤسسة القضاء المناوئة للرئيس عموما، إذ أن اختيار رئيس هيئة المفوضين من سلطات رئيس الجمهورية، وهو ما يمثل رصيدا للرئيس ووسيلة ضغط في حواره القائم مع القضاة.

الدفع بالمستشار حاتم بجاتو إلى وزارة الشؤون البرلمانية أحدث ارتباكا كبيرا بالمحكمة الدستورية ومؤسسة القضاء المناوئة للرئيس عموما

ويدعم هذا الاختيار في دفع القضاة إلى تسوية خلافاتهم مع النظام بصورة تمنع تغولهم على السلطة التشريعية والتنفيذية –كما يفهمها النظام– اختيار المستشار أحمد سليمان أحد القضاة الذين عارضوا فيما سبق نظام مبارك بقوة، ويميل إلى احترام استقلال القضاء مع ضرورة الضرب بيد قوية على أي فساد يظهر فيه.

ولا يخفى بعد ما في الدفع بوجوه جديدة لضبط الاستثمار والزراعة والبترول وغير ذلك من المجالات التي عانت من الخلل خلال الفترة الماضية، وتتعلق كلها بالاقتصاد الذي يمثل أكثر مجالات المعاناة المصرية إلى جانب الأمن، مع ملاحظة أن القنوات الفضائية الحرة –التي عانى النظام من كثير مما تبثه- تخضع لوزارة الاستثمار.

مهما يكن، فإن التعديل الوزاري الأخير في مصر يشبه حراثة الأرض وتمهيدها للوزارة القادمة، وربما العهد القادم برمته، بعبور المرحلة الانتقالية بنجاح، ليس في مجال الاقتصاد وحده، ولكن حتى في مجالات الثقافة والتعليم والإعلام، والتي تصنع عقل المواطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.