المرحلة الانتقالية في تونس أمام مفترق طرق

المرحلة الانتقالية في تونس أمام مفترق طرق - الكاتب: عادل لطيفي
undefined

تشهد تونس منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي جدلا حادا بين أطراف الحكومة -وعلى رأسها حركة النهضة- من جهة، ثم مختلف مكونات المعارضة من جهة ثانية. وتتمثل خلفية هذا النقاش في الوضع العام الذي وصلته البلاد اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، مما طرح تساؤلا حول مصير العملية الانتقالية برمتها، وبالتالي حول مصداقية الشرعية التي أوصلت إلى هذه الحال.

ومن جانبها، تدافع حركة النهضة عن تجربتها، وتعتبر خطاب المعارضة تهويلا إعلاميا لا أكثر. غير أن اغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد أوصل الوضع إلى مفترق طرق حاسم، يستدعي إيجاد حل سياسي عاجل ينقذ البلاد من مخاطر عديدة.

جدال وتجاذب
ترى أطراف المعارضة -على تنوع تشكيلاتها، والتي من أبرزها تحالف الاتحاد من أجل تونس (تحالف ليبرالي بقيادة نداء تونس) والجبهة الشعبية (تحالف يساري وقومي عربي)- أن الحكومة الانتقالية قد فشلت في تحقيق استحقاقات الثورة، وفي قيادة المرحلة الانتقالية نحو الاستقرار النهائي. وتستدل هذه الأطراف على ذلك بما يشهده الوضع العام من تأزم.

فعلى المستوى السياسي تجاوزت مدة عمل المجلس التأسيسي سنة، وهي مدة العمل القصوى كما اتفقت عليه أغلب الأحزاب، ولكن دون إحراز أي تقدم يذكر. فالدستور لم ير النور بعد، وحتى المسودة المتداولة منه لا ترتقي في بعض جوانبها إلى تطلعات الشعب. كما أنه لم يتم بعد ضبط أي موعد للاستحقاق الانتخابي المقبل، وحتى التواريخ التي قدمت سابقا وقع تجاوزها.

على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ترى المعارضة -وخاصة منها الجبهة الشعبية- أنه لا توجد رؤية واضحة لوضع إجراءات اجتماعية عاجلة تعطي أملا للمواطنين وخاصة في الجهات الداخلية

على المستوى السياسي كذلك، أصبح مشكل الأمن العام مطروحا بحدة إلى جانب ملف العنف السياسي. إذ لا يخفى على التونسيين أن الحدود أصبحت ممرا للسلاح، كما أن شباب البلاد بدأ ينخرط بشكل جماعي في الحركات الجهادية كما تثبته التقارير الصحفية عن حادثة عين أميناس بالجزائر، أو عن المجموعات الجهادية في شمال مالي وفي سوريا.

ملف العنف السياسي كان مطروحا منذ سنة، لكنه وصل خطا ينذر بالانزلاق نحو الانتشار مع مقتل عنصر من حزب نداء تونس (لطفي نقض) في جنوب البلاد، وخاصة بعد اغتيال شكري بلعيد.

أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فترى المعارضة -وخاصة منها الجبهة الشعبية- أنه لا توجد رؤية واضحة لوضع إجراءات اجتماعية عاجلة تعطي أملا للمواطنين وخاصة في الجهات الداخلية. وهي ترى أن هذا الفشل هو الذي يفسر حركات الاحتجاج الاجتماعي في ولايات الداخل، والتي وصلت ذروتها في سيدي بوزيد وفي سليانة.

مقابل هذه الاتهامات ترد حركة النهضة وشريكها في الحكم حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (حزب الرئيس المرزوقي) بأن هناك تضخيما مقصودا يهدف إلى تأليب الرأي العام الداخلي والدولي ضد حركة النهضة وضد تجربة الترويكا.

وتضيف الحكومة أن الإعلام هو إحدى الوسائل المستعملة لتحقيق هذا الهدف، ومن ثمة تأتي مطالبتها بتطهير هذا القطاع. أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فتقول أطراف الحكومة إن الأرقام تثبت وجود تحسن ملموس تعكسه المائة ألف منصب شغل التي تم استحداثها. في حين ترد الحكومة على بطء العملية الانتقالية سياسيا بأن المجلس التأسيسي هو سيد نفسه، وتتهم المعارضة بالانقلاب على الشرعية بمساعدة أزلام النظام السابق.

مسؤولية سياسية وأخلاقية للنهضة
في ظل هذا التجاذب أعتقد أنه على قيادة حركة النهضة أن ترى الأشياء بواقعية أكبر وألا تتبع سياسة الهروب إلى الأمام، في ظل وضع تتفق كل الأحزاب وكل قوى المجتمع المدني والمتتبعين الدوليين على أنه أصبح ينذر بالخطر.

وهذا الموقف لم يعد يقتصر على المعارضة فقط، بل ورد كذلك على لسان قياديين داخل الحزب مثل عبد الفتاح مورو. أضف إلى ذلك أن مبادرة رئيس الحكومة -وهو الأمين العام لحزب حركة النهضة- لتكوين حكومة تكنوقراط هي مبنية على إقرار ضمني بالفشل، وبضرورة إيجاد حلول توافقية في ظل فقدان الشرعية الانتخابية لمصداقيتها.

على المستوى السياسي كان من المفروض أن تكون المهمة الأساسية للمرحلة الانتقالية هي إيجاد الأطر المؤسساتية والقانونية الضامنة للانتقال نحو الاستقرار السياسي النهائي، وبموازاة مع ذلك تسيير دواليب الدولة والحكم

لا حاجة لنا إذن في أن نعود إلى دقائق الوضع العام كي نرى إن كان هناك فشل أم لا، فهذا أمر بين. السؤال الذي يطرح نفسه هو مدى مسؤولية حكومة الترويكا -وخاصة حركة النهضة- عن هذا الوضع.

من وجهة نظر مبدئية، على قيادات الحركة أن تقتنع بأن الحكم لا يتلخص فقط في بعد الشرعية، بل هناك بعد آخر هو المسؤولية التسييرية، وهي الغاية النهائية من العملية السياسية. فالشرعية ليست هدفا في حد ذاتها.

وفي هذا الإطار، يجب أن تتحمل حكومة الترويكا المسؤولية السياسية والأخلاقية عما يحدث عوض أن تلقي التهم على المعارضة وعلى الإعلام الذي أصبح شماعتها الأولى. من يتحمل المسؤولية هو من كُلف بالإصلاح، ومن سلمت له مقاليد الحكم والدولة من أجل ذلك، وليست المعارضة، وهذا دارج في كل الديمقراطيات، حيث يستقيل وزير النقل مثلا لمجرد حصول حادث مروري لا دخل مباشرا للوزارة فيه، وهو فقط من باب تحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية.

بالإضافة إلى هذا المستوى المبدئي هناك معطيات ملموسة تتحمل من خلالها الترويكا -وخاصة حركة النهضة- المسؤولية الأولى. وهذا واضح خاصة على المستوى السياسي والأمني والإداري. فعلى المستوى السياسي كان من المفروض أن تكون المهمة الأساسية للمرحلة الانتقالية الشرعية هي إيجاد الأطر المؤسساتية والقانونية الضامنة للانتقال نحو الاستقرار السياسي النهائي، وبموازاة مع ذلك تسيير دواليب الدولة والحكم.

وهذا يعني كتابة دستور جديد وقانون انتخابي، وإيجاد إطار للعدالة الانتقالية، وتكوين الهيئة التعديلية للإعلام، وهيئة مستقلة للقضاء، وأخرى للانتخابات. وللأسف فإن كل هذه المشاريع لم تر النور بشكل نهائي بعد مرور أكثر من عام على تولي الحكومة والمجلس التأسيسي لمهامهم. والغريب في الأمر أن جانب التعطيل يتأتى عادة من الحكومة التي غالبا ما تقدم مشاريع قوانين وهيئات تتعارض في نقاطها الأساسية مع ما يقترحه المجتمع المدني أو أهل الميدان والاختصاص. ثم تمر العملية داخل المجلس التأسيسي حيث يتم تعويم المشاريع بسبب هيمنة كتلة النهضة وحلفائها.

هذا ما حصل مثلا لمشاريع هيئة القضاء وهيئة الإعلام وهيئة الانتخابات، حيث لا توفر مقترحات الحكومة أية ضمانة لاستقلالها المالي والإداري. وإذا أضفنا إلى ذلك عدم جاهزية الدستور الذي وردت فيه نقاط لا تضمن الحريات والحقوق بشكل كاف، نفهم الضجر الذي أصبح يحسه المواطن العادي، والذي نلحظه بشكل واضح من خلال استطلاعات الرأي. فالمجلس التأسيسي يأتي كآخر مؤسسة يثق فيها التونسيون (المرتبة الأولى للمؤسسة العسكرية).

على المستوى الأمني، بلغ الوضع حدا جعل البعض يشعر وكأن التسيب أصبح عملية مقصودة، أو أنه لا توجد جدية كافية في طرح هذا الملف. فقد ثبت بالفعل أن هناك مراكز تدريب لمجموعات مسلحة تمكنت مؤخرا من قتل عون من الحرس الوطني في منطقة القصرين. والحال أن الحكومة كانت تعتبر مثل هذه الأنباء تشويها لصورة البلاد.

يمكن القول إن حركة النهضة وقعت في فخ السلطة الانتقالية، وقد أضر أداؤها بشكل واضح بتجربة العمل السياسي العلني لحزب إسلامي في السلطة. ذلك أن منطق الغنيمة الذي تعاملت به مع الحكم جعلها في مواجهة مجتمع ارتفع سقف مطالبه بعد الثورة

غير أن أشد ما في المسألة من خطورة هو وصول العنف السياسي حدا غير مسبوق في تاريخ تونس المعاصر. فاغتيال المناضل شكري بلعيد جاء في الواقع في خضم جو من الشحن السياسي ضد شخصه، وضد أحزاب المعارضة من طرف مسؤولين في الحكم ومن طرف أئمة مساجد.

في هذا الإطار، مثلت رعاية حزب النهضة ما يسمى رابطات حماية الثورة -التي تستهدف المعارضة وأنشطتها- قرينة ضدها لتحميلها مسؤولية استهداف الخصوم السياسيين. هذا بالإضافة إلى قرائن أخرى، مثل أن أعمال التخريب التي تقوم بها مجموعات مجهولة لا تظهر إلا عندما تنظم المعارضة أو قوى أخرى من المجتمع المدني تحركاتها، في حين تختفي فجأة عندما يتعلق الأمر بتحرك لحركة النهضة أو لحلفائها.

ربما نضيف إلى ذلك معلومات أوردتها أغلب وسائل الإعلام التونسية وصحفيون معروفون بنزاهتهم وبنضالهم زمن بن علي، والتي تفيد بوجود جهاز أمني مواز في وزارة الداخلية، يتعامل مع جهاز قضائي تم انتقاؤه، ويتم التحكم فيهما في إطار حزبي وليس في إطار السير المعهود لمؤسسة الدولة.

ربما كان الرئيس المرزوقي قد لمح إلى ذلك عندما اتهم حليفه حركة النهضة بأنها تغولت في مفاصل الدولة. هكذا نفهم اشتراط كل أحزاب المعارضة حيادية الوزارات السيادية، في حين تتمسك بها حركة النهضة، وهو مربط الفرس في مجمل الأزمة السياسية اليوم في تونس.

مأزق السلطة والطريق إلى الخلاص
يمكن القول إن حركة النهضة وقعت في فخ السلطة الانتقالية، وقد أضر أداؤها بشكل واضح بتجربة العمل السياسي العلني لحزب إسلامي في السلطة. ذلك أن منطق الغنيمة الذي تعاملت به مع الحكم جعلها في مواجهة مجتمع ارتفع سقف مطالبه بعد الثورة.

فكرة الغنيمة هذه هي التي جعلت الحركة تولي كل اهتمامها للسيطرة على مفاصل الدولة، على حساب استحقاقات المرحلة الانتقالية ومطالب الشارع في الشغل وفي التنمية. وفي هذا السياق، مثل تباطؤ عمل المجلس التأسيسي وسيلة لربح الوقت لتحقيق هذا الهدف.

بموازاة مع ذلك، كان وصول إسلاميي النهضة إلى الحكم وفي ظرف وجيز نسبيا قد قلب المعادلة التي كانت سائدة، لكن دون أن تكون قيادتها مهيأة سياسيا وفكريا لذلك. فإن كانت معادلة الأمس تدور حول مواجهة دولة الاستبداد، فهي اليوم تدور حول مواجهة المجتمع ومطالبه.

ومما زاد في تعقيد الوضع أن تسيير الدولة تميز بالارتجالية وبالرداءة أحيانا، مع خلط بين مصالح الحزب ومصالح الدولة. ومن بين الأمثلة على ذلك، ما عرف بقضية الشيراتون التي تم مؤخرا تغيير القاضي المتعهد بها، أو ترقية وزير التعليم منصف بن سالم لنفسه إلى رتبة أستاذ تعليم عال بأثر رجعي يعود إلى سنة 1987، رغم أنه لم يكن مباشرا للتدريس منذ ذلك التاريخ.

هل من مخرج إذن من هذا المأزق السياسي؟ إن أول خطوة نحو الحل تتمثل في الاقتناع بأن الشرعية الانتخابية وحدها غير كافية، وهي ليست هدفا في حد ذاتها. هي مجرد وسيلة لتنظيم التداول على الشأن العام، هدفها النهائي تحقيق برامج ومنجزات على أرض الواقع. وهنا يكمن خلل حكومة الترويكا.

المطلوب اليوم هو العودة إلى الشرعية التوافقية التي تدعمها الشرعية الانتخابية المتمثلة في المجلس التأسيسي. أي أنه على الأحزاب -دون إقصاء- أن تتفق على حكومة مصغرة مهما كان اسمها، تكون مهمتها تسيير الشأن العام ثم التحضير للانتخابات بشكل عاجل.

وفي نفس الوقت، يتم حصر عمل المجلس التأسيسي في إنهاء الدستور وإعداد قانون انتخابي، وفي تركيز الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، كل ذلك بتواريخ مضبوطة. لكن هل ستقبل حركة النهضة بهذه الشروط التي تحد مجال مناورتها السياسية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.