عذر فرنسا في رفض الاعتذار للجزائر

عذر فرنسا في رفض الاعتذار للجزائر

undefined

عندما زار الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الجزائر صيف عام 2007 سألته الصحافة هناك عن السر في رفض فرنسا الاعتذار للجزائر عما ارتكبته فيها من فظاعات طيلة أكثر من 130 سنة من الاستعمار الاستيطاني, وعن الغاية من إلحاحه توقيع "معاهدة صداقة" مع الجزائر دونما اكتراث بمطالبة هذه الأخيرة بالاعتذار.

رد بالمباشر الصريح -وهو ببلد المليون شهيد- "الصفحات القاتمة, وكذلك الآلام وأوجه الظلم, كانت كثيرة خلال السنوات الـ132 التي قضتها فرنسا في الجزائر..، أنا مع الاعتراف بالوقائع, وليس مع الندامة. الندامة مفهوم ديني, ولا مكانة لها في العلاقات بين الدول…، لم آت هنا لجرح المشاعر, ولا لطلب الصفح…، فتلك أحداث تاريخية, والتاريخ جزء من الماضي. أما الآن, فلنبن المستقبل". في إشارة واضحة منه إلى مشروع "الاتحاد المتوسطي" الذي نادى به خلال حملته الانتخابية, وسارع إلى محاولة تجسيده بزيارة إحدى كبريات دول جنوب المتوسط, محذرا في سياقه من "اتخاذ أحداث الماضي ذريعة لإعاقة تنمية العلاقات بين البلدين".

لم يتحرج الجزائريون كثيرا من تصريحات الرجل, ولا كانوا من المراهنين عليه كثيرا لتحقيق مطلبهم في تحصيل الاعتذار:

– فهم يعلمون جيدا أن الرجل هو الذي صاغ -عندما كان وزيرا للداخلية- قانون "تمجيد الماضي الاستعماري لفرنسا" الذي اعتمدته جمعية وطنية يمينية التوجه في فبراير/شباط من عام 2005, وكاد يصدر في الجريدة الرسمية ليصبح نافذا, لولا اعتراض الرئيس شيراك على توقيعه تحت ضغط حسابات اقتصادية وجيوسياسية, ربما لم يستحضرها نواب الجمعية الوطنية وهم يعمدون لسن القانون إياه.

-وهم يعلمون مسبقا أن الرجل هو الذي كان خلف قمع احتجاجات المهاجرين (وضمنهم جزائريون بالأصل كثر) في ضواحي باريس, التي بات الرئيس ساركوزي في أعقابها العدو الأول لقاطنة ذات الضواحي والأحياء, والشخص غير المرغوب فيه بين ظهرانيهم, بل والمناهض لمصالحهم بامتياز, لا سيما وهو الثاوي خلف قوانين في الهجرة رحل بموجبها الآلاف, وضيق على الآلاف, وعمد بمقتضاها إلى مطاردة الآلاف في حلهم كما في ترحالهم.

– وهم يعلمون -فضلا عن كل هذا وذاك- أن الرجل هو صاحب مقولة "إن الأحفاد لا يعتذرون عما فعله الأجداد", ومقولة إن محاولة "استنطاق التاريخ من جديد سينتج عنها مزيد من سوء الفهم", كما لو أن الاعتراف بالذنب -أيا ما تكون طبيعة هذا الذنب- هو مدعاة لسوء الفهم, ومدخلا لعدم التفاهم.

كل العالم "تسابق" (بعد الحرب العالمية الثانية) لتقديم العذر لليهود, وطلب صفحهم, وإبداء الاستعداد لتعويضهم إن ثبت في دولة ما أنها "ظلمتهم" أو "أهانتهم"

أزعم أن الجزائريين يعلمون ذلك جيدا ويدركونه. وأزعم أيضا أنهم لم يبنوا موقفهم جزافا, ولا كانوا من السباقين في ذلك. إنهم بنوا موقفهم في المطالبة بالاعتذار على "حالات" قامت في التاريخ القديم, وأخريات قائمات من مدد غير بعيدة:

– فهم بنوا مطلبهم على سابقة اعتذار الكنيسة المسيحية لليهود, جراء ما لحقهم من "ظلم" و"مطاردة", عندما عاشوا أزمانا غابرة في ظلها, أو حاولوا معايشتها زمنَ كان للكنيسة إياها في خضمه القول الفصل في أمور الدين والدنيا سواء بسواء.

لم يقل البابا -وهو يعتذر لهم- إنه يتنكر لسلوك من سبقه من بابوات, ولا أدار ظهره للتاريخ ("خدمة للمستقبل") بالتستر خلف مسوغة "حوار الأديان" مثلا, أو الادعاء بأن التاريخ ماض محض, أو القول بأن ما تم اعتماده إنما تم في زمن كان محكوما بسياق وظروف ما انتفت اليوم, ولم تعد لها من قائمة تستوجب الصفح والاعتذار. إنه اعتذر جهارة ولم يتنكر, فقضي الأمر بالجملة والتفصيل.

– وهم (الجزائريين أقصد) بنوا موقفهم على سابقة اعتذار ألمانيا لفرنسا ذاتها عما قامت به النازية عندما استباح الزعيم الألماني أدولف هتلر السيادة الفرنسية في أربعينيات القرن الماضي واحتل فرنسا, وارتكب فيها وبين ظهرانيها جرائم فظيعة وممارسات مشينة, وحولها إلى مستعمرة محض, تماما كما كانت فرنسا تفعل بالعديد من مستعمراتها في أفريقيا وآسيا وجزر المحيط الهادئ وبغيرها.

– وهم بنوا مطلبهم أيضا على اعتذار فرنسا ذاتها عما ارتكبه مواطنوها (زمن حكومة فيشي المتواطئة مع النازية) بحق اليهود, وذهبت لدرجة سن قانون يعاقب بالسجن والغرامة كل من يتجرأ على التشكيك في المحرقة, أو المزايدة على ما تعرض له اليهود منذ نصف قرن من الزمن. لا بل وذهبت لحد دفع تعويضات لهؤلاء، الأموات منهم والأحياء على حد سواء- بعدما قدمت اعتذارا شاملا لكل يهود العالم.

لم يقتصر الأمر على فرنسا, بل ذهب لدرجة أن العالم -كل العالم- "تسابق" في حينه لتقديم العذر لليهود, وطلب صفحهم, وإبداء الاستعداد لتعويضهم إن ثبت في دولة ما أنها "ظلمتهم" أو "أهانتهم", أو "قصرت في التعامل مع مواطنتهم" باعتبارها من درجة دنيا مثلا.

لم تتبرأ الكنيسة من سلوك قادتها السابقين, ولم تتبرأ ألمانيا ولا العالم مما اقترف بحق اليهود تحت هذا المسوغ أو ذاك, بل أقروا جميعا بالأفعال, وتحملوا وزر ذلك كاملا, و"اغتسلوا من الدناسة" بتقديم الاعتذار. إلا فرنسا, فقد كابرت ورفضت تقديم الاعتذار, لكنها مع ذلك لم تتنكر للوقائع, وقائع ما قامت به في الجزائر. وعليه فقد اكتفت بالاعتراف في خطوة محتشمة من لدن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. ففي زيارة له للجزائر -أواخر عام 2012- صرح الرئيس الفرنسي "الجديد", ولم يمض على تنصيبه إلا أشهر قلائل, صرح بأنه يعترف بـ"المعاناة" التي تسبب فيها الاستعمار الفرنسي للشعب الجزائري.

وقال -في خطاب أمام أعضاء البرلمان الجزائري- "أعترف هنا بالمعاناة التي تسبب فيها الاستعمار للشعب الجزائري…، لا سيما أحداث سطيف وقالمة وخراطة التي ستبقى راسخة في ذاكرة الجزائريين وضميرهم". وأوضح أنه "خلال 132 سنة (1830-1962) خضعت الجزائر لنظام ظالم ووحشي…، وهذا النظام يحمل اسما هو الاستعمار".

وقال الرئيس الفرنسي إنه في الثامن من مايو/أيار 1945 بسطيف (300 كلم شرق الجزائر, حيث قتل الجيش الفرنسي 45 ألف جزائري, مفجرا بذلك حرب التحرير الوطنية التي انطلقت عام 1954) "عندما كان العالم ينتصر على البربرية, تخلت فرنسا عن مبادئها العالمية".

لو كانت الجزائر دولة متقدمة, وكرامة مواطنيها مصانة, والعدل من بين ظهرانيها مستتب, لما كان لرئيسي فرنسا أن يتمنعا في الاعتذار لضحاياها

وأضاف أنه "مهما كانت الأحداث مؤلمة, فلا بد أن نفصح عنها…، يجب أن نقول هذه الحقيقة لكل من يريد, وخاصة الشباب", الذين يشكلون نصف عدد السكان الجزائريين "لتعيش الصداقة بين البلدين".

وتابع "نحن نحترم الذاكرة، كل الذاكرة…، ومن واجبنا أن نقول الحقيقة حول العنف والظلم والمجازر والتعذيب" التي لحقت بالجزائريين لما يناهز قرنا ونصفا من الزمن.

نحن هنا بإزاء رئيسين: الأول -وهو يميني المذهب والخلفية- يتلكأ في الاعتراف بالوقائع ناهيك عن الاعتذار عنها, والثاني -وهو يساري العقيدة والمعتقد- يعترف بذات الوقائع, لكنه يتلكأ في الاعتذار عنها.

ما السر إذن في تمنع الرئيسين في تقديم الاعتذار للجزائر, ومن ثمة للعديد مما سواها من دول وشعوب أخرى في أفريقيا وآسيا وغيرها؟ ما الذي يضير فرنسا إن هي اعتذرت لدول وبلدان تم تقتيل أبنائها بالجملة, وأهينت وسلبت ثرواتها, وديس على لغتها وثقافتها بالأقدام…، بل واعتبرت (في حالة الجزائر مثلا) جزءا من الإمبراطورية الفرنسية, دونما مسوغ قانوني, أو رادع أخلاقي، أو ما سوى ذلك؟

يبدو لنا أن السر في تمنع الرئيسين في الاعتذار متأتٍ من ثلاثة معطيات أساسية قد لا نلمسها بالمادي المحسوس, لكننا نستشفها من حوصلة ما ترتب عن عقود "الاستقلال السياسي" للجزائر وباقي بلدان المغرب العربي:

– فهما (الرئيسين الفرنسيين أقصد) يدركان "حجم الحنين", حنين الجزائريين -مثل المغاربة, وغيرهم من مواطني دول أفريقيا- "لأيام فرنسا الجميلة"، حيث شيدت طيلتها الطرقات والمسالك, وبنيت المدارس والمستشفيات وسكك الحديد, وعصرنت المعامل والضيعات الفلاحية, وأرسيت مقومات الدولة العصرية والمؤسسات, وأقيم العدل بين الناس..، وقس على ذلك.

– وهما يدركان ذلك جيدا, ليس بالقياس إلى ما "أنجزته" فرنسا الاستعمارية في زمنها, ولكن بالقياس إلى نخب "مرحلة الاستقلال", التي برعت ونجحت, فدمرت وخربت وأهانت, وصادرت الحقوق, ومركزت الثروة والسلطة بين يديها…، وتركت الجماهير الواسعة حافية عارية, لسان حالها يقول: "عدل الغريب, ولا ظلم القريب".

– ثم هما يدركان جيدا حجم تذمر الجزائريين (مثل المغاربة وسواهم) ليس فقط احتكاما إلى أحجام من يصطفون أمام القنصليات والسفارات الفرنسية رجاء الحصول على تأشيرة للرحيل, بل وأيضا بتهافت النخبة ضمنهم للحصول على الجنسية الفرنسية, وتماهي ذات النخبة مع النموذج الفرنسي لغة وثقافة واستهلاكا وسلوكا…، بل ومراهنتها على العيش بين ظهراني الدولة الفرنسية, في حال انقلبت الأمور "ببلدانها الأصلية", أو حصل بها ما لا تحمد عقباه.

– وهما يدركان -فضلا عن كل هذا وذاك- أن من الجماهير -وكذلك النخب في الجزائر وغيرها من دول المغرب العربي ومن أفريقيا- من يرجو عودة "الزمن الفرنسي", حيث كان بعض من العدل مضمونا للأولين, وبعض من الحماية موفرا للثانين…، "عوض" ما هو قائم من ظلم وقهر بالنسبة للبعض, وما هو سائد من خوف وتخوف بالنسبة للبعض الآخر.

الجزائريون -مثل المغاربة وسواهم- لا يعتبرون الاعتذار مهانة لفرنسا, ولا هم من قبيل من يطالب بالتعويض, إنهم إنما يطلبون اعتذار الدولة الفرنسية لأنهم يرون في ذلك فعلا حضاريا وأخلاقيا وقانونيا وإنسانيا

وعلى هذا الأساس, فما تفوه به الرئيسان للصحافة وأمام البرلمان الجزائري, وما أدركاه من تذمر جماهيري لدى الجزائريين جراء ما ألحقته بهم نخب الاستقلال, إنما يؤكد لهما انطباعا لطالما لازمهما في أكثر من مناسبة, عن "المهمة الحضارية" التي ثوت خلف قرار استيطان الجزائر, واحتلال ما سواها من دول وبلدان.

ويؤكد -مقابل ذلك- بديهية أن الاعتذار ذاته لو كان له أن يتم فهو خاضع لموازين قوة. فلو كانت الجزائر دولة متقدمة, وكرامة مواطنيها مصانة, والعدل بين ظهرانيها مستتبا, لما كان لرئيسيْ فرنسا أن يتمنعا في الاعتذار لضحاياها. أما والأمر غير ذلك, فإن الرئيسين إياهما غير مضطرين ولا مجبرين على تقديم ذات الاعتذار.

الجزائريون -مثل المغاربة وسواهم- متذمرون غاية التذمر مما فعلته بهم "نخب الاستقلال", ويتطلعون جهارة للخلاص من واقع حالهم, حتى وإن تطلب منهم ذلك الارتماء في أحضان الغريم. لكنهم مع ذلك ذوو كرامة وعنفوان دفعاهم ولا يزالان يدفعانهم لطلب صفح رسمي عن سلوك استيطان (احتلالا أو حماية) أهان البشر والحجر قسرا ودون وجه حق.

إنهم لا يعتبرون الاعتذار مهانة لفرنسا, ولا هم من قبيل من يطالب بالتعويض, إنهم إنما يطلبون اعتذار الدولة الفرنسية (وليس شخص ساركوزي أو هولاند)، لأنهم يرون في ذلك فعلا حضاريا وأخلاقيا وقانونيا وإنسانيا, قبل أن يكون سياسيا أو اقتصاديا. ويعتبرون أنه من غير الممكن إعمال البراغماتية أو النفعية أو المصلحة الآنية لجعل الحاضر يختزل الماضي, ويتجاهله, ولا يستحضر ترسباته.

ما قامت به فرنسا في الجزائر وفي غيرها لم يكن فعلا شخصيا ذاتيا, ولا كان متأتيا من سياسة فرد أو جماعة أو ما سواهما. ما قامت به كان فعلا منظما ومخططا, ثوت خلفه دولة استيطانية استباحت الجزائر أرضا وشعبا ولغة وثقافة ودينا وقيما.

وعليه, فإن مطلب الاعتذار يبقى بداية وبالمحصلة موجها للدولة الفرنسية, ولا ينال إلا عَرَضاً الشخصَ المتربع على قمة هرم ذات الدولة, من اليمين كان أم من اليسار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.